رغم ما يدور من أحاديث في وسائل الاعلام عن حملات العداء ضد إيران باتت الجمهورية الإسلامية في موقف يؤهلها للعب ادار متقدمة في حلبة الصراع المشتعلة في المنطقة، وبما انها استطاعت اجتياز مرحلة المراهقة الثورية بدأت ملامح التعقل في السلوك السياسي الإيراني تتضح أكثر من أي وقت مضى، وذلك بعد ان أسندت ظهرها الى جدار صلب من الإنجاز التقنية والتسليحية أجبرت الكبار للاعتراف بها كقوة تركت بصمتها في مختلف قضايا منطقة الشرق الأوسط.
في بداية انتصار ثورتها نادت القيادة الايرانية بتصدير الثورة الى الخارج وهو ما كلفها كثير اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وحتى بشريا، والهمت الجماهير تحت شعارات "لا شرقية ولا غربية" او "الموت لأمريكا الشيطان الاكبر" كلها كانت تخاطب عواطف شعب يحلم بحكومة إسلامية في منطقة لا يخلو يوم فيها من دون صراع، الا ان هذه الشعارات تجاوزت حدود الثقة بالنفس وادت الى حشر ايران في زاوية ضيقة ومهدت الطريق لحرب دامية مع العراق راح ضحيتها الاف الأشخاص من الطرفين.
وعلى مرور السنين تغيرت السياسات الإيرانية فشعار "لا شرقية ولا غربية" تم دفنه الى الابد واليوم تم تنصيب صواريخ (اس300) الروسية على قبر هذا الشعار، والتي تم شرائها من امبراطورية الشرق روسيا، وما كانت تدعى بإمبراطورية الالحاد أصبحت اليوم شريكا فعليا للجمهورية الإسلامية، والعمل جار على قدم وساق لتمتين العلاقة الى تحالف استراتيجي. ويدافع مناصرو هذا الحلف بانه جاء كرد فعل ضد الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الاوربيين والعرب من اجل إقامة توازنات إقليمية ترجح كفة الإيرانيين.
لكن شعار "الشيطان الأكبر" بات يكسوه الغبار نتيجة قلة استخدامه، والشعار الذي يم تداوله بين حين وآخر قد يبدو نسخة منتهية الصلاحية او غير مصرح بها ما يعني اننا بانتظار مراسيم دفن هذا الشعار لتعلق فوقه لافته عنوانها الاتفاق النووي.
البعض قد ينتقص من إيران وثورتها بسبب هذه التحولات باعتبارها تنازلا عن المبادئ التي جاءت بها ثورة اية الله الخميني، لكن الثورات عودتنا انها لا تتمسك بشعاراتها الى الابد وربما هذا الكلام في العصور السابقة اما العصر الحديث فالشواهد تؤكد ان الثورة الحقيقة هي تلك القدرة على توظيف الوسائل المتاحة لخدمة الدولة، وما نراه اليوم هو البراعة السياسية الإيرانية وتوظيف وسائل القوة الناعمة والخشنة من اجل الوصول الى تحقيق حلم الإمبراطورية الإيرانية (حتى وان نفى الإيرانيون ذلك)، وبأساليب الأخذ والعطاء بقيت ايران صامدة الى الان وبعدما كانت تبحث عن تثبيت نفسها كدولة باتت اليوم تبحث عن فرض دولتها كقوة إقليمية عظمي يجب ان لا يخس حقها في أي تقاسم لمناطق النفوذ.
الإيرانيون اثبتوا قدرة كبيرة على استخدام وسائل القوة الناعمة وتوظيف وسائل القوة الخشنة أيضا لهذا الغرض، فاذا ما نظرنا الى المفهوم العام للقوة الناعمة حسب ما صاغه صاغه جوزيف ناي فانه يعني "القدرة على الجذب والضم دون الاكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع" كما انه "يعني أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق". وهو ما وظفته إيران في شعاراتها في السنوات الأولى من ثورتها وكان ذلك يتناغم مع تطلعات شعوب العالم الثالث وبالتالي استطاعت تقديم مثال حي على مدى قدرتها بتحدي الدول الكبرى سواء الشرقية او الغربية لتني هي نموذجها الوطني وفقا لما تفتظيه مصالح جمهورها وما يتلائم مع ثقافته الراسخة.
القوة الناعمة تعني الجذب او الضم دون الاكراه كما قلنا في الفقرة السابقة، ووسائل الجذب تتغير والدولة التي لا تعي ذلك لا تستطيع مجارات ركب الدول الطامحة لإثبات الجدارة السياسية، وثورة إيران الطامحة لم تأتي من اجل نزهة سياسية بل منذ البداية اثبتت انها تملك مشروعا كبيرا وهي ماضية في تنفيذه.
