لا أدري مدى صحة القصة التي تقول أن الولايات المتحدة زرعت عميلا في اعلى هيئة لاتخاذ القرار في الاتحاد السوفيتي سابقا كانت مهمته الوحيدة أن يعرقل القرارات الجيدة ويفسد كل القرارات الصائبة المقترحة ويسهم في اختيار الشخصيات الضعيفة غير الكفؤة في الوظائف الهامة أو الحساسة... إلا أن العبرة من هذه المروية سواء كانت حقيقية أو وهمية تبين أهمية العوامل المؤثرة في صنع القرارات التي من شأنها خلخلة أي نظام سياسي لدرجة استخدامها كسلاح سري أو معلن على مدى قريب أو بعيد في إسقاط نظام حكم أو أيدلوجية ما.
ليس بالضرورة أن يكون هناك عميلا لدولة أخرى لكي يؤثر سلبا على القرار السياسي بل الأحرى أن تكون العمالة للجهل وموروث التخلف وللعصبية والتطرف والغلو وللمصالح الضيقة ومراكز القوى على حساب المصالح العامة والوطنية خاصة في ظل غياب الحقائق والمعلومات الصحيحة الوافية، وهي الأشد خطرا من حيث التأثير على صناعة القرار خاصة في الدول التي تمر بمرحلة تغيير وما يصاحبها من ارتباك وهي الناخرة في صلب الدولة الحديثة في طور البنيان.
لذا تولي الدول المتقدمة صناعة القرار انتباها خاصا من خلال ضوابط مؤسسية ومساحات من حركة المعلومات لصناعة القرار، ولا يعني ذلك أن هذه الدول محصنة من القرارات الخاطئة بل وكما قال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي "بقدر حجم الدولة يكون فداحة خطأ قرارها السياسي " ولنا في مايحدث الان لبلدنا إسوة سيئة فالمثير هنا أن الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر تحولت إلى دولة من دول العالم الثالث تخلت عن اتزانها المؤسسي لتتقمصها رغبة في الانتقام كيفما وأينما شاءت وأصبح العامل المؤثر في صناعة القرار هو الرغبة في الانتقام وهنا كان سقوطها مروعا أخلاقيا وسياسيا وعسكريا.
من الملفت للانتباه وفي جولة بحثية سريعة لم أجد دراسات بحثية حول العوامل المؤثرة في صناعة القرار العراقي عدا دراسات سياسية تحليلية بسيطة تناولت البحث في صناعة القرار خلال فترات معينة وهي غير متكاملة لكنها رغم ذلك رصدت جملة من المؤثرات التي صاحبت صناعة القرار في العراق بعضه تأثر بعوامل الاضطراب والطائفية والتدخلات الخارجية بالإضافة إلى دور القبيلة والمؤسسة العسكرية والتجار والشخصيات الاعتبارية. ويعود بروز هذه المؤثرات غير المؤسسية إلى ضعف المؤسسات المسئولة عن المشاركة الشعبية وإلى وضع دساتير متطورة ليبرالية في واقع متخلف مع غياب الرؤية السياسية الناضجة.
ورغم مرور أكثر من 10 سنوات على قيام الدولة العراقية الدستورية إلا أن بعض هذه العوامل مازالت هي المهيمنة. فكيف ولماذا يكون هذا هو الحال بعد قيام دولة الوحدة والتأكيد على دور مؤسسات الدولة وإعلان الديمقراطية والتعددية السياسية وحرية الرأي وإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية ثم المحلية. في مقابل هذا الوضع هل هناك نجاحات مرصودة حققتها مؤسسات الدولة العراقية والمجتمع المدني والإعلام المستقل أو الحزبي في لعب دور في صناعة القرار ويصبح السؤال المطروح ما هو المنهاج الذي يتبعه صانع القرار في العراق اليوم عندما يواجه إشكالية ما وكيف يرجح حل على آخر عندما يكون عليه أن يختار بين البدائل المطروحة؟ وهل هناك تغير ما في هذا المنهاج؟ من يستشير وإلى من يرجع ولماذا يرجع إلى هؤلاء دون غيرهم، وهل هم نفس الأشخاص الذي يرجع إليهم في كل قضية؟ هل هم أهل الكفاءة أم أهل الثقة؟ هل يرجع إلى حلقات مركبة وإلى مؤسسات الدولة المعنية؟ كيف يحصل على الحقائق والمعلومات التي تساند قراره وكيف تقرأ وتحلل وتوظف؟ ما هي المعايير التي تؤثر على صناعة القرار هل هي معايير قيمية ثقافية منفعية؟
وأخيرا ما هي صلاحيات صانع القرار قانونيا وفعليا؟ سؤال رئيسي وتوابع أسئلة تحتاج بالقطع إلى مسح وتتبع وتقصي وتحليل ليس في إطار مقالة صحفية متواضعة بل إلى دراسة مستفيضة هدفها في النهاية تحسين منتج القرار السياسي في العراق ومرجعيته لمصلحة المشروع التحديثي ولخدمة التنمية وتنقيته من الانفعالية والعشوائية. مع الاخذ بنظر الاعتبار الأطر المؤسسية المساندة لصناعة القرار حيث إن الإطار المؤسسي يجب أن يمثل أحد أهم ضوابط وحلقات صناعة القرار ويتمثل مبدئيا في مرجعية مجلس النواب التشريعي والرقابي.
