تمر الازمة السورية في هذه الايام لحظات حرجة للغاية، فسبل الخروج منها تنحصر في خيارين لا ثالث لهما، اما ان ينتصر احد الاطراف على عدوه او يلجأ الجميع الى طاولة الحل السياسي وايجاد صيغة توافقية ترضي الجميع وفي كلا الخيارين هناك خطر يتربص بالدولة السورية ووجودها وربما يتمدد ذلك الخطر الى دول مجاورة مشمولة بالتحديثات الجديدة للخرائط القديمة، في المسار السياسي لحل الازمة السورية فان التمعن في تصريحات المسؤولين الفاعلين في الازمة يجد انها تحمل بين طياتها تغير معالم الكيان السوري الى الابد ما يعني ان هناك قرارات غربية جوهرية تطبخ على نار هادئة في الغرف المغلقة، وهو ما يظهر جليا على لسان المسؤولين الامريكيين والروس وحتى مبعوث الامم المتحدة ستافان ديمستورا حول طرح فكرة اعادة رسم الخارطة الادارية لسوريا وهي تصريحات تفوح منها رائحة التقسيم، فيما تجاوز الاكراد هذه المرحلة بإعلانهم فيدرالية خاصة بهم في المناطق التي يسيطرون عليها شمال سوريا شملت ثلاث مناطق هي: كوباني- عفرين- الجزيرة، ومن المرجح تطورها الى دولة كردية تشمل اجزاء من سوريا والعراق وايران وتركيا.
الازمة السورية لم تعد للسوريين وحدهم ولا حتى للاعبين الاقليمين بل باتت ازمة عالمية تنتظر قرارات غربية للتصعيد في هذه المنطقة وتخفيف المعارك في تلك المنطقة بانتظار القرار الاخير بإيجاد صيغة توافقية ترضي الدول الكبرى وليس بالضرورة انها سترضي الاطراف المتصارعة محليا واقليميا. فالدول الغربية التي قسمت ولايات الدولية العثمانية في المناطق العربية في اتفاقية "سايكس بيكو" يبدو انها ماضية في مشروع احياء الذكرى المئوية بتحديث لاتفاقيات تقسيم المقسم ، وما تتميز به هذه التحديثات الجديدة انها تحمل صفة الزامية من قبل الدول الكبرى او انها ستفرض نفسها على ارض الواقع من قبل المتحاربين المحليين بعد استحالة تحقيق النصر النهائي لاي طرف.
والغريب من فكرة التقسيم انها لم تطرح على لسان المعارضة او الحكومة، وذلك بسبب ثقة كل طرفة بقدرته على هزيمة الاخر، وهو تفكير يدعمه غرور المتخاصمين بقدراتهم وعدم اخذهم في الاعتبار تحولات الازمة وانزلاقها في سوق المساومات الدولية بين الدول الكبرى، الا ان بعض المتابعين للشأن السوري يؤكدون ان استماتة الاطراف المحلية شر لا بد منه فالقتال في سوريا اصبح حربا وجودية للاطراف المحلية والاقليمية فخسارة ايران في سوريا تعني انهيار اهم اضلاع مثلث محور المقاومة (ايران, سوريا، حزب الله) وقد حذر وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف من أن تغيير حدود الشرق الأوسط قد يكون بداية حروب آخر الزمان، وهذا التصريح يؤكد ان اصرار الجانب الايراني على المضي في القتال حتى النهاية، اما السعودية وحلفائها فانهم لا يملكون شيئا ليخسروه فحربهم باليمن مفتوحة النهايات ولبنان بات بيد حزب الله واهل السنة العراق مزقتهم الحرب ضد داعش وبالتالي فان خسارتهم في سوريا تعني ضياع اخر حلقة للمحور السني بيد ايران ووفق هذه المعطيات فان اي هزيمة للطرفين مرفوضة على الاطلاق ما يعني استمرار القتال الى اجل غير مسمى حتى وان خفت وتيرته في الاونة الاخيرة.
الانسحاب الروسي من سوريا اعطى فسحة امل جديدة للمحور السعودي السني فرغم ان هذا الانسحاب ليس كاملا لكن العودة العسكرية للقيصر الروسي الى سورية مستبعدة على الاقل في الامد القصير وبالتالي فانهم (اي المحور السعودي) سيحاولون استخدام اوراق ضغط جديدة تساعدهم في تحسين وضعهم بعد خسارتهم الكبيرة في الاسابيع الاخيرة تحت وقع الضربات الروسية، لكن العودة السعودية المتوقعة لا تكون عسكرية رغم ان ذلك غير مستبعد الا ان التركيز الاكبر في المرحلة المقبل سينحصر على تحصيل مكاسب سياسية وانتزاع تنازلات جوهرية مثل ايجاد سقف زمني لرحيل الرئيس السوري مع عدم استبعاد امكانية ادخال مساعدات عسكرية جديدة لقوى المعارضة المسلحة.
في المقابل ترفض الحكومة السورية وحلفائها رحيل بشار الاسد وتعتبر مناقشة هذه القضية خط احمر، ما يعني ان العودة الى القتال في ظل هذه الاجواء المشحونة غير مستبعدة او حتى توقف القتال يعني بقاء كل طرف في المناطق التي يسيطر عليها. وحتى روسيا التي انسحبت عسكريا يبدو انها ترفض فكرة رحيل الاسد فقد وصفت وزارة الخارجية الروسية على لسان المتحدثة باسم الوزارة ماريا زاخاروفا تصريحات السعودية والدول الأخرى التي تطالب برحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة فوراً بأنها "مضحكة". قائلة انه من المضحك بالذات أن نسمع عن الرحيل الفوري، نسمع ذلك منذ سنوات عدة، لذا فإني لا أرجح استخدام هذه الكلمة "فورا".
وما بين خرائط التقسيم المرسومة بالغرف المغلقة في موسكو وجنيف وبين رغبة المتحاربين الاقليمين في سوريا الطامحة الى انهاء وجود الاخر يبدو ان فرص بقاء الكيان السوري ضئيلة جدا فالتقسيم سيحصل بكل الاحتمالات اما بخطة دولية تفرض على الجميع او ان الحرب ستستمر الى امد اطول مع عدم امكانية تحقيق نصر نهائي لاي طرف وهو ما يعني التقسيم "السريري" لسوريا.
ولكن الامر الاكثر خطورة هو انتقال عدوى تحديث "سايكس بيكو" الى الدول المجاورة فتركيا تخوض حربا شرسة ضد الاكراد المطالبين بالانفصال منذ مدة طوريلة واي تقسيم في سوريا يعني تمدده الى تركيا ، اما العراق فيبدو انه على اتم الاستعداد لتنفيذ التقسيم بعد انقسامه طائفيا وعرقيا الى شمال كردي وغرب سني وجنوبي شيعي، وفي ذلك الوقت لم يبقى لايران المناعة الكافية امام هذه المد التقسيمي لترسم هي الاخرى خريطة جديدة.
اضف تعليق