"بهذا الانعطاف لفك الرموز القديمة فإن الايمان ليس صرخة ولكن فهم" 1
لم تمنع استقلالية الخطاب الفلسفي بول ريكور من الاهتمام بالدين في العموم من وجهة نظر تأويلية نقدية، ولم تشكل صعوبة الطريق المؤدي إلى فهم الديني عائقا أمام تفكيك العلاقات الموروثة والمترسبة بين التيولوجي والأنثربولوجي وتطبيق المنهج الفنومينولوجي المنحدر من هوسرل وهيدجر على الحياة الدينية وتطعيمها بقراءة هرمينوطيقية للوجود الديني تتحرك ضمن دائرة تأويلية متكونة من مساري التفسير والفهم ومنفتحة على مناهج علوم اللسان والذهن والمجتمع.
في هذا السياق تتكون إشكالية المداخلة من إبراز مواطن التوتر بين الفلسفي والديني في النصوص الريكورية وتقصي مزايا وحدود طريقة التجسير التصالحي بين النقائض التي اتبعها بول ريكور بغية استثمار ما تجود به التقاطعات بين الذاكرة والنسيان وبين المقدس والدنيوي وبين الإثم والغفران من كشوفات أنطولوجية وما تسبعده من أوهام كوسمولوجية وأغراض ايديولوجية.
لقد كان رهان ريكور هو التخلص من آفة الشر وتخطي مأزق الخطأ وإماطة اللثام عن العمق الخير الذي يوجد في فطرة الإنسان وعن البراءة الأصلية التي تتميز بها الطبيعة البشرية، وظل شغله الشاغل استخراج الأبعاد الاتيقية للقصص الديني من خلال إزالة الأسطرة عن المقدس وتشفير اللغة الرمزية وبناء علمانية ثالثة تخرج من مضيق اللاهوت القروسطي للدولة الدينية والتصور اللائكي المعادي للإيمان وتضع الخطوط الأساسية لقيام دين مدني يتوافق مع التصور الجمهوري لدولة الحقوق.
بناء على ذلك فرضت المقارنة بين الهرمينوطيقا الفلسفية والهرمينوطيقا الدينية نفسها وكان استدعاء كل من أوغسطين والاكويني وأنسلم وديكارت وسبينوزا وكانط وهيجل وماركس ونيتشه وبرجسن وهيدجر وبولتمان ومارسيل وياسبرس وتيليش وفرويد وألياد وميسراحي وغرايش ولاكوك وفانسان أمرا لازما للتفكير في الوضع الهرمينوطيقي للدين.
لقد حرص ريكور على تخليص الدين من المعنى السياسي والتركيز على الأبعاد الكونية والقاع الإنساني الذي تكتنزه اللغة التوراتية في مستواها الشفوي المحكي أو في المدونة العقدية المكتوبة. كما بشر بحسن الضيافة بين القراءات والاجتهادات للنص المقدس وشرع للاختلاف والتعدد والتنوع في التعامل مع الإلهي تأملا وعرفانا ومناجاة وتفكرا وممارسة اجتماعية وتعبدا فرديا. هكذا يكمل الحوار البيديني ما تحقق من بيذاتية وبيشخصية وبيثاقية وبيمنهاجية وبينصية وتتحول قيم التعارف والصفح والشهادة والشكر والمروءة إلى عناصر تكوينية للإتيقا السردية.
أطروحة البحث لا توجد فلسفة دين قبل بول ريكور بل مجرد أفكار فلسفية متناثرة حول الدين تناولت قضايا اللاهوت وحاولت البرهنة على وجود الله وبحثت عن الروح والموت والحياة الأخرى والغفران.
يمكن حصر الخطوط العامة للتناول الريكوري للمسألة الدينية في التمفصلات التالية: لقد بحث ريكور عن أسرار فطرية التدين وصعوبة الطريق نحو الديني ضمن رؤية تيولوجية هرمينوطيقية للوجود الديني وحاول تفكيك العلاقات الملتبسة بين الفلسفة والتيولوجيا وطبق منهجا فنومينولوجيا لدراسة الحياة الدينية يقوم بالأساس على إزالة الأسطرة عن المقدس ويجري تجارب من الحوار البيديني ويتحرك ضمن المضيافية الإيتيقية. فماهي المسلمات الاتيقية لفلسفة الدين عند ريكور؟ وماهي الشروط الضرورية لقيام فلسفة الدين في حضارة أقرأ؟
من الضروري احداث تقاطع بين الهرمينوطيقا الفلسفية والهرمينوطيقا الدينية وتفكيك الأنطوتيولوجيا والإقرار بالمبادىء التالية:
- لا يمكن الحديث عن فلسفة في حضارة اقرأ بالمعنى المستقل عن اللّوغوس الإغريقي وعن نمط من التفلسف النقدي الحر عند العرب الا بالكف عن النظر الى الفلسفة العربية كونها تعريب للفلسفة اليونانية وتحقيق إضافة خصوصية في التيولوجيا ( كلام وفقه وحديث) والانتباه إلى أهمية فلسفة اللغة وفلسفة الدين وفلسفة الثقافة وفلسفة الطبيعة عند الناطقين بلغة الضاد.
- يجب أن تقر الهرمينوطيقا الدينية بشرعية الاختلاف بين الديني واللاّديني وتتوجه نحو البحث عن دين بلا مذاهب وترتقي إلى ماوارء الملل والنحل والطوائف مادام الأمر يتعلق بتدبير النص وتفسير الكون وعقل الوجود وفهم الذات في كونيتها.
- لقد تحولت الرؤية المقاصدية للدين إلى عائق معرفي ولم تعد تمثل الفهم التقدمي لقضايا الإيمان بل مجرد قراءة تقليدية للتراث تتحرك في حلقة مفرغة ومن الضروري تثويرها والانطلاق نحو قراءة أنطولوجية عبر تقاطع مناهج التفسير ومناهج الفهم ضمن دائرة هرمينوطيقية.
- نزع تأويل النص الديني من قبضة السلطة السياسية بما أن أزمات التأويل هي أزمات سلطوية ومنح الفلاسفة والعلماء شرعية الاستنباط والتحليل والتدبر في إطار قراءة عقلانية نقدية.
- تعاني فلسفة الدين من تصارع بين الاعتقاد والاعتقاد وتنازع بين تثبيت القداسة وخلع الهالة وتوتر بين الإقرار بالإيمان وحيرة الروح أمام التباس تجربة المطلق وتلك هي هشاشة وضعيتها الهرمينوطيقية وموانع تشكلها كاختصاص معرفي قائم الذات.
جملة القول أن ما يوجد إلى حد الآن في الثقافة العربية هو مجرد أفكار فلسفية حول الدين تتراوح بين الشك والإثبات وأن فلسفة الدين بالمعنى الحقيقي للكلمة لم تر النور بعد. فماهي العدة المفهومية الضرورية والعمل الابستيمولوجي اللازم لتحقيق هذا التأسيس الفلسفي؟
* كاتب فلسفي
..................................................
اضف تعليق