إن ضعف صانع القرار العراقي لا يجعل صانع القرار الإيراني فقط، بل كل صنّاع القرار في المنطقة والعالم يتعاملون معه كتابع وكأخ أصغر ضعيف أكثر منه شريكاً، وهذا ما لم يعدّ مقبولا لمكانة العراق وحضارة شعبه وعمقه الروحي والاستراتيجي
بعد اقتحام المنطقة الخضراء يوم الثلاثين من نيسان/أبريل الماضي من قبل جموع من الجماهير العراقية الغاضبة على أداء حكومتها خلال السنوات الماضية، في ظل أزمة اقتصادية خانقة بدأت تضغط بشدة يوماً بعد آخر على الطبقات الشعبية البسيطة، وأزمة أمنية مستمرة تفرضها ظروف المواجهة مع تنظيم "داعش" والتنظيمات الإرهابية المختلفة، تفاجأ الجميع بقيام أعداد كبيرة من هذه الجموع بإطلاق شعارات معادية لإيران من داخل ساحة الاحتفالات الكبرى وسط المنطقة الخضراء تطالبها -في مضمونها- بعدم التدخل أمنياً بشؤون العراق، كما تضمنت كلمات معادية للجنرال الإيراني البارز "قاسم سليماني".
لقد أثارت هذه التصريحات اهتمام المراقبين جميعاً دون استثناء، ولكن حرصت القنوات الرسمية في البلدين على عدم التطرّق إليها أو إعارتها اهتماما واسعا، وهذا -في حد ذاته -خطأ قاتل. فكثير من التفاصيل الصغيرة التي يجري إهمالها أو التغافل عنها من الممكن أن تجرّ إلى عواقب كبيرة لم يحسب حسابها. أما فيما يتعلق بالقنوات التي تمثل القوى السياسية داخل العراق، فقد حاول بعضها إلصاق صفة البعثية والنوايا الفاسدة وعدم الشعور بالعرفان والجميل بتلك الحناجر التي صدحت بها، وكانت أسخن الحوارات وأكثرها انقساما وحدّة هي تلك التي شهدتها صفحات التواصل الاجتماعي، ولاسيما المرتبطة منها بحسابات الفيس بوك.
وعموما لم تخرج النقاشات الرافضة لهذه الشعارات من اتهام مطلقيها –أيضا- بالعمالة، والبعثية، والنوايا السيئة المقصودة، وتجاهلهم رفع شعارات مماثلة ضد قطر والسعودية وتركيا لدور هذه الدول السلبي في دعم التنظيمات الإرهابية داخل العراق، فضلا على تجاهلهم للدور الإيراني في دعم العراق أثناء معركته المستمرة مع قوى الإرهاب، وما قدمه الإيرانيون من تضحيات في قواطع عمليات جرف الصخر (جرف النصر الآن) وسامراء والفلوجة وكركوك وغيرها.
أما المؤيدون لها، فإنهم يحملون على سياسة إيران الاقتصادية، التي نتج عنها إغراق السوق العراقية بالبضائع الإيرانية وتدمير الزراعة والصناعة في بلدهم، وعدم احترام سيادته، من خلال اقتحام الزوار الإيرانيين للحدود بين البلدين أثناء زياراتهم للمراقد المقدسة بدون انتظار الحصول على سمة الدخول الرسمية، وتأييد إيران لبعض القوى السياسية العراقية، ولاسيما تلك القوى التي يحمّلها المحتجّون مسؤولية تردي الوضع في بلدهم، واستفحال آفة الفساد الإداري والمالي وغيرها من السياسات الإيرانية التي يراها المحتجّون لا تخدم مصلحتهم الوطنية.
وقبل الحكم على وجهات نظر الطرفين، لابد من الدقة وعدم الانجراف العاطفي الأعمى في مناقشة القضية. فاتهام أصحاب الشعارات المرفوعة داخل المنطقة الخضراء بالبعثية لا يصمد أمام النقد، حتى لو كان بينهم بعض المندسين من بقايا المحافظين على ولائهم البعثي؛ لأن معظم المشاركين فيها هم من الشباب في عمر العشرينات، وهؤلاء نشأوا وتشكلت أفكارهم ومواقفهم السياسية في ظل العملية السياسية الحالية التي مرّ عليها ثلاث عشرة سنة، ولا يمكن -بأي حال من الأحوال- أن يكون بناؤهم الأيديولوجي بعثياً، فمواقفهم الفكرية ومشاعرهم الناقمة هي ردود أفعال على مرحلة ما بعد البعث وليس العكس، وإذا كان هناك من خطأ حاصل في بنائهم الفكري فتتحمله القوى السياسية الماسكة بزمام السلطة اليوم في العراق، فالأيديولوجية البعثية صارت بضاعة فكرية كاسدة في ظل بيئة إقليمية ودولية تجاوزت الشعارات القومية وتعبئتها العاطفية.
أما اتهامهم بالفساد أو النوايا الفاسدة، فمردود؛ لأنهم اقتحموا المنطقة الخضراء بداعي محاربة الفساد وإيقاف الهدر بالمال العام، ولا يمكن اجتماع النقيضين، ثم إنهم لا ينتمون إلى الطبقة التي وضعت العراق على حافة الإفلاس المالي، بل هم ينتمون إلى طبقات شعبية رثّة اقتصاديا تعيش في الأزقّة والأحياء الشعبية الضيّقة وفي مناطق التجاوز غير المرخصة حكومياً.
كما أن اتهامهم بالعمالة فيه تجني كبير وعدم رشد سياسي واضح؛ لكون هذه التهمة تهمة جاهزة دائماً نسمعها من قبل الحكومات الهشة وعديمة الشرعية اتجاه كل رأي معارض، فقد سمعناها من نظام زين العابدين في تونس، ونظام القذافي في ليبيا، ونظام حسني مبارك في مصر، ونظام علي عبد الله صالح في اليمن، ونظام صدام حسين في العراق، ونظام بشار الأسد في سوريا، ومن أنظمة الخليج المتهالكة في السعودية والبحرين وقطر وغيرها.
