يختلفُ (المقدّس) من واحدٍ لآخر، فما هو مقدّس بالنّسبة لي هو ليس كذلك بالنّسبة لغيري، والعكس هو الصّحيح، فلكلٍّ مقدّسٌ يتّخذه إِلهاً لحاجةٍ في نَفْسهِ، يصنعهُ حسب الطّلب والحاجة، ويستحضرهُ كذلك حسب الطّلب والحاجة، الا انّ المحور في كلّ ذلك هو تحقيق المصالح والأجندات الخاصة؛
فتارةً يستحضرهُ ويتباكى عليه لتبريرِ فشلٍ مثلاً او فسادٍ ولصوصيّة او ما أشبه.
وتارةً أُخرى لقمعِ الآخر اذا فضحهُ او نافسهُ أو ما الى ذلك.
وتارةً لاقناعِ انصارهِ لتحشيدهم خلفهُ ولشدِّ أَزرهم ورصِّ صفوفهم، خاصَّةً عند النّزال.
وأُخرى للاتّكاءِ عليهِ تهرّباً من المسؤولية.
فلماذا المقدّس إذن؟!.
لانّ الانسان عادةً ما يُقاتل من أَجل مقدّساته بغضّ النظر عمّا اذا كانت حقيقيّةً ام مُفتعلةً، صحيحةً ام مُختَلقَةً، فالإنسانُ مستعدٌّ لمناقشةِ ايّ شَيْءٍ في حياته الا المقدّسات، يسلّمُ بها عن عمىً ولا يُجيزُ لأحدٍ ابداً الاقترابِ منها.
ولقد كانت السّفارة البريطانيّة في الهند ايّام الاحتلال تعمد الى ذبحِ بقرةٍ ورميها في الشّارع العام لإثارة الحروب الطّائفية في المجتمع كلّما ارادت تمرير قرارٍ ما!.
لذلك، لا نُجانب الحقيقة اذا قُلْنَا بانّ توظيف (المقدّسات) في الحروب والصّراعات، خاصّة على السّلطة ولتصفية حسابات الخصوم بعضهم مع البعض الآخر، يُعَدُّ من أخطر الأدوات، لأنّها بلا أُفُق، تكثُر فيها الضّحايا البريئة التي يقودها التّضليل والجهل الى حتفها! أو مما وصف ذلك أمير المؤمنين بقولهِ {أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ}.
والسياسيّون، تحديداً، يعرفون هذا الواقع جيداً أفضل من غيرهم، ولذلك يبرَعون ويتفنّنون في خلقِ المُقَدَّس وتوظيفهِ لحماية أنفسهم من المساءلة والملاحقة ولتبرير تشبّثهم بالسّلطة، من خلال شرعنة موقفهم وبرامجهم ومشاريعهم مهما انحرفت عن الواقع وابتعدت عن الدستور والقانون، بمجموعة من المقدّسات التي يصنعونها ويستحضرونها، كما أَسلفت، حسب الطّلب والحاجة الزّمكانيّة.
كما انّهم بارعون في توظيف هذا المقدّس للردّ على خصومِهم لدرجة التّشهير والتّسقيط.
وبالنّسبةِ لهم فلكلّ ظرفٍ مقدّسهُ الذي يُلائم وحاجاتهم السياسيّة، والذي يبتكرونهُ ليعبدونهُ ثمّ يهجمونَ عليهِ ليأكلونهُ كما كانَ يفعل المشركونَ زمنِ الجاهليَّة! عندما كانوا يصنعونَ اصنامهُم من التّمرِ حتّى اذا جاعوا أكلوها!.
فالوحدةُ تارةً هي المقدّس اذا كانت تلبّي الحاجة، الا انّها من الأصنام التي أَمرنا الله تعالى ان لا نعبدَها اذا تعارضت مع شخصيّتنا المعنويّة وخصوصيّاتنا الحزبيّة!.
