القنفة، البطانية، النستلة، وغير هذه الأشياء والمفردات، تولد من المشهد السياسي في العراق على نحو متتابع، وتنتشر بين أفراد الشعب وغيرهم من المتابعين، كإيقونات (سياسية)، توحي بأحداث لا يمكن للذاكرة الشعبية أن تنساها..
رئيس مجلس النواب العائد بعد (إقالته) يقف أمام (القنفة) بوجه حزين، هذا الحزن ليس حقيقيا، إنه حزن كاذب، يبدو وكأن مصدره خسارة (رئيس مجلس النواب)، لمنصبه بعد الجلسة البرلمانية التي صوتت بإقالته، مثل هذه المشاهد التي تم عرضها على شاشات التلفاز، رسّخت (القنفة) كإيقونة ترتبط بحادثة سياسية لا يمكن أن ينساها الشعب العراقي، فهي تمثل لدى كثيرين انتفاضة شعبية، فيما ينظر إليها أصحاب السلطة بمنظار آخر.
السياسيون العراقيون، لم يحسنوا التعامل مع إدارة القضايا والأزمات السياسية التي يصنعونها هم بأنفسهم، ويعوزهم التخطيط والفهم، البطانية هي إيقونة أخرى تحتفظ بها الذاكرة الشعبية، آلاف البطانيات تم توزيعها مجانا كما ذكرت وسائل الإعلام في حينها، على الناخبين لكسب أصواتهم لصالح جهة حزبية معينة، الشعب جائع ومحتاج، يُضاف أيضا قلة الوعي، والوقت كان فصل الشتاء، أذكياء أولئك المرشحين، عرفوا من أين تُؤكَل الكتف، شرعوا بتوزيع البطانيات على نساء غير متعلمات، لكن كل واحدة منهن صوت جيد، كذلك على الشيوخ المسنين وكل منهم صوت مضاف يقرّب الحزب من السلطة.
يبنون صروحهم من الزيف والكذب، يصلون الى السلطة والمال بطرق بائسة، يزرعون إيقونات سياسية عجيبة في رؤوس الناس، تاريخ البلد السياسي القريب لا ينسى هذه الأشكال، يبحثون عن الفائدة الآن، أما ماذا سيحدث غدا، هذا لا يعنيهم مطلقا، لأنهم أبناء اليوم، باحثون عن السلطة والمال والجاه، ما سيحدث في الغد نتركه للغد هكذا يقولون دائما، وهكذا يتصرفون دائما، فالإنسان كما يقولون ويعتقدون هو ابن يومه، هذه هي عقلية الطبقة السياسية.
النستلة إيقونة حققت حضورا جيدا بين الناس، بطلها معروف، ولكن من حسنات الرجل أنه اعترف بهذا الخطأ، وأعلن ان الناس من حقها أن تحتج عليه، استطاع أن يمتص بعضا من سخرية الشعب وغضبه، ولكن الحق يُقال، النستلة بقيت إيقونة راسخة، لا احد يستطيع محوها من أذهان الناس.
كثيرون يتساءلون، لماذا هذا الفشل؟، وكثيرون يجيبون عن هذا التساؤل، وهؤلاء خبراء، يعرفون بواطن الأمور وما يظهر منها، كلهم يقولون، أننا (دولة بلا تخطيط)، دولة هلامية اذا صح القول، دولة لا أركان لها، دخل الاحتلال في نيسان 2003 وهشم اركان الدولة، حطم كل شيء فيها، حولها الى ركام على الأرض، وطبق عليها ما سمّي في حينها بنظرية (الفوضى الخلاقة).
البحث عن إعادة صياغة لبناء السعب العراقي وعلاقاته وعاداته وأفكاره بطرق جديدة غير تلك التي كانت سائدة قبل نسيان 2003، قد يبدو هذا الهدف جيدا، ولكن ما جاء بعد ذلك من أحداث، أثبت أن سبل ووسائل الوصول الى هذا الهدف كانت خاطئة، منها مثلا مجلس الحكم، كل حاكم يحكم العراق شهرا، لأول مرة في العالم يحدث مثل هذا الحكم، جاء بعده (غارنر)، ثم (بريمر)، الحاكم الأمريكي الذي سمي بالحاكم المدني، ولكنه ليس كذلك.
توالت الأحداث، والدورات الانتخابية، لم يكن يعرف العراقيون خفايا اللعبة، هبّوا نحو صناديق الاقتراع، الأحزاب السياسية ومن كان يقف وراءها، استغلت الشعب، وانتهكت حقوق الناخب، ومارست أبشع الطرق والسبل كي تصل الى السلطة، بما في ذلك الخداع، ومع ذلك كان الشعب يأمل خيرا، ويرجو التعويض عن تلك السنوات العجاف.. عقود من العذاب لا ينساها الناس مطلقا، عقود من الحرمان، تمنى الشعب أن ينساها بتعويض الحكم الجديد له عن تلك الآلام.
لكن برع الساسة، في أمور اخرى، لا علاقة لها بتعويض الشعب، برعوا في الفساد، الصفقات المشبوهة، غسيل الأموال وتهريبها الى الخارج، قلة الخدمات، (الأتاوات)، (القومسيون) عن كل مشروع، يحدث هذا في الوزارات، ومجالس المحافظات، ومديريات الاستثمار، فساد معلن ومبطن، يكتسح البلد من رأسه حتى أخمص قدميه.
وعندما بلغ السيل الزبى، خرج الشعب متظاهرا في 2011، أعطى المتظاهرون شهداء في ريعان الشباب، تم ملاحقة قادة المظاهرات، بعضهم تم تغييبه، وآخرين تم تصفيتهم، دولة المؤسسات التي حلم بها العراقيون بقيت حلما لا أكثر.
الجديد في المشهد السياسي العراقي، هو البراعة في صناعة الإيقونات السياسية، تزدهر هذه الصناعة بين مرحلة وأخرى، فبين (القنفة والبطانية) عشر سنوات تقريبا، وكما يتوقع العراقيون، أن عصر الإيقونات السياسية سوف يمتد الى سنوات قادمة، قبل أن تلوح في الأفق حلول تصنعها عقول وإرادات لم تظهر على السطح السياسي بعد، لأسباب يجهلها الجميع.
من حسنات هذه المرحلة، حرية الإعلام، فما يحدث في جانب صناعة الإيقونات السياسية، يقابله جانب حري الرأي والإعلام، نأمل كعراقيين أن لا نعود الى مراحل القمع، فالشيء الوحيد الذي يخفف من ثقل الأخطاء السياسية، هو الحديث عن هذه الأخطاء بحرية، وهذا يحدث اليوم، وهو الذي يخفف عن العراقيين بعض الألم، ولكن يأمل العراقيون أيضا، أن لا يعتاد القادة صناعة (الإيقونات السياسية)، ويتركون البلد في مهب الريح!.
اضف تعليق