التعويل على تعافي أسعار النفط في الأسواق العالمية لتوفير التمويل اللازم للموازنة والاقتصاد يشكل ركيزة هشّة تهدد مجمل الأنشطة الاقتصادية في العراق، خصوصاً مع إرهاصات ركود الاقتصاد العالمي وضعف التوقعات حيال عودة الأسعار لمستويات ما قبل الانهيار في ظل إغراق مستمر للأسواق النفطية.
ومن شأن استمرار الهبوط السعري لأسعار النفط أنْ يضاعف الأعباء على كاهل الاقتصاد الوطني، بالتزامن مع أعباء داخلية متعددة، أهمها الاضطراب الأمني والسياسي. إلا أن اعتماد سياسات اقتصادية حصيفة قد تحوّل التحديات إلى فرص لإعادة هيكلة الاقتصاد والانسلاخ عن النموذج الريعي في النمو لصالح تنويع القاعدة الانتاجية وتعزيز النمو والاستقرار الاقتصادي المستدام.
وتناط بالمؤسسة النقدية في العراق مهمة استراتيجية غاية في الخطورة والتعقيد، تبدأ في إيجاد منافذ بديلة للتمويل الخارجي، دون التأثير في الاستقرار السعري الذي يشهده البلد منذ سنوات. كما تمارس السلطة النقدية أدواراً محورية أخرى، أهمها بناء نظام مالي ومصرفي متطور وسليم يعمل كجسر للتمويل والاستثمار ويعزز من استقرار ونمو الاقتصاد الكلي.
في سياق ذلك، تبنى البنك المركزي العراقي مؤخراً إطارا جديدا ومعاصرا لاتجاه السياسة النقدية خلال الأعوام (2016-2020) عبر اعتماد استراتيجيات فاعلة تتضمن حلولا عاجلة وأخرى متوسطة وطويلة الأجل تهدف إلى إرساء الثقة بالاقتصاد العراقي وتوفير الممكنات اللازمة للنهوض الاقتصادي وتجاوز الأزمة المالية الجارية. وقد استمدت الاستراتيجية المذكورة من وحي السياسة العامة للدولة الهادفة إلى بناء اقتصاد حر قائم على مبادئ السوق والمنافسة وتمكين القطاع الخاص من لعب دور أساس في التنمية الاقتصادية.
الملامح الرئيسة لاستراتيجية البنك المركزي
تفصح استراتيجية البنك المركزي عن مقاربة جديدة في إدارة السياسة النقدية تعمل ضمن إطار تحفيز الاقتصاد وتعزيز الاستقرار المالي والنقدي بما يكفل تحقيق الرخاء للمجتمع العراقي، وتدعم النهوض والارتقاء بالقطاع المالي بشكل عام والجهاز المصرفي بشكل خاص، لتقديم خدمات مصرفية متميزة عبر التركيز على تهيئة بنية تحتية سليمة وقوية، تتناسب مع ما تشهده المرحلة الحالية من تحديات، وفق منظور استراتيجي يعكس رؤية وتطلعات البنك المركزي في الأمد المتوسط والطويل.
ويمكن عموما إجمال أهم الملامح الرئيسة للأهداف التي بُنيت عليها الاستراتيجية الجديدة، وكالآتي([1]):
- ضبط الكتلة النقدية من خلال هيكلة أسعار الفائدة وتقليل دور سعر الصرف في عمليات تعقيم السيولة النقدية.
- دعم التمويل الأصغر والتمويل المتوسط بما يعزز القطاع الديناميكي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة كونها تمثل قوة رئيسة محركة للاقتصاد الوطني، وتوليد فرص العمل.
- تطوير واستحداث نظم رقابية ونظم مدفوعات تعمل كأدوات لتعزيز متانة واستقرار النظام المصرفي.
- تعزيز الشمول المالي بشكل مدروس من خلال تحسين وصول الخدمات المصرفية إلى جميع شرائح المجتمع العراقي، وتوفير البنية التحتية اللازمة، ونشر الثقافة المالية والمصرفية.
- توسيع نطاق الإشراف الاحترازي وتحديث التعليمات والضوابط وتطوير النظم المالية والإدارية واللوائح والتعليمات.
- وضع الأسس والضوابط والمعايير اللازمة لحماية عملاء المؤسسات المالية والمصرفية من الغش والاستغلال وضمان جودة الخدمات المقدمة.
- تعزيز التكامل النقدي والمالي بين كافة المؤسسات المالية والمصرفية بما في ذلك أسواق المال والمؤسسات الاستثمارية وشركات التأمين.
- تطوير البنية التحتية للبنك المركزي واستحداث أقسام جديدة ولجان تخصصية داعمة تتناسب مع تحديات وتطورات المرحلة الراهنة.
استراتيجية البنك المركزي: الأهمية وفرص النجاح
انحسار تدفقات المورد النفطي كشف بوضح عمق الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد العراقي والناجمة عن عقود من سوء الإدارة والحروب والإدمان المفرط على النفط في تمويل الموازنة والاقتصاد. هذه الاختلالات كان لها دور كبير في إبراز أهمية السياسات الاقتصادية في تصحيح نمط النمو الريعي والحد من دوره السلبي في تنمية وتطوير القطاعات الاقتصادية لصالح نمو القطاع النفطي.
في هذا السياق، يتوقع أن يكون للسياسة النقدية دور مركز في عملية التصحيح وإيجاد أنموذج بديل يلائم التوجهات الجديدة للإصلاح الاقتصادي؛ نظرا لما للمؤسسة النقدية من دور في توفير البدائل المالية اللازمة لتمويل الأنشطة الحكومية وإيجاد مظلة مناسبة للنمو عبر المحافظة على الاستقرار المالي والنقدي وتطوير المؤسسات المالية والمصرفية بالشكل الذي يُمكّن القطاع الخاص من الانطلاق، مع توخي الحيطة والحذر في تصميم نظام قانوني ورقابي محكم يؤطر عمل النظام المصرفي في البلد ويزيد من شفافية وجودة أدائه.
مع ذلك، ورغم ما تضمنته الاستراتيجية الجديدة من ركائز وأهداف جذابة تنسجم وبرامج الإصلاح وتطلعات النخب، إلا أن المخاوف تتركز في مدى قدرة إدارة البنك المركزي العراقي في تحقيق الأهداف المنشودة في ظل تفكك مؤسسات الدولة وهشاشة الأمن والقانون وتفشي الفساد المالي والإداري وهيمنة الأحزاب السياسية على كافة المراكز الاقتصادية في الدولة، بما فيها البنك المركزي العراقي.
اضف تعليق