وسائل الجذب او وسائل القوة الناعمة تغيرت والتقنية والقدرة على الإنتاج المحلي دون طرق أبواب الدول العظمى هي من سمات الدول الناجحة وكل شعوب العالم تنظر للدول التي تعتمد على نفسها نظرة احترام واجلال حتى وان انكرت ذلك مكابرة، وإيران اليوم استطاعت توظيف تلك التقنيات التي تملكها لخدمة قوتها الناعمة وتصدير صورتها على انها دولة ذات سيادة وليست حصانا جامها بل عبارة عن شعب طامح لبلوغ أهدافه. وقد رسخت الصناعات الإيرانية سواء العسكرية او المدنية صورة أفضل من العادية واقل من الناصعة. والاتفاق النووي كان مفعوله قد اعطى دفعة نووية بالنسبة لتصدير صورة إيران.
يظن البعض ان القوة الناعمة تقتصر على التركيز بدعم مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره. لكن حتى القوة العسكرية وعلى الرغم من انها موجه لإخافة الأعداء لكنها تؤدي دورا في دعم وسائل القوة الناعمة للدول، فالصناعة العسكرية الإيرانية على سبيل المثال أصبحت مثار اعجاب الكثير من الشعوب الطامحة الى الاستقلال وهناك من يتحسر على ما وصلت اليه هذه الدولة التي انهت وبظروف عسيرة مرحلة المراهقة الثورية، وهذه بالتأكيد تؤشر على نجاح إيراني في تصدير نموذج يحتذى به وهو اهم اهداف القوة الناعمة.
وربما هناك من يعترض على هذا الكلام بسبب الحملات المستمرة لاستعداء إيران، ونحن نتفق مع هذا الرأي وهناك عداء متصاعد ضد الجمهورية الإسلامية. ولكن حملات شيطنة إيران ما هي الا بسبب نجاح القوة الناعمة الإيرانية باختراق حدود تلك الدول المعارضة للنفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وهذه الحوارات والتحالفات الجديدة تأتي كردة فعل لتقويض النجاح الإيراني في توظيف وسائل القوة الناعمة بأفضل الوسائل المتاحة.
ومما يدعم وسائل القوة الناعمة لدى إيران هو تصدير نفسها كدولة مستقرة وسط منطقة تسودها الصراعات وتحدث المركز العربي للبحوث والدراسات في تقرير له على ان إيران تقدم نفسها إلى العالم بوصفها الدولة الأكثر اعتدالا في الشرق الأوسط والأكثر أمنا بين دوله المختلفة، بما في ذلك إسرائيل وتركيا. وقد ثبت من تتبع الأوضاع في العراق وفي سوريا وفي لبنان، إنه لا يوجد حل لمشكلات هذه البلدان بدون مشاركة إيرانية. ومن المرجح أن تعتمد أوروبا والولايات المتحدة على إيران كلاعب إقليمي رئيسي في الشرق الأوسط خلال السنوات الخمس المقبلة على الأقل.
الحرب على داعش كانت فرصة لتدعيم صورة إيران فمع تزايد المخاوف من توسع تنظيم داعش في العالم الغربي، إلى جانب التهديدات التي يجسدها فعلا في مناطق الشرق الأوسط قدمت إيران نموذجها الإسلامي إلى العالم على أنه الإسلام الصحيح غير المتطرف وغير المخيف لغير المسلمين. وهذا ما يفسر مشاركتها الواسعة في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا، بل ان الولايات المتحدة باتت تفضلها على حليفتها المملكة العربية السعودية ودعوات الرئيس الأمريكي باراك أوباما للسعودية بإقامة سلام بارد مع إيران تشير الى هذا التحول الأمريكي.
اما القضية الفلسطينية فكانت أفضل هدية قدمها العرب لتلميع صورة إيران لا سيما بعد التقارب بين الحكومات العربية واسرائيل، وقدمت نفسها باعتبارها المحامي الوحيد عن القضية العربية والإسلامية المركزية فمن خلال دعمها للفلسطينيين استطاعت كسب جمهور عربي كبير، ما خلق بيئة مناسبة لتقبل الدور الإيراني الإقليمي عبر هذا الباب.
الإيرانيون غيروا الكثير من المفاهيم السائدة في السنوات الأخيرة، فهم يمثلون الدولة الوحيدة التي استطاعت تثبيت حقها النووي بالطرق السلمية من دون دعم الدول العظمي بل انها خرجت من صراع أوقف دول العالم مندهشة امام صبر الإيرانيين وثباتهم على موقفهم، وبتخليها عن شعار "لا شرقية ولا غربية" كسبت ود بعض الدول في السابق، وبحصولها على حقها النووي استطاعت كسب جميع دول العالم بما فيها أمريكا التي تعدت حدود تقويض الاتفاق النووي الى الاستفادة من التقنيات النووي الإيرانية.
ما يروج له من تقويض نفوذ إيران ليس دقيقا فهدفهم اليوم هو كسب قلوب شعوب الدول العظمى، فثورتها قد تم تصديرها والعراق والبنان وسوريا واليمن شاهدة على ذلك وقد أعطت صلاحيات واسعة لوكلائها في المنطقة ليقوموا بمهمة الحفاظ على المكتسبات الثورية، والبوصلة تتجه اليوم الى سبر فضاءات العالم لحجز مكانها في قائمة الدولة المؤثرة عالميا وليس مستبعدا ان تكون ضمن مصاف الدول العظمى.
اضف تعليق