q

كلمة "ناغورني قره باغ" تعني مرتفعات الحديقة السوداء، أي إنه إقليم مرتفعات الحديقة السوداء، وهو أحد أقاليم أذربيجان، حيث يقع غرب العاصمة الأذرية باكو بحوالي 270 كلم، مساحته لا تتجاوز 4800 كم مربع، ويبلغ عدد سكان ناغورني قره باغ حوالي 145 ألف نسمة، 95% من الأرمن، والـ5% الباقية من أعراق أخرى، أي أنه إقليم يقع في قلب أذربيجان من الناحية الجغرافية، إلا أنه من الناحية الديمغرافية يسكنه الأرمن.

تبدأ جذور الصراع في الحقبة السوفيتية في عشرينات القرن الماضي حين قام الزعيم السوفيتي (جوزيف ستالين) بتطبيق سياسته في التفريق بين الإثنيات وإشعال نار العداء بينها وتفتيت قواها، فقد ضمت السلطة السوفيتية في عام 1932، (الأقلية الأرمينية) سكان (كاراباخ) داخل حدود أذربيجان، وبحدود إدارية تُرسم لتجعل كل ما يحيط بها أذربيجانيا رغم رغبة السكان في التبعية الأرمينية، وفى المقابل تظل الأقلية الأذربيجانية في إقليم "ناختشيفان" معزولة داخل جمهورية أرمينيا، بالإضافة إلى أن السلطة السوفيتية منحت الإقليم صلاحية الحكم الذاتي داخل جمهورية أذربيجان، وهو ما كان أشبه بقنبلة موقوتة.

وظل هذا الوضع مجمداً فظلت السياسات القمعية السوفيتية وإرهاب الحديد والنار إلى أن تراخت القبضة السوفيتية في عهد جورباتشوف، وفى شباط 1988، تقدم المجلس السوفيتي للإقليم، وطلب من موسكو انضمام "ناجورنو كاراباخ" إلى أرمينيا، وقد اعترض القادة الأذريون لدى سلطة موسكو، وسرعان ما تشابك الأذر مع الأرمن في "كاراباخ"، لتتحول الاشتباكات بسرعة فائقة إلى حرب أهلية تركت قتلى وجرحى ولاجئين في كلا الجانبين، وفى أيلول 1989، ازداد الموقف تعقداً بإعلان المجلس السوفيتي ألأرمني توحيد إقليم "ناجورنو كاراباخ" مع جمهورية أرمينيا، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، أعلن الانفصاليون في إقليم "كاراباخ" في مطلع 1992 الاستقلال عن أذربيجان، ورفض الانضمام إلى أرمينيا، ومدت أرمينيا مقاتلي "كاراباخ" بالسلاح والرجال، بل توغلت قواتها داخل أذربيجان، كما احتلت الشريط الأرضي الفاصل جغرافياً لقرة باغ عن أرمينيا ويسمى ممر (رواق لاچين) وكذلك أراضي 6 مقاطعات أخرى شرق وجنوب قرة باغ واحتلت 20% من إجمالي أراضيها في منتصف 1993، وكانت النتيجة أن فر مئات الآلاف من السكان الأذريين هرباً من القوات الأرمينية الغازية، وانتقل اللاجئون إلى معسكرات -كثير منها حول العاصمة الأذربيجانية باكو، وقد ساند الروس أرمينيا في هذه الحرب كثيراً مما سهل من النصر الذي حققه الأرمن.

وفى شهر أيار عام 1994 قبلت جميع الأطراف -بما فيها أذربيجان المحتلة أراضيها- اتفاقاً لوقف إطلاق النار، والاحتكام إلى المفاوضات السلمية؛ حقناً للدماء، وكان الوسيط الرئيسي في المفاوضات هو الاتحاد الأوربي الذي فوض مجموعة من الدول برئاسة فرنسا والولايات المتحدة وروسيا للاجتماع في مينسك -عاصمة بيلاروسيا- لبدء التفاوض، من جانبها أعلنت الميليشيات الأرمينية جمهورية (ناجورنو قرة باغ) التي لم تعترف بها أي دولة، وفي عام 1994، أعلن وقف إطلاق النار بين الجانبين، إلا أنهم لم يلتزموا بهذا، إذ تتجدد الاشتباكات بين الحين والأخر، التي تسفر عن سقوط قتلى وجرحى في البلدين، و كان أخرها الاشتباكات التي بدأت في 2 نيسان 2016، وراح عشرات القتلى من الطرفين، إن الصراع بين الأرمن والاذريين هو صراع عرقي قديم، واستمرار لعداء تاريخي محمل بإرث كبير من الكراهية الدفينة بين الأرمن وكل من الأذر والأتراك، وأنه تنافس جيوبوليتيكي لا يشمل الأرمينيين والأذربيجانيين وحدهم بل يتعداهم إلى الأتراك والروس والولايات المتحدة وإيران والاتحاد الأوربي.

