من المشكلات الرئيسية في النظرية الاجتماعية مشكلة العلاقة بين ما يصدر عن الافراد من أفعال تبدو في ظاهرها افعالا مستقلة، وبين النظام الاجتماعي المهيمن المستقر، وقد قدم دوركايم تصويرا نابضا بالحياة لهذه المشكلة في دراسته عن الانتحار، وذلك بملاحظته انه بينما يتعين ان يتم فعل الانتحار بمعزل عن المجتمع بطبيعة الحال، وانه فعل يستحيل تكراره، الا ان عدد حالات الانتحار التي تحدث في مجتمع معين تتسم بدرجة عالية من القابلية للتنبؤ من سنة الى أخرى. وقد تفهم هذه المشكلة عن طريق طرح الأسئلة التي تبحث عما اذا كانت الأبنية الاجتماعية تستطيع ان تحدد او تقرر مقدما شكل الأفعال التي تصدر عن الافراد ام لا، واذا كانت تستطيع ذلك فكيف يتسنى لها هذا الامر، كما تفهم هذه المشكلة عن طريق طرح الأسئلة التي تبحث عن الكيفية التي يتم بها خلق مثل هذه الأبنية الاجتماعية.
ولعل انجح الحلول لهذه المشكلات واحظاها بالقبول على وجه العموم قد قدمها علم الاقتصاد، وذلك فيما قدمه ادم سميث من وصف للسوق الحرة. فالفعل المبني على المصلحة الشخصية فقط، والذي يصدر من كل فرد بصورة حرة مستقلة عن الاخرين جميعا، هذا الفعل يفضي في نهاية الامر الى التنسيق بين كمية السلع المعروضة وكمية السلع المطلوبة. وتبدو السوق في ظاهرها كأنها نتيجة لفعل "يد خفية" موجهة، تماثل في افعالها الخفية ما يصدر من أفعال عن الشخص الذي يحرك الدمى في مسرح العرائس "دون ان يراه الجمهور". لكن تحليل سميث للدور الذي تقوم به الية السعر يبدد هذا الوهم الخادع.
وقد أدى نجاح هذا التحليل الذي قدمه سميث لعالم الاقتصاد الى تضليل عدد من الفلاسفة السياسيين، وبخاصة في معالجتهم لنظرية العقد الاجتماعي واصولها القديمة المتوارثة فطبقوه على أمور تقع خارج حدود نطاقه الدقيق.
وفي النظرية الاجتماعية، تضمنت المحاولات التي بذلت لتخفيف التوتر بين (الفرد) والبناء الاجتماعي اتجاهات شتى متباينة. وفي الطرف الأقصى لهذه الاتجاهات نجد أصحاب النزعة الوظيفية البنائية (حال كونهم متابعين لجانب من تراث دوركايم) وأصحاب النزعة الماركسية البنائية، وكلا الفريقين يميل الى التهوين من شأن حرية الفرد، حيث نزلوا بدرجة الفاعلين الاجتماعيين الى الدرجة الهابطة الذي اسماها دينس رونج درجة المسيرين او مسلوبي الإرادة الذين قدر عليهم ذلك، او الى درجة يكونون فيها مجرد حمالين لهذا البناء يتبعون المباديء التي اعتنقوها اثناء فترة التنشئة الاجتماعية اتباعا سلبيا.
وعلى اقصى الطرف الاخر نجد من ينكر وجود البناء الاجتماعي انكارا تاما من أصحاب النزعة الاثنوميثودولوجية "منهجية الجماعة"، او بشكل اخف وطأة عند أصحاب النزعة الفردية المنهجية الذين يعترفون بوجود البناء الاجتماعي ولكن كموجه للافراد لايوفر لهم الا وصفا مختزلا للأفعال الفردية التي هي في أساسها كثيرة العدد. وهو بهذا الوصف بناء ليس لديه القوة القاهرة التي يسيطر بها على الفرد.
وفيما بين هذين الطرفين المتناقضين بذلت محاولات شتى لفهم الأبنية الاجتماعية باعتبارها منتجات صنعها فاعل انساني يتسم بالكفاءة، وهي المنتجات التي يجب بدورها ان تكون جامعة لوصفين أولهما ان تتلقى الدعم والتأييد بصورة فعالة (ولو بطريقة تلقائية عن غير قصد) او يتم إعادة انتاجها من قبل مثل هذا الفاعل، وثانيهما ان توفر للافراد ظروفا تحدد مجالات الأفعال (لا ان تقرر هذه الأفعال) التي يمكن فهم الفعل في نطاقها، واضفاء معنى عليه، وانجازه.
وفي ضوء ذلك، فان التوتر بين الفاعل والبناء الاجتماعي قد يفهم من خلال ماقدمه هابرماس من تحليل للنظام ولعالم الحياة، ومن خلال نظرية انتوني جيدنز عن "التشكيل البنائي"..
خصص هابرماس لماكس فيبر أكثر من مائة صفحة في كتابه "نظرية الفعل التواصلي"، حيث يعيد هابرماس قراءة وتأويل سوسيولوجيا فيبر: ونقطة انطلاقه هي إبرازه لخاصية المعنى والقصد للفعل الإنساني كما يؤكدها فيبر، فليس كل فعل إنساني هو نشاط جدير بالاهتمام السوسيولوجي باستثناء ما له معنى مرتبطا بقصد الفاعل صريحا أو ضمنا. وبالرغم من وقوع هذا التحديد الفيبري للفعل الاجتماعي مقترنا بالمعنى والقصد في دائرة فلسفة الوعي، يلاحظ هابرماس تضاربا لدى فيبر فيما يخص مضمون هذا الفعل في حد ذاته: فمن جهة هو مرتبط أصلا وحصرا بفاعل معزول وبعينه، ومن جهة أخرى هو علاقة لا يمكن أن تغيب بالكامل حضور الآخر. في الحالة الأولى يحسب الفاعل أنانيا من أجل نجاحه الشخصي المحض ( فعل أداتي)، وفي الحالة الثانية يحضر الآخر ضمن حساب استراتيجي لبلوغ القصد المخطط له ( فعل استراتيجي). والنتيجة واحدة، هي: البحث عن النجاح والسعي لتحقيقه. في المقابل يطرح هابرماس نوعا آخر من الفعل الاجتماعي أسماه الفعل التواصلي الذي لا يبحث عن مجرد النجاح الشخصي فقط، بل تحقيق التفاهم عن طريق الحوار.
اضف تعليق