وهكذا بالنّسبة الى الدّستور فهو مقدَّسٌ لا يحوزُ تجاوزهُ اذا لبّى حاجاتنا، الا انّهُ قُصاصة لا قيمة لها اذا تعارض معها!.
انّ لنا في العراق، مثلاً، في كلِّ يومٍ (مُقدّس) جديد تخترعهُ مجموعة وتحتمي به، فتارةً تَكُونُ هذه المجموعة حزباً او اتباعاً او عشيرةً او مقلّدين او مذهبيّين او ما أشبه، لدرجةٍ انّك تشعر وكأنّك محاصرٌ بهذه المقدّسات أينما ولّيت وجهكَ، لا تقدر على نقاشِ شيء ولا تتمكّن من البحث في شيء، ولا تجرؤ على السّؤال عن شَيْءٍ، فأنت تخشى في كلّ مرَّةٍ ان تتجاوزَ على مقدّس من مقدّسات جماعة او حزب او تيّار او كُتلة او عشيرة او منطقة فتبتليَ على عمرِك، اذا بكَ ترى نفسكَ معرَّضٌ للتّكفير والتّخوين والتّشويه والتّسقيط.
والحمدُ لله فإنّنا لا نكتفي بـ (مقدّساتنا) خاصَّةً من الأشخاص والرّموز، لانّها (قليلة!!!) فرُحنا نستورد (مقدّسات) من خارج الحدود لنحتربَ بها وعليها وبسببِها!.
في كلّ يومٍ هناك خطوط حمراء جديدة رسمتها مجموعة من المجموعات الاجتماعيّة، وانتَ لا تدري، فتقع في المحذور من حيث لا تُريد او حتّى لا تدري.
فرموز وقادة وأشخاص ومعتقدات كلّ جماعة هي خطوط حمراء لا ينبغي لَكَ ان تقترب منها، حتّى المعتقدات السّياسية التي تتبدل يومياً هي خطوط حمراء لا يجوز لك التعرّض لها، كما انّ رموز كلّ جماعة الى الدّرجة العاشرة، وربما أَكثر من ذلك، هي خطوط حمراء لا يجوز لَكَ ان تفكّر بالحديث عنها، فاذا ذكرت أَحدهم مثلاً فاحذر ان تذكر الاسم قبل ان تسبقهُ بالصفات اللائقة وعناوين التّعظيم والتّبجيل، والا فأنت خائن تعدّيت حدودك وأسأت الأدب وتجاوزت ما كان يسمّيه أَحدهم بأخلاقيّات التّماس، التي عليكَ ان تتعلّمها قبل ان تتعامل مع اسماء رموزهِ المقدّسةِ، وقد تحتاج أحياناً الى ان تسمّي بالرّحمن وتصلّي على نبيهِ وتدفع صدقةً قبل ان تذكر إِسم أَحدهم، وأتذكّر مرّة انّني أبتُليتُ على عُمري لأَنَّنِي ذكرتُ واحداً من هؤلاء (المقدّسين) في نظر جماعتهِ التّافهين في نظري قبل ان أَتوضأ! ومن دون ألقابٍ حتّى هجمَ القومُ عليَّ واستضعفوني {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}!.
وَيَا ليتَ للمقدّسات حدودٌ لنقف عندها عند الحديث والنّقاش والحوار، وَيَا ليتها تنتهي عند زيدٍ او عمرو، لهانَ الخطبُ وسهُلت المهمّة، الا انّها في تمدّد مستمرّ وتكاثر أميبي متواصل، فكلّما انشقّت طائفة او اختلفت جماعة او انقسمَ حزبٌ كلّما أعلنت كلّ مجموعةٍ منها عن مقدّساتها الجديدة، وهكذا في تزايدٍ مستمرٍّ لا ينتهي عند حدودٍ وتوالدٍ ماواصلٍ غير محدود العدد!.
اضف تعليق