في يوم 22 أيار 2016 أعلن رئيس الوزراء العراقي السيد (حيدر العبادي) البدء بعملية عسكرية واسعة لتحرير مدينة الفلوجة معقل تنظيم داعش في العراق، لقد تأخر تحريرها منذ دخول تنظيم داعش اليها قبل عامين، فقد تقدمت القوات العراقية إلى مناطق نائية في محافظة والانبار، حتى وصلت أخيرا إلى قضاء الرطبة أقصى الغرب العراقي على الحدود مع الأردن، وبتحرير الرطبة والرمادي ومناطق هيت والصقلاوية وأخيرا الكرمة، فقد تم تطويق المدينة من كل الجبهات، فلم يبقى أمام التنظيم إلا الاستسلام أو الموت.
كانت توقعات المحللين والاعلاميين تشير إن يتم التوجه إلى محافظة نينوى لتحريرها من قبضة داعش أولا، وهذا ما كانت تصرح به الإدارة الأمريكية من إن الموصل أولا، ومن ثم العودة إلى الفلوجة، إلا إن هناك عدد من المؤشرات قد سرعت من وتيرة تحرير الفلوجة، وجعلها الهدف الأول قبل الموصل، حتى إن بعض المحللين أكدوا على إن هناك شبه إجماع عراقي على تحرير الفلوجة، والقبول بمشاركة الحشد الشعبي من مختلف الأطراف، بعد إن كان مشاركته خطا احمر من قبل بعض الأطراف، وهناك قبول من الإدارة الأمريكية لهذه العملية، انها هدف ذات إبعاد حيوية، فمن شمالها الصقلاوية وجنوبها الكرمة وهما مدينتان تسهل تسلل الإرهابيين لباقي مدن العراق وخاصة العاصمة بغداد.
لقد تأخر تحرير المدينة لهذه المدة لأسباب عديدة منها: معارضة الإدارة الأمريكية في بادئ الامر، من خلال الضغط على الحكومة العراقية لإيقاف أي تقدم للقوات على المدينة، وتهديها بمختلف الطرق، لان الوقت لم يحن بعد للهجوم على الفلوجة لوجود عدة أهداف امريكية تريد تحقيقها، فالأنبار من المحافظات التي كانت تعول عليها أمريكا لتطبيق مشروع التقسيم، لوجود الحواضن المرحّبة بالتقسيم من بعض سكان الانبار ممن يرتبطون بأجندات خارجية، كذلك لوجود بعض السياسيين الذين يستوحون أفكارهم وتعليماتهم من خارج الحدود، وهم الذين يروجون لفكرة الإقليم السني، كذلك الضغط الخليجي التركي بهذا الاتجاه أيضا والضغط على أمريكا لمنع لتأخير الهجوم العراقي، مع وجود المدنيين داخل الفلوجة واستخدام داعش لهم كدروع بشرية يعد عائقا أمام استكمال عمليات التحرير والتباطؤ في تلك العمليات، اضافة الى الصراع السياسي بين الكتل السياسية وخاصة الكتل السنية والتي تهدد في أكثر من مناسبة بأنها لن توافق على الهجوم على الفلوجة، وخاصة معارضتها الشديدة من مشاركة الحشد الشعبي في العملية، كذلك أسباب عسكرية ولوجستية كانت تقف عائقا أمام الجيش لوحده من تحقيق نصر في المدينة، لذا كان لابد من وجود دعم لوجستي من قبل فصائل الحشد الشعبي للجيش لتحقيق الانتصار النهائي، وبعد ان تبين للجميع انه لا يمكن ترك الفلوجة خلفهم والذهاب للموصل، انطلقت الحملة في 22 ايار لتحرير المدينة، ان سكان الانبار الأصلاء الملتزمين بوطنهم وعراقيتهم والذين تعرضوا إلى الظلم والتهجير وهدم البيوت وحتى القتل للبعض منهم، فان هؤلاء المظلومين انتفضوا واصطفوا مع القوات المسلحة لطرد داعش من محافظتهم.
لقد جاء قرار الهجوم على الفلوجة لتحريرها وطرد داعش لعدة أسباب منها:
1- تعد الفلوجة مركزا مهما لتنظيم داعش في العراق، بل المركز الرئيسي له، وهي مركز التحكم والقيادة، وتظم أهم قادة التنظيم، وذات رمزية خاصة له، ولبعض دول الإقليم، لهذا فان مع بداية الهجوم بدأنا نسمع صيحات الاستغاثة لإنقاذ المدنيين من العمليات العسكرية، وتوفير ممرات أمنة لهم، على الرغم من إن هؤلاء المدنيين يعيشون مع التنظيم لأكثر من سنتين، وبهذا فان الهجوم جاء لضرب المعقل الرئيسي للتنظيم لإرباكه والقضاء عليه نهائيا.
2- عامل القرب من بغداد، لقد كانت الفلوجة المقر الأساس لتفخيخ السيارات وتجهيز الانتحاريين وإرسالهم إلى العاصمة بغداد لقربها منها، إذ لا تبعد سوى 50 كيلو متر، مع وجود الممرات التي تسهل عمل عناصر التنظيم في الكرمة والصقلاوية، وهي تعد أيضا مكان دعم أساسي للتنظيمات النائمة في العاصمة وحزام بغداد، فمع أي تقدم للقوات العراقية في مواجهة التنظيم نرى لجوء التنظيم إلى العمليات الإرهابية ضد المدنيين لتخفيف الهجوم عن أنصاره، ومنها الانفجارات في العاصمة بغداد بعد تحرير مدينة الرطبة، ومحاصرة الفلوجة، لهذا كان لابد من تحر ير الفلوجة وإنهاء التهديد المستمر للعاصمة.
3- وجود موافقة أمريكية للعملية، بعد إن حصلت على تطمينات من ان بعض القيادات المهمة والعميلة للمخابرات قد تم تهريبهم من الفلوجة قبل الهجوم، لان في الفلوجة هناك عناصر تابعة للمخابرات الأمريكية والسعودية والتركية وغيرها، وهم وان كانوا جزء من داعش في نظر التنظيم ويقاتلون إلى جانبه، إلا أنهم كانوا بمهمة خاصة لصالح هذه الدول، واحتمال انه تم خروجهم عبر الأردن بعد تحرير مدينة الرطبة، وهذا هو الهدف من تحرير الرطبة أولا، لأنها ستكون ممرا آمنا لخروجهم من والانبار نحو سوريا والأردن.
4- لقطع أي اتصال بين تنظيم داعش في الفلوجة ومناطق حزام بغداد مع عناصر التنظيم الأخرى في سوريا، لان كل الإمدادات كانت تصل للخلايا النائمة في العاصمة وبعض المدن العراقية من دول الإقليم عبر سوريا إلى العراق تتم عن طريق الفلوجة، لهذا كان لابد من قطع هذا التواصل.
5- ان لاضطراب الأوضاع السياسية في العراق وخاصة في العاصمة بغداد، فاستمرار المظاهرات والاعتصامات، ودخول المنطقة الخضراء لأكثر من مرة، واقتحام مجلس النواب والوزراء، كان له دور حاسم في التوجه للفلوجة، لان أي تطور للمظاهرات وانفلات الوضع الأمني في العاصمة، مع وجود داعش بهذه القوة على مسافة قريبة من بغداد سيقود حتما إلى سرعة وصولهم إلى أي مكان في العاصمة وتهديها، لهذا فان أبعاد خطر التنظيم عن العاصمة كان امرأ لابد منه.
6- هناك شبه إجماع دولي للقضاء على تنظيم داعش الإرهابي، خاصة بعد ان توسع عمل التنظيم إلى دول في أوربا، كما إن بعض الدول التي كانت راعية له بدأت تجني نتاج أعمالها مثل تركيا والسعودية، وان داعش أدوات إرهابية لديهم هامش عسكري محدد، إلا إن القرار النهائي يصدر من المشغل الأكبر (المايسترو)، وهي أمريكا وبعض دول المنطقة، لهذا نرى إن توقيت الهجوم على الفلوجة جاءت بالتزامن مع الهجوم على الرقة السورية من قبل قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل أمريكا، إذ قبل أيام زار شمال سورية قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط الجنرال الأمريكي (جوزيف فوتيل) والتقى مع قوات سوريا الديمقراطية للتنسيق معهم، والتي تظم عربا وأكراد، لمواجهة تنظيم داعش والقضاء عليه، وهي الزيارة التي شملت العراق ايضا.
لقد انتهت المرحلة الأولى من الهجوم على الفلوجة بعمل ناجح من خلال تحرير مدينة الكرمة لإكمال الطوق عليها، وتحرير بعض المناطق الإستراتيجية فيها، ومنها معمل الحراريات، وإطباق الخناق عليها، وضرب مخازن الأسلحة فيها، وقتل عدد كبير من القيادات المهمة ومنهم ما يسمى بوالي الفلوجة، مع انكسار واضح للدواعش، إن تكتيك داعش الحربي في حالة المواجهة واشتداد المعارك مع الجيش هو استخدام الانتحاريين وتفخيخ المنازل، فهم لا يتواجهون مباشرة مع الجيش حتى في مناطق في سوريا وغيرها، كذلك يحاولون فتح ممرات للهروب من الفلوجة إلى خارج المدينة خاصة وان هناك أنفاق عديدة في المدينة، لهذا فان هذه المعركة هي معركة استخبارات لمعرفة تحركات العدو وتواجده، ومعركة هندسة عسكرية لازالت الألغام وتفكيك العبوات لتامين الطرق الرئيسية، فقد ذكرت بعض وسائل الإعلام على شبكة التواصل الاجتماعي في 21 أيار 2016، خطابا لـ(أبو محمد العدناني) المسؤول الإعلامي للتنظيم تحدث فيه بلغة دفاعية، وكان خطابه خطاب المحبط المنكسر، وهو يهيئ أنصاره في العالم من أن هناك انسحابات من مدن عديدة في العراق وسوريا وليبيا، وعليهم التحول إلى حرب العصابات وحرب المدن، لإرباك العدو.
خلاصة الكلام، لقد بدا الهجوم على تنظيم داعش في الفلوجة بشكل مفاجئ هذه المرة، اذ لم تسبقه تهويلات اعلامية، وانما اخذ طابعه العسكري الصحيح وهو السرية في التوقيت، كما انه عكس إرادة العراقيين القوية في تنفيذ خططهم العسكرية بعيدا عن امريكا، وان كان لها حضورا في هذه الحرب، الا ان الكلمة اصبحت الان بيد العراقيين، خاصة مع مشاركة فاعلة لأفراد الحشد الشعبي في هذه المعركة، من خلال مسك الارض، لقد كسرت الحكومة العراقية، الفيتو الأمريكي في الهجوم على المدينة، لان تحريرها يعد انطلاقة لتحرير بقية المدن العراقية الأخرى، كذلك تحريرها يعد ضربة قوية للتنظيم وكسر شوكته، فتحرير الفلوجة بالتزامن مع الهجوم على الرقة السورية يعد مفتاح النصر لتحرير الموصل، لان مراكز داعش الاساسية بدأت تنهار، وبهذا سيصبح التنظيم بلا ملاذ امن او دعم محلي.
اضف تعليق