إلا أن التحدي الأول الذي يواجه نوابه وكتله هو مدى تأهله لممارسة مهامه بكفاءة وبوعي وطني شامل مقابل الالتزام الحزبي. والتحدي الثاني هو استمراريته في التأثير على القرار السياسي، اما الإطار الأخر الذي يمكن أن يؤثر بفاعلية في آلية صناعة القرار يتمثل في مجلس المحافظة شريطة أن تطور مهامه لخدمة مجلس النواب فتكون تقاريره المقدمة من ذوي الخبرة والتكنوقراط المخضرمين محل اعتبار لدى أعضاء مجلس النواب، وتاليا أن يتحرر من امتنانه كونه مجلس معين إما عن طريق إعداد تقارير موضوعية أو أن يتم انتخابه فنقع مرة أخرى في مأزق وصول أعضاء لا تتوفر فيهم الخبرة أو الكفاءة.
كما تلعب مراكز الدراسات والبحوث أدوارا مؤثره في صناعة القرار بل أن الأحزاب السياسية الكبرى في العالم تنشئ أو تتبنى مركز بحثية لدعم قرارها. يقول أحد كبار الباحثين في مؤسسة كارنجي للسلام الأمريكية عن دور هذه الوقفية في خدمة الحزب الديمقراطي. تتميز دراسات وإصدارات المؤسسة التي يتابعها العديد منا خاصة ما يتعلق بالشرق الأوسط والديمقراطية والحركات الدينية والمرأة بالمهارات البحثية المتطورة وسرعة التقاط قضايا الساعة.
ولاشك أن الاستفادة الفنية من هذه المؤسسة لتحسين المهارات البحثية العراقية ستعد مكسبا خاصة وأن فلسفة المؤسسة تتجه نحو الاستعانة بالباحثين المحليين في إنجاز الدراسات وفق معاييرها البحثية والعلمية.كما يمكن الاستفادة من خبرة المؤسسة في كيفية وآلية تقديم ملخص منتوجها إلى صاحب القرار. لاشك أن مركز البحوث والدراسات الإستراتيجية الذي اذا وجد سيلعب دورا أكثر فاعلية من غيرة على الساحة العراقية في التأثير على القرار بسبب الثقة الممنوحة والمكتسبة له. إلا أنه من المهم التعرف على مساحة التأثير هذه مقابل العوامل ومراكز النفوذ الاخرى. أما على المستوى الحزبي فإن مركز الدراسات الإستراتيجية فليس هناك دلالات ظاهره لتأثيره في صناعة القرار الحزبي بصورة مباشرة. لأن العوامل المؤثرة في صناعة القرار داخل الأحزاب السياسية ستحتاج دون شك إلى مبحث خاص يتناول تركيباتها البنيوية وطبيعة أداءها السياسي والذي تأثر دون شك بعملها السري في مرحلة ما وبالثقافة الأبوية والخلفية السياسية غير المتسامحة أو المستوعبة للآخر بشكل جذري وهواجسها الأيديولوجية.
إن المتغيرات التي بدأت تطرأ على الأحزاب السياسية اليوم نتاج الاستحقاق الديمقراطي ونزولهم حلبة المنافسة السياسية الحقيقية كما حدث في الانتخابات الخاصة بمجالس المحافظات الأخيرة تستوجب تغير ما في طبيعة صناعة القرار ولاشك أن الانتخابات والمؤتمرات الحزبية ستبرز قراءات جديدة خاصة مع بروز جيل جديد لا يحمل حقائب الماضي. التحدي الذي سيتمثل أمام القيادات الحزبية الجديدة والقديمة هو انتقاء خطاب يستخدم مفردات وسلوكيات الاعتراف بالديمقراطية والتعددية وفي انتقال الخطاب من الخطاب الحزبي الحصري إلى خطاب عام.
عناصر أخرى يجب أن تسهم بشكل ما في صناعة القرار تتمثل في النتاج البحثي للجامعات العراقية والتي لا توجد فيها مراكز بحثية سياسية حتى الان. وزارة التخطيط خاصة وأن معظم أغلب الأجندة السياسية ترتبط بأجندة المانحين والتنمية. وزارة الخارجية وما يصب إليها من تقارير السفارات. القطاع الخاص والممثل في الغرف التجارية. وإذا كانت بعض منظمات المجتمع المدني الناشئة قد صعدت بعض قضايا حقوقية على أجندة صناع القرار بالتعاون مع الصحف المستقلة والحزبية إلا أن عدم استقلالية البعض الأخر وعدم ترسخ مفهوم ودور المجتمع المدني سيشكل عقبة أمام أن يصبح أحد الأرقام الصعبة عند صانع القرار.
وتبقى المؤسسة العسكرية ثم الأمنية بشقيها: الأمن السياسي والأمن القومي لتثير الريبة في كيفية تدخلها في التأثير على صناعة القرار خاصة وأن مهامها غير واضحة ومحددة ليكون المدخل هو أن هذين الجهازين هما من أجهزة الدولة الرسمية والتعامل معهما يكون وفق ذلك ووفق طبيعة مهامهم التي تتسم بالسرية وشريطة أن يخضعا للرقابة والمحاسبة شأنهما ِشأن بقية أجهزة الدولة مع المطالبة بتطوير أداءهما وتدريب كوادرهم في إطار توجه الدولة نحو الحكم الرشيد والديمقراطية وما يصاحبها من مساحة حرية في التعبير عن الرأي. إنها حقا صناعة ثقيلة. ثقلها يكمن في تحمل نتائج القرار والتي أصبحت لا تعفي صاحب القرار وصاحب صاحب القرار من المسؤولية، وكلما كبر القرار كلما زادت مسؤوليته.
اضف تعليق