لا تختلف كثيراً الصورة الآن في دول الغرب عن العرب والمسلمين، بوجود تنظيم "داعش" ورفيق دربه تنظيم "النصرة"، عمَّا كانت عليه عقب هجوم تنظيم "القاعدة" في 11 سبتمبر2001 وما لحقه من أعمال إرهابية في أمكنة عديدة بالعالم. فما زال حال العرب والمسلمين في أميركا والغرب يتأثّر سلباً بنتائج هذه الممارسات العنفية باسم الإسلام، وبما يرافقها أيضاً من حملات تشويه وتعبئة عنصرية ضدّ كل ما يمتّ للعرب والمسلمين بصِلة.
هذا هو المزيج المستمر الآن في الغرب عموماً بعد حوالي 15 عاماً على 11 سبتمبر 2001، ومع حدوث "طبعة جديدة" من الكتاب المفتوح زمنياً ومكانياً: "الحرب على الإرهاب"، وعنوان فصله الجديد الآن هو: "محاربة تنظيم الدولة الإسلامية"!!. يحدث ذلك بينما إسرائيل (التي هي "جغرافياً" في الشرق، و"سياسياً" في الغرب، وتنتمي إلى حالةٍ دينية "لا شرقية إسلامية ولا غربية مسيحية") هي المستفيد الأكبر من صراعات الشرق والغرب، ومن كون هذا "الإرهاب الإسلامي الجديد"، كما كان قديمه في "القاعدة"، يتجنّب محاربة إسرائيل بل يخدم مشاريعها في إقامة حروبٍ أهلية عربية وإسلامية!.
فما الذي ينتظر العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن الآن (واستتباعاً كل المنطقة العربية) من تطوراتٍ واحتمالات، وهل ما يحصل من مفاوضات دولية وإقليمية بشأن أزمات سوريا واليمن وليبيا، هو مقدّمة لتسويات وحلول سياسية، أم هو مجرّد تقاطع مؤقّت لمصالح الدول التي تدير الأزمات وحلولها خلال هذه الفترة؟! ثمّ في حال حدوث توافقٍ مؤقّت بين هذه الدول على مواجهة "داعش" وإفرازاتها، فما الذي سيحصل بعد النجاح في هزيمة هذه الجماعات الإرهابية وما سيكون بديلها على الأرض من حكومات ومعارضات وتسويات سياسية، بل أيضاً من حدود كيانات؟!. وهل ستتّعظ القوى الإقليمية والمحلّية التي راهنت على جماعات "النصرة" و"داعش" خلال السنوات الماضية من هذه التجربة المرّة في التحالف مع قوى شيطانية إرهابية لم ترحم أحداً في مناطقها من كلّ الطوائف والمذاهب والإثنيات.؟!
تساؤلاتٌ عديدة جارية الآن دون قدرةٍ على حسم الإجابة بشأنها، فمحصّلة السنوات الماضية من هذا القرن الجديد لا تشجّع كثيراً على التفاؤل بمستقبلٍ أفضل، طالما أنّ البلاد العربية هي ساحات لمعارك وصراعات، وليست مصدر قرارات أو قدرة على الاعتماد على الذات من أجل تصحيح الواقع وتغيير مساره لصالح العرب أنفسهم أولاً. فالتدخّل العسكري الأجنبي لإسقاط أنظمة، جعل بديل الأنظمة في هذه الأوطان ميليشيات مسلّحة على أسس طائفية وقبلية وإثنية أطاحت بكل مقوّمات الدولة الواحدة، وأضعفت الولاء الوطني والقومي، وغيّبت أي ممارسة سليمة لمفهوم المواطنة، وسبّبت بتهجير مئات الألوف من المواطنين. فالخوف هو إذن من أن تكون الحرب على "داعش" ومثيلاتها هي مقدّمة لتكريس انقسامات حدثت في السنوات الماضية، فأنتجت واقعاً مريراً بين أبناء الوطن الواحد، وأقامت حواجز من الدم والكراهية للشريك الآخر في الوطن والمواطنة، بل أيضاً كرّست انقساماتٍ جغرافية تهدّد الآن وحدة الكيانات والأوطان.
الحذر مطلوبٌ الآن من المستقبل، كما هو مطلوبٌ رفض الحاضر وتداعيات الماضي. إذ أنّ الوعد بمستقبلٍ أفضل يفترض وجود عناصر لم تزل مغيّبة حتّى الآن، وتحتاج إلى مراجعات كثيرة مع النفس لدى كل الأطراف العربية والإقليمية المعنيّة بالأزمات الراهنة. ولعلّ أولى هذه المراجعات هي وقف المراهنة على "شيطان الداخل"، المتمثل الآن بجماعات الإرهاب، من أجل تحقيق مصالح فئوية لهذا الطرف أو ذاك، كما هو مهمٌّ أيضاً الآن الاعتماد على الذات العربية لبناء مستقبلٍ عربيٍّ أفضل، بدلاً من تكرار انتظار الترياق من الأجنبي الإقليمي أو الدولي، وهو ما يحدث على مدار قرنٍ من الزمن، ولم ينتِج إلاّ المزيد من المآسي والأزمات في المنطقة العربية.
