q

بشتى الطرق حاولوا إنقاذ حياتها حتى لا تفارقني وتبقى لي سنداً بعد رحيل أبي، ولكن المرض كان متمكناً منها، متشعباً بكل كريات دمها ونُخاع عظامها، ماتت أمي في ليلة مظلمة لتدعني أسدل ستائر مسرح الحياة لوحدي، وأعيش أحداث فصولها بمفردي، حينما ودّعتني توقّدت الدماء في أوردتي، بكيت حتى جفّت الدموع وغدا بكائي جافاً، ذلك البكاء الأشد إيلاما، جزعتُ حينها كبقية الذين شاهدتهم حاضرين في عزائها ، لا بل كان جزعي بأعلى مستوياته (صراخ، نحيب، توجّع، نشيج، نُواح)، تعرفتُ حينها على جميع مرادفات الأسى.. كانوا يقولون لي لا بأس إبكي لكي ترتاحي ولكنني كلما بكيتُ أكثر ثمل رأسي بدوامة الحزن أكثر، فتاة بعمر الرابعة عشر أي راحة تحظى بها من سيل دموع وموجات صراخ!؟.

حسناً أصبحتُ يتيمة فليتقدم من يشاء ويمسح على رأسي مسحة الشفقة تلك، لينالوا بها بضع حسنات وأحظى أنا بحسرة اليتم الموجعة.. لم أتخيَّل قط بأنها ستموت في يوم ما، بل كان يتراءى لي بأنها مخلدة باقية الى بعد مماتي حتى!.

مرّت السنوات المتوالية الى ان أوصلتني لبوابة العشرين، في تلك الفترة كنت قد دخلت بصراع مزمن مع الموت وذكره، كنت أعتبره عدّوي اللدود الذي سلب أحبابي مني، أصبحت أخاف منه جداً وأخشاه للدرجة التي أتخيل حفرة القبر بكل ليلة قبل أن أغفو!! كرهت الحياة ولم أحياها كما ينبغي، كم نضجت خارجياً ولكن في الداخل لا زلتُ كما "أنا" تلك الطفلة التي ودّعت أمها قبل ست سنوات، بل اكثر تحطماً من ذلك الحين، كنت كلما ازور قبرها لا اقرأ لها القرآن ولا أثوّب لها حلوى الطحين والتمر كما يفعل الفاقدين، بل أقابل القبر لأرمقه بنظرات الحقد الأحمق، وكأنني ألومها على رميها لي بدوامة اليتم والفقد، ألومها على جميع أخطائي في سبيل اكتشاف نفسي والحياة.

في إحدى تلك المرات في الحين الذي كنت امارس عقوقي لأمي بجانب قبرها، رصدتُ بضع كلمات من رجل وزوجته كانا يقطنان بجانب القبر المجاور لمثوى أمي، كانت المرأة تقول لزوجها: "كم الحياة قاسية تأخذ الأحباب وتفرّق الجماعات". اجابها زوجها بجواب حكيم أفاقني من كبوة غبائي: "تخيلي لو لم يمت احد، ماذا سيحدث في العالم ؟؟ تخيلي فقط.. حينها ستعين كرم الحياة والموت، الموت رحمة".

يا رباه اين كانت هذه الكلمات بكل تلك السنين المندثرة، لماذا لم يواسوني بها ولم يخبروني بهذه الفلسفة العميقة للدنيا دون أن يشعروني بأنني يتيمة فاقدة ينبغي عليها ان تتوسم بوصمة الحزن والحسرة؟؟، ليتهم قالوا لي بأننا في هذه الدنيا أمانة ستُرد لخالقها في يوم ما وأن الموت والقبر ممر لاسترجاع تلك الأمانة دون أن ننظر له تلك النظرة المرعبة المخيفة!.

شرعتُ أفكر حينها، ماذا سيحدث لو أنجبت النساء ملايين الأطفال كل يوم دون ان يموت احد منذ زمن آدم وحواء؟! لتلاطم العالم بأمواجه البشرية وتَراكمت الانفس والاجساد، ولفقدت الحياة محورها السامي بسبب سرمدية العمر تلك! حقاً ما قاله ذلك الحكيم وكأنه أوصل لي الوحي من ربي بجملة واحدة فقط!.

اكتشفتُ حينها بأنني لم ابكي على امي، على مصيبتها في نفسها، على توقف ميزان أعمالها وانطواء ورقتها من الدنيا، بل كنت ابكي على نفسي، على الثلمة التي احدثها موتها بي، على ذكرياتي وأيامي معها.. لم أتساءل لوهلة ما هو وضع امي في قبرها!؟ هل هي في راحة أم عالقة بالحساب حتى الآن، بل كان شغلي الشاغل تفكيري بنفسي فقط، بوحدتي فقط!.

لأنتبه حينها بأن النفس البشرية أنانية جداً والموت فرديٌ جداً!.

فماذا سيحدث لو تأهبنا للموت كمن يرحل لوليمة فاخرة، يتأنق.. يتعطر ويتجهز بكل شغف وحب؟؟ وماذا لو تصوّرنا بأن الداعي لتلك الوليمة هو الله عزوجل وأن في الموت لقائه ورحمته؟.

حسناً سأنهض، سأغير نظرتي، سأكون أفضل...

لم تكن نهضة التغيير سهلة يسيرة لي، فمعتقداتي المندثرة كانت تحتاج وقتا طويلا حتى تتلاشى، ولكنني انتصرت بفضل المثابرة، وها انا اصبحت عضوة لإدارة دار ايتام، لأرعى الثكالى والنازحين دوى مأوى ودون ولي امر وحتى أغير نظرة المجتمع لليتيم وأساعده بأن يلم أجزاءه المبعثرة حتى ينهض دون ان يلوم احد على حسرة اليتم تلك .

أصبحت استأنس بذكر الموت وبزيارة موطن الموتى "المقبرة" بل صرتُ أشتاق له كلما تخيلت بأنه لقاء لرحمة الله وكرمه، حتى غدا ذكره يحثني على الالتزام بالدين والواجبات والمستحبات طمعاً بالسعادة الأبدية في الجنة.

وغدوتُ أرددُ دائماً.. الحمدُ لله الذي ختم حياتنا الدنيوية بالموت حتى نلقاه.

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
الموت مرحلة انتقالية من هذه الحياة الدنيا الى حياة الخلود
في الجنة وفي النار لايوجد موت وانما حياة أبدية بلاحدود
وفي هذه الحياة الخالدة الخالية من موبقات الدنيا سيتقابل الأحفاد مع الجدود
احبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه....واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات...مركز ثقافة الألفية الثالثة2018-12-27