ومنذ اندلاع الصراع حول الإقليم بين أذربيجان وأرمينيا، تحاول إيران التوسط لحل النزاع بين الطرفين بالطرق السلمية، لما للمنطقة عامة وأرمينيا خاصة من أهمية إستراتيجية لإيران، لهذا ومع اندلاع النزاع مجددا في 2 نيسان سارعت إيران بالتوسط لحل الأزمة من خلال وزير خارجيتها (محمد جواد ظريف)، الذي اتصل في يوم 5 نيسان مع نظيره الأرمني "إدوارد نالبنديان" على ضرورة وقف الاشتباكات في منطقة قره باغ، داعيا إلى اعادة الأمن و الهدوء إلى المنطقة وتسوية النزاع بين أرمينيا وأذربيجان بشكل سلمي، والتقى نظيره الأذربيجاني في مدينة رامسر الإيرانية التي تستضيف الاجتماع الوزاري الثلاثي الرابع بين إيران وأذربيجان وتركيا، كما أعلن السياسي الإيراني، حسن شريعتمداري، أن الصراع بين أرمينيا وأذربيجان يمكن أن يشكل تهديدا لإيران على المدى الطويل.

انطلقت السياسة الإيرانية تجاه منطقة القوقاز من عدة اعتبارات سياسية واقتصادية وأمنية، وتمكنت إيران خلالها من بناء علاقات جيدة مع دول هذه المنطقة ولاسيما مع أرمينيا، التي وسعت من علاقاتها وتعاونها مع إيران حتى وصلت مرحلة الشراكة، على النقيض من العلاقات الإيرانية – الأذربيجانية، التي اتسمت في معظم الأوقات بالتوتر وعدم الاستقرار، بسبب القضايا والمشاكل بينهما ولاسيما قضية تقاسم ثروات بحر قزوين، والأقلية الاذرية في إيران، ورغم ذلك فقد سعت إيران باتجاه الانفتاح نحو أذربيجان وتحسين العلاقات معها، بهدف استثمار ثروات أذربيجان النفطية في بحر قزوين، وقد خضعت علاقات إيران مع دول منطقة القوقاز لتأثير التنافس الإقليمي والدولي وصراع فرض النفوذ لاسيما بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولات الهيمنة والحصول على أكبر مشاريع الاستثمار الاقتصادية في هذه المنطقة.

وعلى الرغم من سعي إيران الواضح والحثيث لإنهاء النزاع بين الطرفين، إلا ان خريطة العلاقات الدولية تتغير وتتبدل بتغير المصالح والأهداف، إذ ان اتجاه إيران للتسوية السلمية بين الطرفين، لم يمنعها من الاتجاه صوب أرمينيا "حسب بعض المتابعين" في صراعها مع أذربيجان، ففي إثناء الصراع الاذري الارمني عام 1992، قد دعمت أرمينيا المسيحية ضد أذربيجان المسلمة، وهناك عدد أسباب لتوجه إيران هذا الاتجاه منها:

1- ان إيران تتجه صوب أرمينيا لكي توطد معها العلاقات بهدف تعزيز نفوذها الإقليمي، ومنع واشنطن وتل أبيب من إحاطة طهران بشبكة قوية من العلاقات مع دول منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وعلى رأسها أذربيجان، وهو ما دفع إيران لاتخاذ خطوات إستراتيجية من شأنها إعادة تقييم علاقاتها مع الكثير من الدول بهدف الوقوف على قدم المساواة مع أمريكا و"إسرائيل"، واستعدادا لأي طارئ إذا ما اندلعت حرب في تلك المنطقة.

