في خضم "ازمة" الإصلاح ظهر جمهور عراقي يدعو للتفاؤل بنهاية حقبة المحاصصة، ومن حقه ان يتفائل هذا الفريق ونحن نتفائل ونتفق معه مرتكزين على وتيرة تصاعدية للأحداث تبدو للمتابع انها في طريقها لتحقيق الهدف المنشود، إذ كنا نظن ان هناك هدف وحتى وان كان ذلك الهدف مرسوما في صحراء الفكر الطائفي، فقد اخذت عوامل التعرية السياسية منه الكثير عند هبوب عواصف جوعى والفقر. فهؤلاء لا يستحقون أكثر مما هم عليه وفق القاموس الحزبي العراقي.
مرت الاحداث متسارعة جدا والتظاهرات حصرت الأحزاب الحاكمة في زاوية ضيقة حرمتهم من تنفس هواء الصفقات والتوافقات الطائفية، وعلى حين غفلة انتعل الفقراء السجاد الأحمر، ولأول مرة ترى كامرات المراقبة في مجلس النواب العراقي ان (لا اختلاف بين الغني والفقير الا بالظلم والاضطهاد)، "الاريكة" او "القنفة" باللهجة المحلية كانت شاهدا على مدى استخفاف ساسة العراق بشعبهم وكيف عقفوا سهم مطالبه وردوه الى نحره، فحينما يتجاوز المواطنون الخطوط الحمراء التي رسمتها أحاديث دينية وتوافقات سياسية فإنها ستحول اختلاف الساسة الى توافق انطلاقا من قاعدة عدو عدوي صديقي والعدو وضح انه صراع بين الطبقة الحاكمة والشعب.
انتفضت الأحزاب السياسية بسبب "القنفة" كون الفقراء دنسوها حسب الرواية الحكومية وبالتأكيد لا جرم لهم فهم لا يعرفون اصلا اين يستخدم هذا الأثاث فأرادوا تجربة جديدة كونهم يطبقون اقوال الكتل السياسية الداعية الى عدم تجربة المجرب وفق احد الإصدارات السياسية والتي حملت عنوان "المجرب لا يجرب"! حراك سياسي غير مسبوق وتناغم بالتصريحات بين أحزاب كانت متخاصمة قبل اقل من شهر وراح على اثر خصامهم شهداء وجرحى. مصيبتهم الكبرى ان النواب الكرد غاضبون من سلوكيات المتظاهرين، واخرين نصبوا العزاء على الشرعية التي انتهكت حرمتها. يناديهم اخر من بعيد عن مبادرة لجمع شمل البرلمان المنتهك يجتمعون باسم الإصلاح ولكن أي اصلاح؟
انهم يجتمعون من اجل اصلاح ما دمره المتظاهرون، لقد دمروا أسس المحاصصة الحزبية ولم يعد بالإمكان إحصاء عدد الدرجات الخاصة التي اختل التوازن فيها، والشعب العراقي يعلم ان إعادة التوازن تحتاج الى سنوات فهي استغرقت أكثر من عقد من الزمان لتكون على هذه الحلة. رئيس الوزراء لا يعرف مع من يجتمع بالوزراء القدماء المقالين ام مع وزرائه الجدد الذين لم يؤدوا اليمين الدستورية وليتهم لم يؤدوه الى الابد فما غنمناه من هذا اليمين الدستوري ان يضيع ثلث العراق لصالح داعش دون ان يحاسب أي شخص وكأن هناك كائنا اسطوريا سبب هذه الخسارة.
الحراك الدبلوماسي الساخن بين الكتل السياسي ينذر بالخطر ويؤشر على وجود اتفاق لإيقاف الشعب عند هذا الحد، النواب الكرد يبدو انهم عازمون على رفع سقف مطالبهم اثر سقوط أعمدة سقفهم القديم وتخلخل جدران توافقاتهم مع الحكومة المركزية، والسنة لا يمكنهم ترك بغداد بيد تيار شيعي كان في الامس القريب متهم بارتكاب جرائم بحق طائفتهم حسب ما تشير وسائل الاعلام الموالية للأحزاب السنية، اما الشيعة فلا يمكنهم ترك زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر قطف ثمار ما زرعوه لمدة ثلاثة عش عاما.
الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بالعراق يان كوبيش ابلغ مجلس الامن ان الأغلبية من الكتل السياسية العراقية ترفض إصلاحا جذريا للعملية السياسية، وتعتبر هذه المحاولات عبارة عن جهود ترمي إلى نزع الشرعية ليس عن الحكومة أو مجلس النواب فحسب، بل أيضا عن النظام السياسي برمته. واللافت ان كلام المسؤول الاممي جاء بعد جولات قام بها لزيارة المسؤولين العراقيين وهو لم يطلق الكلام جزافا وعلى العراقيين التمعن في كلامه وإدراك ان جهودهم تحولت من اصلاح المنظومة الفاسدة الى اصلاح المحاصصة وانتشالها من تحت اقدام المتظاهرين.
منزل الرئيس فؤاد معصوم شهد اجتماعا ضم الرئاسات الثلاث وقادة الكتل السياسية، وأدان بيان لهيئة الرئاسة "اقتحام مجلس النواب والاعتداء على عدد من النواب" معتبرا إياه "تجاوزا خطيرا لهيبة الدولة". وذلك بعد اقتحام المتظاهرين للبرلمان العراقي وتناست الرئاسات العراقية ان وجود البرلمان هو أكبر إهانة لكرامة العراق فهو شريك بكل المآسي التي يمر بها الشعب العراقي وساهم في تدمير البنية الأساسية للدولة العراقية من خلال تنازله عن دوره لصالح قادة الكتل الكبيرة وحتى لدول الجوار... لم يحل قضية المادة (140) مع الاكراد فكانت نتيجتها صراع بين الفصائل العراقية راح ضحيتها العشرات بين عسكريين ومدنيين، ولم يقر قانون الأحزاب ليفتح شهية التيارات فالتهمت خيرات البلد ولم ينتهي من ازمة قانون النفط والغاز فاصبح نفط العراق يباع في موانئ إسرائيل والبائع يتمتع بنفط البصرة.
اما رئيس البرلمان "المنتهك" فسافر الى "العاصمة" الكردية اربيل من اجل إرضاء نوابها فدموعهم أغلي من دموع أمهات شهداء سبايكر وأنين النائبة الكردية التي فقدت نعلها أبكي العدو والصديق، يالها من جريمة لا تغتفر!، ليعلن عن عقد جلسة لمجلس النواب تمنع وسائل الاعلام من تغطية احداثه، في الوقت الذي تفرض العملية الديمقراطية مراقبة الشعب لفعاليات نوابهم، ومنع وسائل الاعلام يثير التساؤل عن وجود اتفاق سري لعودة الامور الى المثلث الأول "الشيعة، السنة، الاكراد" ما يعني ضرب المطالب الشعبية عرض المحاصصة.
فاجتماع أربيل ودعوات رؤساء الكتل الشيعية واجتماع الرئاسات الثلاث لم يكن هدفها الإصلاح بالمعنى الذي تريده الجماهير المنتفضة، بل الغرض هو اصلاح ما خربه الإصلاح. انه اصلاح المحاصصة وضمان ترتيب أوراق مجلس النواب المبعثرة دون زيادة او نقصان وتحت الشعارات هدأت افراح الفقراء الذين كانوا يمنون النفس بالحصول على جزء من حقوقهم المسلوبة واجبر الامل الشعبي على دفن نفسه فداء لـ"قنفة" مجلس النواب. فيما ستكون الدية الكبرى التي يجب على الشعب ان يدفعها لقادته السياسيين بان لا يعكر صفو اجتماعاتهم عبر السماح له بترميم نظام المحاصصة وإعادة هيكلته من جديد، فضلا عن تعهد الشعب بالتصفيق لأي (مشروع حكومي جديد حتى وان كان غير مشروع) وقد كفانا ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق مؤونة انتقاد العملية السياسية العراقية.
اضف تعليق