q

يعيب الكثير من العراقيين، وربما غيرهم من العرب او الاجانب ما حدث في مجلس النواب العراقي خلا الأسابيع الماضية، من مواقف وأقوال وحركات واعتصام مجموعة من النواب، واطلاق أهازيج (وهوسات شعبية)، ورمي قناني الماء بعضهم على بعض، ودخول قوات عسكرية وكلاب بولسيسية، وحدوث مشادات كلامية بين النواب المعتصمين والمضادين لهم، وسوى ذلك من الأمور التي قدمت مشاهد تضج بالتناقضات التي تعكس في حقيقتها كثرة التنوع في المكونات العراقية في مجالات الاعراق والأديان والطوائف وسوى ذلك.

هل صحيح، أن ما حدث تحت سقف البرلمان العراقي، يشبه ما يحدث بين مكونات شعبه؟، في السابق كان هناك صمت بالقوة، على الآراء المختلفة، هناك إجبار على وحدة الرأي ولا يتم ذلك بالإقناع، بينما لا نعتقد ان هذه القسرية صحيحة، نحن نريد اعلان الاختلاف والتعدد الرؤيوي، نريد تناقضات تحت سقف الحرية، نريد فوضى ولكن (فوضى على إيقاع القواعد الديمقراطية)،

عندما اقول نريد، أقصد نتمنى، نأمل، ومهم كثيرا أن نسعى، لا شيء يمكن أن يحدث بلا سعي حثيث، لا يمكن أن تقطف ثمرة قبل أن تزرع بذرة في تربة جيدة محروثة ومسمّدة ومهيّأة لاستقبال البذار، فما حدث في مجلس النواب (ولا يزال يحدث) وقد يستمر، انعكاس للمشكلات التي يعيشها العراقيون، كل حركة صغيرة وكبيرة، كل صوت واهزوجة، كل فعل صغير او كبير، كل كلمة اطلقها النوى فردى او جماعات، كل ذلك هو صورة عن حقيقة الشعب العراقي، وها أنهم يختلفون تحت قبة البرلمان، هذا الرمز الدستوري لسلمية الشعب والدولة.

ما حدث صورة جيدة لديمقراطية الشعب العراقي، وهو في جميع الأحوال أفضل بكثير من الصمت، او إجبار الجميع على توحيد الكلمة والرأي، هذه ليس ديمقراطية، أقصد عندما تجبر ممثلي الشعب على اسلوب ورأي وفكر واحد بحجة توحيد كلمة الشعب العراقي، لكن هذه الجبرية ليست من الديمقراطية بشيء، الصحيح هو أن تتناقض الآراء وتتعارض الأصوات والأفكار، وكلٌ يدلي بدلوه بلا ضغوط من أي نوع كانت، فالكل أحرار فيما يرون ويرتؤون ويقولون، لا يوجد وصي عليهم سوى الدستور والشعب الذي هو مصدر السلطات.

عندما لا يتناقض ممثلو الشعب فيما بينهم، عندما تغيب الفوضى (المنضبطة بالايقاع الديمقراطي)، عندما لا تتناقض الأفكار والآراء، فعليك أن تفهم أن هنالك قوة تجبر الجميع على (الاتفاق الكاذب)، او الاتفاق المبطّن، او الذي لا يستند الى حقيقة الأمور التي تدور رحاها في الواقع، لذلك سوف يبقى ذلك الاتفاق هشا، غير قادر على الصمود امام المواقف والوقائع التي تجري في الخفاء او العلن.

كذا يمكن أن يعطي (العراك) والفوضى في مجلس النواب، حالة تعويضية، تمتص غضب الجماهير، في احدى المرات قرأتُ لافتة في شارع المتنبي يحملها احد العراقيين وهو يتجول بين الناس بصعوبة، مكتوب في هذه اللافتة (نقاش لمدة سنة كاملة، ولا قتال لمدة يوم واحد)، نعم هذا هو القول الصحيح، ليس هناك ثمن مهما ارتفعت قيمته يساوي فقدان حياة انسان بسبب تناقض الآراء، فالأفضل دائما امتصاص النقمة بطريقة التعويض، ويدخل هنا الكلام والصراخ والحركات غير العنيفة، و (الهوسات)، واعلان المعارضة وسوى ذلك.