2- يأتي العامل الأمني بالدرجة الأساس في علاقات واهتمام إيران بهذه الجمهوريات، فمنطقة الشرق الأوسط عموما ومنطقة وسط أسيا والقوقاز بثرواتها وموقعها الاستراتيجي هي محط أنظار العالم، وتعيش وضعا غير مستقر، وفي هذا المحيط غير المستقر تُعد إيران الحلقة الأضعف على اعتبار إن جمهوريات القوقاز مدعومة من روسيا الاتحادية، كما إن دول الخليج العربية وتركيا تحصل على دعم غربي للدخول في هذا الصراع، لهذا تحاول مد نفوذها في هذه الدول خدمة لمصالحها الأمنية.

3- حماية نشاط استخباراتي لإيران في عاصمة أرمينيا "يرفان"، إذ نجحت عناصر الاستخبارات الإيرانية في الانتشار داخل الأراضي الأرمينية، وذلك بفضل التعاون الوثيق مع نظرائهم في مجلس الدفاع الوطني الأرميني، تلك الجهة التي تشرف على النشاط الاستخباراتي وأعمال التجسس في أنحاء الأراضي الأرمينية، خاصة في أعقاب تنامي الاتصالات بين الجانبين والزيارات الودية لمسئولي البلدين، واتخاذهما قرارا بإدارة جولة ماراثونية من المحادثات والاتفاق على تبادل الرأي والمشورة بين طهران ويريفان فيما يتعلق بالعديد من القضايا الاستخباراتية والأمنية، وكذلك حول القضايا السياسية الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، وهو نشاط تحتاج إليه إيران ولا يمكنها الحصول عليه من جارتها أذربيجان.

4- كذلك دعمت إيران أرمينيا في أزمة إقليم (ناكورنو كراباخ) لأسباب اقتصادية، أولها أن أرمينيا تحتاج إلى النفط الإيراني، بينما أذربيجان دولة منتجة للنفط كإيران، وهو من الأسباب التي تدفع الطرفين للالتقاء في طريق واحد، وهي الضرورة التي تسير بالبلدين باتجاه بعضهما البعض، فإيران بحاجة إلى صداقة أرمينيا لتوفير معبر بديل للنقل إلى روسيا وأوروبا، وأرمينيا بدورها تواجه في الوقت الحالي انسدادًا متواصلاً في طرق التجارة من جانب أذربيجان وتركيا، وهي معنية بتأمين ممر آمن وموثوق للتجارة، وتوثيق العلاقة مع إيران في مجال الطاقة، إذ أن أرمينيا تفتقر للنفط والغاز، وتخطط لإغلاق مولدات الطاقة النووية التي تملكها في غضون عشر سنوات، وسيساعد مشروع محطة الطاقة الحرارية والربط مع مراكز الإنتاج الإيرانية في تعزيز أمن أرمينيا الاقتصادي.

5- ان جمهورية أرمينيا تحتل موقعا إستراتيجيا في منطقة القوقاز الجنوبية، حيث تؤدي دورا فاعلاً ومؤثرًا في توفير الأمن الإقليمي وتعتبر ممرا هاما لنقل الطاقة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى الشمال، وتعتبر المشاركة السياسية في الأوساط الإقليمية والدولية وتنمية العلاقات الاقتصادية والثقافية من أهم المحاور لتعزيز العلاقات بين إيران وأرمينيا التي تستضيف أكثر من ۳۰۰۰ طالب إيراني في مختلف جامعاتها، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من تعزيز العلاقات والروابط بين كلا البلدين.

6- اشتراك إيران بحدود مشتركة مع كل من أذربيجان وأرمينيا، وبالتالي إمكانية انعكاس التطورات في كلا البلدين على إيران، خاصة وان إيران تضم أقليات تنتمي إلى قوميات كلا البلدين، إذ تسعى إيران إلى منع ظهور تهديدات جديدة على حدودها أو صراعات تؤثر عليها، خاصة شمال إيران لاحتمال انتقالها إلى الداخل الإيراني لوجود امتداد قومي لبعض هذه الجمهوريات داخل إيران مثل (أذربيجان وأرمينيا)، وأكثر ما يقلق إيران هو جمهورية أذربيجان على حدودها الشمالية، إذ إن حوالي 25% من سكان إيران من الاذريين وهو ما يعادل ضعف سكان جمهورية أذربيجان نفسها، ويعيش في إيران ۱۲۰ ألف مواطن أرمني، وأي تطور في النزاع قد ينتقل إلى داخل أراضيها، لهذا تحاول إيران منع قيام نزاع على حدودها الشمالية، وتتدخل دائما في النزاع الارمني الاذري حول إقليم (ناكورنو كاراباخ) وأعلنت وساطتها بين الطرفين.