لقد خرج النفوذ الأجنبي من باب المنطقة في منتصف القرن الماضي بفعل ثوراتٍ تحرّرية عربية، لكنّه عاد الآن إلى المنطقة من نافذة المعاهدات مع إسرائيل، ومن خلال نتائج الحروب العربية- العربية، وخطايا بعض الحكّام الذين استباحوا أوطاناً عربية أخرى أو حقوق مواطنين عندهم. لكن ذلك كلّه ما كان ممكناً أن يحدث بهذه الصورة الدموية التي نراها الآن في المجتمعات العربية لولا أيضاً وجود تخلّف فكري يسمح بالمتاجرة بالدين والطوائف، كما الانحطاط حاصل في مفاهيم وممارسات معاني الهُويّات الوطنية والقومية.
إنّ الأمَّة العربية مثقلةٌ الآن بالجراح، والدم ينزف من شعوبها بفعل صراعاتٍ أهلية، وليس نتيجة معارك مع عدوّها الإسرائيلي المشترَك الذي استفرد الآن بالشعب الفلسطيني، ويمارس عليه العدوان والقتل والدمار، ويواصل الاستيطان والتهويد للأراضي الفلسطينية وللقدس الشريف، بينما العرب منشغلون بأنفسهم وبصراعاتهم الداخلية وبمصالح فئوية لهذا الحاكم أو ذاك المعارض..
إنّ التفسير "الغربي" لظاهرة الإرهاب باسم الإسلام يحاول أن ينفي مسؤولية الغرب عن وجود هذه الظاهرة ويعيد المشكلة فقط إلى أوضاع داخلية في الدول العربية والإسلامية، بل إنّ هذا التفسير لا يشير إلى مسؤولية الغرب حتّى في هذه الأوضاع الداخلية العربية بالرغم من حقيقة هذا الأمر عملياً منذ مطلع القرن العشرين، وما قامت به الدول الاستعمارية الأوروبية ثمّ أميركا من إعداد ورعاية لهذا الواقع الداخلي العربي والإسلامي، وفي كلّ مجالاته الجغرافية والدستورية والسياسية والاقتصادية، إضافةً إلى الدعم غير المحدود لنشوء الدولة الإسرائيلية وحروبها العدوانية على العرب والفلسطينيين.
ثمّ كيف يفسّر أصحاب هذه المقولة "الغربية" ما حدث في عدّة ولايات أميركية من أعمال إرهابية كانت خلفها جماعات إرهابية أميركية، غير عربية وغير إسلامية، رغم وجود الديمقراطية في أميركا؟! وهل يمكن وسم هذه الممارسات الإرهابية بانتماءات دينية أو "ولايتية" أو عرقية؟!.
وكيف يفسّر الأوروبيون ما كان يحدث في بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وأسبانيا من عمليات إرهابية يقوم بها أتباع لجماعاتٍ متطرّفة، وبعضها كان يمارس العنف المسلّح بأسماء دينية، أو بطابع "وطني تحرّري" مثل "الجيش الجمهوري الأيرلندي" في بريطانيا وجماعات "الباسك" في أسبانيا؟!
وفي مقابل تلك التفسيرات "الغربية" ظهر التفسير الآخر "الشرقي"، الذي يحاول أيضاً التملّص من مسؤولية الذات العربية والإسلامية عن بروز ظاهرة التطرّف و"الإرهاب"، والذي يرفض الاعتراف بالأزمات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في هذه المجتمعات.
فكيف نفسّر ما يحدث الآن في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وما حدث في لبنان ومصر والجزائر والسودان، وفي عدّة بلدان قبل ذلك، من أعمال إجرام وعنف دموي باسم الإسلام، ضدّ مواطنين ينتمون إلى دين آخر أو إلى مذهب مختلف؟!. فالقتل العشوائي لناسٍ أبرياء هو أمرٌ مخالف لكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، وهو يتكرّر رغم ذلك في أكثر من زمان ومكان داخل بلدان العالم الإسلامي، ولا نراه يتراجع أو ينحسر، وفي ذلك دلالة على انتشار الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية.
وتزداد المأساة استفحالاً حينما يعطي بعض المحلّلين السياسيين الأعذار لهذه الجماعات ولأعمالها، أو تبريراً لها من خلال استعراض الأزمات السياسية القائمة في المجتمعات، وكأنّ الحرام يصبح حلالاً لمجرّد وجود مشاكل اجتماعية أو سياسية في هذا المكان أو ذاك. فقتل النفس البريئة هو جريمة بكلِّ المعايير، مهما ارتدى الفاعل المجرم من عباءات دينية أو طائفية أو وطنية.
إنّ اتساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرةً خطرة على الإسلام نفسه، وعلى المسلمين وكافّة المجتمعات التي يعيشون فيها. وهذا أمر يضع علماء الدين أولاً أمام مسؤولية لا يمكن الهروب منها، فهم إمّا فاشلون عاجزون عن ترشيد السبيل الديني في هذه المجتمعات، أو أنّهم مشجّعون لمثل هذه الأساليب. وفي الحالتين، فالمصيبة كبرى كبرى. كذلك هي مشكلة غياب المرجعيات الفكرية الدينية التي يجمع الناس عليها، وتحوّل الأسماء الدينية إلى تجارة رابحة يمارسها البعض زوراً وبهتاناً.
لقد أصبح العنف باسم الدين أو المذهب ظاهرة بلا ضوابط، وهذا نراه في مجتمعات تسعى للتغيير، لكن أمور هذه المجتمعات تسير من سيء إلى أسوأ. فالتغيير القائم على العنف المسلّح وقتل الناس العشوائي يؤدي حتماً إلى تفكّك المجتمعات والأوطان، وإلى صراعات أهلية دموية نرى نتائجها الآن في مشرق الأمّة العربية وفي مغربها.
اضف تعليق