نعم العمالة أمر شائع في العلاقات الدولية ومن الممكن أن يقوم بها أفراد معدودون، أما أن تتحرك بها جماهير واسعة فهذا أمر مرفوض وليس صحيحاً من السياسي والوطني الحكيم أن يبادر إلى اتهام شعبه بالعمالة؛ لأنه يحكم عليه بالخيانة وانعدام الهوية وسوء التنشئة والتربية الوطنية وعدم الإحساس بالمسؤولية... ومثل هذه الصفات تنسف أساس الرابطة التي تربط الشعب بأرضه وحكومته وتأريخه وثقافته وتخرجه من قلب المعادلة الحضارية في بناء الدولة وتنسف مقومات الأخيرة وأسس استمرارها.
إن إدراك ما تقدم، يجعل المحلل لحجج ودوافع الطرفين يجد أنها لا تخلو من الصدق، فإيران فعلا قامت بدور فاعل لا يمكن أن ينكره منصف لمساعدة العراقيين في صدّ الهجمة الإرهابية الشرسة التي تعرضوا لها بعد العاشر من حزيران/يونيو 2014، اذ قدمت لهم السلاح والعتاد والمشورة والتواجد الميداني في خنادق القتال، ووضعت خطوطا حمراء لما يمكن لصبرها أن يحتمله، وصرّحت بجلاء أنه في حال تجاوزها ستدخل الحرب مباشرة ضد القوى الارهابية، وما زال الإيرانيون يقدمون الدعم الجلي للعراق؛ لضمان الانتصار في هذه الحرب، ولولا وجودهم الفاعل لما تم هزيمة الإرهاب في كثير من قواطع العمليات، وان مواقفهم كشعب وحكومة هي أفضل بصورة لا تقبل القياس من مواقف كثير من جيران العراق الآخرين لاسيما العرب منهم.
ولكن من جانب آخر، يرى أن السياسات الإيرانية ساهمت فعلا -بقصد أو من دون قصد -في تدمير الاقتصاد الزراعي والصناعي في العراق، وقد سمعتُ هذا الكلام مرات عدة من صناع القرار العراقي داخل الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية في أحاديث جانبية، إذ غالباً ما كانوا يتهامسون بذلك ويقولون إنهم غير قادرين على الجهر به في وسائل الإعلام، كما سمعته من كثير من المزارعين والصناعيين العراقيين، وفعلا لم يحترم كثير من المواطنين الإيرانيين قوانين السفر والمرور إلى داخل الأراضي العراقية في مرات عدة، وهذه حقيقة وليست رجماً بالغيب أو افتراء.
كما أن إيران لم تمارس ضغطها في تطوير منظومة الحكم في العراق؛ لكونها تعاملت مع القوى السياسية على أساس قربها وبعدها وولائها لنظام الحكم الإيراني، فكان بعض حلفائها داخل العراق يستقوون بها على خصومهم العراقيين بكل الصور التي يمكن للعقل أن يتخيلها، في وقت كانوا فيه متورطين بملفات فساد وضعف قيادة وأداء لا يمكن التغافل عنها، فعملت هذه السياسة على دعم حكم الأشخاص لا حكم القانون، وبناء السلطة لا بناء الدولة، في وقت كانت فيه مصلحة العراق وإيران تقوم على بناء الدولة لا بناء السلطة، ويبدو أن صانع القرار الإيراني قد التفت مؤخرا الى هذه القضية، عندما وجد أن الجري وراء بناء السلطة في العراق قاد إلى بروز تهديد إرهابي لا يحتمل وصل خطره إلى حدود إيران الدولية، وهو يسعى إلى أبعد من ذلك في العمق الإيراني.
إن الصراحة أحيانا تكون مؤلمة، لكنها أيضا مفيدة. وما لا يتجرأ على الحديث به الساسة في العراق وإيران، هو الحديث الأفضل لمصالحهم المشتركة في المدى القريب والبعيد. ومن المفيد لصنّاع القرار في الجانبين إعادة النظر جذريا في مواقفهم وسياساتهم السابقة؛ لمعرفة أين أخطأوا، فهتافات المنطقة الخضراء بمثابة ثقوب في جدار العلاقة العراقية -الإيرانية بتراكماتها خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية، ومن لا يحسن القراءة من خلال الثقوب لا يمكن أن يكون قائداً استراتيجياً محنكاً.
بقيت كلمة أخيرة ينبغي على الساسة وصنّاع القرار في العراق أن يسمعوها، وهي تحتاج منهم إلى وقفة طويلة فحواها: أنه لم تفارق مسامعي تلك الكلمات التي قالها الزميل من مركز الدراسات الاستراتيجية الذي يرأسه السيد على أكبر ولايتي "مستشار السيد الخامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران" عندما سألناه أثناء زيارته إلى مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء مطلع عام 2015: هل تتعامل إيران مع العراقيين كشركاء أم كتابعين؟، فردّ بوضوح وصراحة: عندما يكون هناك حليفٌ قويٌ في العراق فنحن نتعامل معه كشريك.
خلاصة الكلام: إن ضعف صانع القرار العراقي لا يجعل صانع القرار الإيراني فقط، بل كل صنّاع القرار في المنطقة والعالم يتعاملون معه كتابع وكأخ أصغر ضعيف أكثر منه شريكاً، وهذا ما لم يعدّ مقبولا لمكانة العراق وحضارة شعبه وعمقه الروحي والاستراتيجي.
اضف تعليق