7- دعمها سرا لأرمينيا، لان انتصار أذربيجان يعني إثارة الروح القومية لدى الاذريين الإيرانيين وهو ما قد يثير الاضطرابات داخل إيران، قد يحفز الاذريون في شمالها للمطالبة بحقوق يصل بعضها إلى الحكم الذاتي، أو الانضمام للوطن الأم، وتتكرر من فترة لأخرى حوادث صدامهم مع السلطات الحكومية، فأذربيجان، في بداية استقلالها، تحالفت مع تركيا لترويج مشروع الجامعة الطورانية، الذي كان يعني نجاحه إزاحة إيران كلية عن المنطقة، هذا في الوقت الذي تمثل فيه إيران شريان الحياة لأرمينيا في ظل محاصرة الأخيرة من الشرق بأذربيجان ومن الغرب بتركيا.

8- يضاف إلى ما تقدم، إن النظام السياسي في جمهورية أذربيجان هو نظام علماني وموالٍ للغرب، ومن المحتمل أن يلعب دورا في أي سياسة أمريكية تجاه إيران بسبب برنامجها النووي، وهذا يتوافق مع مطامح القوميين الاذريين في جمهورية أذربيجان في توحيد الاذريين وتكوين أذربيجان الكبرى، ويمكن أن يضاعف من هذا الاتجاه وجود خلافات إيرانية – أذرية، ومنها الخلاف حول الحقوق في بحر قزوين، خاصة بعد التصريحات المتشددة بين الطرفين، وإصرار إيران على التقسيم المتساوي للبحر، وإصرار جمهورية أذربيجان على عده بحرا دوليا تحكمه قوانين البحار الدولية، وتأكيد رئيسها إن علاقته بالغرب وإسرائيل إستراتيجية، كذلك عدم إخفاء معارضة قادة أذربيجان للنظام السياسي الإيراني.

9- تحاول إيران إعادة الاستقرار والهدنة بين أرمينيا وأذربيجان، ومساعدة أرمينيا، وذلك لإفشال الخطة الأمريكية التي تقدم بها (بول غوبل) المستشار السابق لوزير الخارجية الأميركي لشؤون القوميات في الاتحاد السوفيتي. وهي خطة "تبادل للأراضي" بين كل من أرمينيا واذربيجان، فتعطى أرمينيا جزءا من كاراباخ فيما تحتفظ أذربيجان بالمنطقة المشرفة على منابع الأنهر وتزودها بالمياه، وبالمناطق ذات الأغلبية الاذرية. ويوضع القول، الأرض الخاضعة لإشراف أرمينيا بين ناخيتشيفان واذربيجان، تحت إشراف أذربيجان، ويدور الحديث عن 46 كيلومتراً هي طول الحدود بين أذربيجان وناخيتشيفان، وبالتالي بينها وبين تركيا، واقتراح غوبل يفتح الطريق، في حال تنفيذه، لحدود مباشرة بين تركيا واذربيجان، ويتيح انجاز مشروع خط أنابيب باكو–أنقرة (خط مباشر)، وهو سوف يلغي نهائيا مشروع خط أنابيب النفط والغاز بين يريفان وطهران إلى أوروبا، إذ بفعل هذه الخطة تفقد أرمينيا حدودها مع إيران، وتلاحظ الوكالة الروسية إن أذربيجان، التي تملك تفوّقاً عسكرياً، تركز حاليا ضرباتها على تلك النقاط المزمع تبادلها مع أرمينيا بموجب خطة (غوبل) المشار إليها، وهي ممر لاتشين ووسط كاراباخ.

خلاصة القول، إن إيران لها مصالح وفرص مهمة في القوقاز وذلك لقربها من هذه الجمهوريات ووجود روابط وامتدادات قومية ولغوية ومذهبية تشترك بها مع إيران، وتنفذ إيران سياسات عسكرية واقتصادية تجاه هذه الجمهوريات للحفاظ على مصالحها وحماية أمنها القومي.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق