لطالما هزأت بمن يخيفهم تقدّم السنين وتغيّر الملامح بالشيخوخة والهرم، بل وكنت لا اعترف بمبدأ المرآة في الحياة، أراها وكأنني لا أراها من شدة ثقتي بكل ملمح من ملامح وجهي، وبجمال شعر رأسي المتموج وغروري بعضلاتي المفـتولة.. لا أعلم ما أوقفني أمامها الآن؟! ربما تلاشي الثقة؟ أو لاكتشاف ما خربّه الدهر والعثور على الفوارق السبعة!!.
وها أنا ادقق بملامحي الآن.. خطوطٌ طويلة، تهدّل وتصبّغ ببشرتي الرقيقة التي كانوا يلاحقوني بسببها الفتيات في شبابي وينعتوني بذي البشرة المخملية!! كنت الرجل الوحيد الذي يتباهى بهذا الوسام بين أصدقائي والآن أرى بشرتي كـ خريطة تشمل كل بقاع العالم من شدة تشابك خطوطها وتعرجاتها!
خصلات بيضاء متفرقة بساحل شعري الأسود، لا زال مموجا وكثيفا ولكنه فقد صحته وبريقه! أما العيون، كم تغيرت وكأنها تبدلت بأعينٍ جديدة! شحوب، تجاعيد، موجٌ من الخطوط الرفيعة والدقيقة، شحوب وهالات.
تراجعت عن المرآة بخوف وكأن العالم بأكمله امسكني ورماني بقسوة! كم تغيرت ملامحي! أنا الشاب الملاحق من كل فتيات المنطقة، كيف هزمتني الشيخوخة هكذا؟ ولكن بسرعة وبعجلة! ليتني لم أتنازل عن عرش ثقتي واقف أمام هذه اللوحة العاكسة القاسية! ولكنها صريحة.. ربما أكثر الأشياء صراحة.. لا تكذب ولا تجامل ولا تجمّل الواقع لنرضى به!.
..
استجمعتُ قواي ووقفت أمامها مرة أخرى، علّني أتذكر أسباب شيخوخة بشرتي المخملية وشيب شعري المموج! بعينيّ الحزينة الهادئة ادقق التجاعيد، تحديداً تلك المحفورة تحت عينيّ.. ثلاثة خطوط عميقة أسفل كل عين، يلحقها موج من الخطوط الرفيعة في نهايتها.. تمعنت بأول خط، حاولت أن أتذكر أسبابه.. تراءت أمام عيني خليط من الذكريات والمحطات المختلفة "بين توديع ابدي لأحباب تعلقتُ بهم كثيراً وقسوة الحياة بين فينة وأخرى، مكر البشر، نوائب الدهر ومحنه أحياناً!"
ما أحزنني في هذه اللحظة هو أنني لم أواجه المحن واستخرج الفائدة منها بتدبّر وصلابة، بل كنت مسلّماً أمري لها لتدور بي وتعصرني كما المنشفة حتى تعلمني درساً جديداً، ولكن بطريقة قاسية ليتشكل وهنها كخطٍ قبيح تحت عيني! ليتني كنت اقوى.
حدّقت بالخط الثاني، رجعت بي الذاكرة الى سن السابعة والعشرين حين تخرجي من الجامعة بشهادة الدكتوراه.. أصبحتُ جراحا.. جراح قلب وشرايين، ما يعني أنني اقلّب قلوب البشر بيدي كدمية لا أخاف منها ولا أصاب بالرهبة.. كنتُ أرى عشرات من المرضى يفقدون الحياة امام عيني وبين يديّ.. رغم أنني كنت ابذل قصارى جهدي لأسعفهم وأعيدهم لساحة الحياة، ولكن ملك الموت كان اقهر مني بأخذهم، ما جعل تلك المشاهد تلّطخ ذاكرتي بدمويتها لتتشكل أمامي كلما حاولت عيناي أن تغفو من تعب الأيام (قلوبٌ تقف، شهقة توديع تُطلق، وأعين ترمق نظراتها الأخيرة للحياة) وكل ذلك محفوظ بألبوم ذاكرتي.
لا بأس مواقفٌ شدّت على يدي لأصبح أكثر قوة وصلابة ولكن...!!
ولكن ما أحزنني، هو نسياني لذاتي في تلك الأيام، اجتهدتُ كثيراً لأكون أفضل جراح على مستوى المستشفيات المجاورة كلها وأصبحت، حتى غدا لديّ رصيد جيد من المال.. الى أن انقضت سنوات عدة دون متعة حقيقة، ودون صفاء بال.. كنتُ في قلق دائم حيال مركزي ما جعلني افقد جمال لحظات كثيرة! ليتني لم أسرف في قضاء وقتي بالعمل فقط، بل ليتني قضيت وقتاً أكثر مع أصدقائي، مع زوجتي، مع أطفالي الثلاثة، وبساحة منزلي دون ان تنهال طاقتي على المستشفى والمرضى فقط.
أما الخط الأخير والأشد عمقا فتشكل حين دخولي العقد الرابع من العمر..
رأيت أطفالي يكبرون معي، وزوجتي الجميلة تشيب، كنت أخاف حين أراها تكبر أمامي.. زوجتي الشابة الفائقة الحسن والبهاء.. ها هي تذبل مع تقدّم السنين.. شيبٌ تخفيه عني ولكن نظرتي الحادة ترمقه مهما حاولت إخفاءه، وتجاعيد تحاول بأن تهزمها بمضادات ولكنني انتبه لها مع كل ضحكة تطلقها.
لأكتشف بأن "ما يخيفنا هو ليس تقدّم عمرنا فقط، بل عمر من يحيطون بنا أيضاً، فتقدّم عمرهم ونضجهم، اعتراف ضمني لانجرافنا في تيار الشيب والشيخوخة الإلزامي".
وهناك سبب آخِر تجاعيدي.. هو اليوم حين ذهابي للتنزه مع ابني البكر ذو العشرين عاماً.. كان يرمقني بنظرة تعجب لأنني لا أتبضع من قسم الرجال، بل تسوقني روحي لقسم الشباب دائماً ليقول لي: أبي لا تليق بك هذه الملابس!!.
وفجأة ودون مقدمات بدت عليَّ ملامح الشيخوخة بالكامل، واجتاحتني الهشاشة بكامل كياني وليس بعظامي فقط!.. ما جعلني في حين وصولي للمنزل أقف أمام اللوحة الصريحة "المرآة" لأعترف بالمحطة التي أوصلني لها الدهر!.
في طول فترات حياتي كنت أحاول بأن لا اكبر كثيراً، كنت ارفض الشيب والشيخوخة، كنت أتشبث بإصرار، غير مكترث لما يقوله العالم، وحتى ذاتي في الداخل كانت صغيرة جداً مما تتصرف بما لا يليق بمن هم دونها بالعمر حتى! ولكنني اليوم شعرت بوصولي لسن الخمسين حقاً.
نلهث خلف الحياة دون أن نأخذ نفساً للراحة، وحين تعطينا الحياة ما نريد نتحسر على اللحظات التي أضعناها في رحلة السباق ولم نتنعم بجمالها!!.
حياتنا هدية ثمينة.. ليست سباقُ ممّل.. فلننتبه لعطايا الله ونعمه!.
اضف تعليق