ما حدث في مجلس النواب مشهد حقيقي يصطف الى الديمقراطية الصادقة، لا نزيد صورا تعلوها الرتوش الكاذبة، لا نزيد تجميلا كاذبا، اظهروا للجميع خلافاتنا على الهواء الطلق، ليس بطريقة نشر الغسيل، والاساءة للآخر، انما نريد أن نضع كل شيء تحت مجهر الوضوح، كل شيء تحت شمس النزاهة، بشفافية عالية، تتيح الرؤية للجميع، لا شيء مخفي عن الجماهير او غيرها، ما يحدث بين نواب الشعب، هو ما يحدث بين مكونات الطبقة السياسية، وهذه الطبقة منبثقة من الشعب.

الاختلاف في الاراء حالة جيدة، المكونات السياسية يمكن أن تختلف فيما بينها، ولكن في حدود عدم الاساءة لحقوق الشعب، وهنا نقصد حقوق الناس، خاصة المالية منها، والحريات، والرأي، ليختلف السياسيون بالصوت العالي، بالهوسات، بالتصفيق باليدين، بالضرب على الطاولات الخشبية، بكل حركة وصوت، تمثل تنفيسا عن الكبت والاحتقان والحرمان الذي تعاني منه الجماهير.

انتقد كثيرون ما حدث في قاعة مجلس النواب، وكثيرون قالوا لا يصح للنائب الذي يصل الشعب أن يظهر أمام العالم على الهواء مباشرة في شاشات التلفاز، ولكن بالنتيجة، هذه هي الديمقراطية الحقيقية، كلنا نتذكر مجلس النواب العراقي في ظل النظام السابق، انهم لا يصلحون إلا (لهزّ) الرؤوس دلالة الموافقة على القرارات والمراسيم المعدَّة سلفا، إنهم يوقعون ويبصمون على جميع القرارات المكتوبة لهم بالقوة، ومن يخالف يعرف مصيره مقدما.

هل تريدون أن نعود الى مجلس نواب (شكلي) يوافق على كل شيء من دون نقاش، ولا يمثل صورة حقيقية لمكونات الشعب العراقي؟ هل تريدون مجلس نواب لا يجيد سوى قول نعم للحاكم؟؟ ثم يغفو في مرحلة سبات عميق؟؟ طبعا كلا وألف كلا، نحن نريد مجلس نواب (فوضوي)، مختلف، يطلق العنان للصوت، والكلمة، والاختلاف، والرأي الآخر، والحرية بكل ما تعنيه هذه الكلمة، نحن مع الفوضى التي تقف الى جانب حرية الشعب؟؟ ونرفض كل ما يقيد حرية مجلس النواب واعضائه على اختلاف انتماءاتهم ومكوناتهم، فليختلف الجميع مع الجميع، ولتصح الآراء كونها تختلف مع بعضها، فـ (الآراء إن اختلفت صحَّـت)، كما أن (اختلاف الرأي لا يُفسد للود قضية)، قالوها قبل وقت طويل، لذلك علينا أن نختلف تحت سقف الديمقراطية، وهذه هي ديمقراطيتنا الجديدة.

هذه بعض صفاتها، انها تشبه شاشة التلفاز، نرى فيها تناقضات الشعب، عبر تناقضات ممثليه، تناقضات في الرأي والقول والصورة والموقف والحركة وووو، ولكن بالنتيجة، سوف نعرف جميعا، أن كل ما يحدث يقع ضمن (إطار) الحرية.. وهذا أعظم انجاز حققه العراقيون حتى الآن.

......................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق