انسحبت القوات الروسية العسكرية الاساسية من سوريا فسحبت معها البساط من تحت اقدام مؤتمر جنيف وحلقت بالرئيس فلادمير بوتين على عرش التحليلات الاخبارية، فالقرار جعل الكثير من تلك التحليلات لا تقف على ارضية ثابتة، فيما كانت تدور اغلب التساؤلات حول الاسباب ونتائج هذه الخطوة المفاجئة فضلا عن التركيز على علاقتها بمفاوضات جنيف.
وليس خافيا على احد بان التدخل الروسي في سوريا قد قلب ساحة الحرب في سوريا بشكل كبير فبعد ان كانت الجماعات المسلحة تطرق ابواب العاصة دمشق باتت الحدود التركية في مرمى الاسلحة السورية واستمر تراجع قوى المعارضة في اكثر من جبهة وفي خضم تلك المعارك اعلن عن هدنة تم توقيعها بين روسيا والولايات المتحدة الامريكية فرضت على اللاعبين الاقليميين وقد صمدت تلك الهدنة رغم الجو الملبد بالتشاؤم حتى اوصلت الجميع الى طاولة المفاوضات.
وفي ظل الحديث عن عملية سياسية بعد الهدنة استمر التقاذف بالتصريحات فكبير المفاوضين في المعارضة محمد علوش اكد على ضرورة رحيل الاسد سواء بالعملية السياسية او بالموت حسب وصفة ، فيما قابلها تصريح لوزير الخارجية السوري وليد المعلم بان مناقشة هذا الامر خط احمر ولا يحق لعلوش ولا غيره ان يحدد مصير الاسد بل صناديق الانتخابات السورية هي التي تحدد ذلك.
هذه الاجواء المشحونة جعلت الكثيرين يؤكدون على موت مفاوضات جنيف قبل ولادتها، واصبح انهيار الهدنة مرجحا في اي لحظة ما يعني العودة الى الصفر وهذا مالا يرغبه الروس فهم دخلوا الى سوريا في اطار عملية محدودة تريد الحفاظ على مؤسسات الدولة الاساسية وضمان موطئ قدم في المياه الدافئة وهي اهداف قد حسمت عمليا فالجيش السوري اليوم بات اقوى بكثير مما كان عليه، كما ان روسيا قد فرضت اعتراف الجميع بها كقوة عظمى ليست فاعلة فحسب بل ومتحكمة في الازمة السورية الى حد بعيد، فاي تحرك من اي طرف لا ياخذ في الحسبان الجانب الروسي يلقى الفشل حتى وان كان بمستوى قوة إقليمية عظمى مثل تركيا والسعودية.
مؤشرات كهذه تجعل الجانب الروسي يحمل الكثير من الاوراق الرابحة بيده وبالتالي فقد اشارت اغلب التحليلات الى ان الانسحاب الروسي بهذا التوقيت كان مفيدا جدا للقيصر الروسي، بعد تعثر المفاوضات في ظل التراشق الكلامي بين الاطراف المتنازعة ومن خلال التجارب السابقة فان اي فشل في المفاوضات يعني القاء اللوم على روسيا وهو امر بات واضحا اذا ما رجعنا الى اول ايام الهدنة حين ربط الجانب الامريكي نجاحها بمدى التزام روسيا وحلفائها بذلك ما يعني ان التهمة جاهزة قبل الجريمة، وبالتالي فقد اقتنص الجانب الروسي هذه الفرصة بإعلان الانسحاب لتحقيق فوائد عدة ابرزها:
اولا: اظهار روسيا كراعي للسلام لما تقوم به من مبادرات سياسية يندرج ضمنها الانسحاب من الاراضي السورية كبادرة حسن نية يمكن التعويل عليها بضرورة استبعاد فرضية العودة الى ميدان الصراع على الارض، وبالتالي فان اي فشل في تلك المفاوضات سيتحمله الطرف الاخر المتمثل بالمعارضة وحلفائها السعوديين والاتراك، كما ان قرار مفاجئ كهذا يجعل الساحة مفتوحة لكل الاحتمالات ما يرجح كفة الجانب الروسي كونه اصبح هو صاحب الكلمة الاولى فيما يتعلق بالأزمة السورية.
ثانيا: قد يكون هناك احساس لدى الروس باستحالة الوصول الى حل نهائي للازمة السورية في المدى القريب حتى وان حققت المفاوضات بعض التقدم وان بقاء الازمة في دوامتها يعني المزيد من الخسائر على المستوى السياسي والعسكري. ومن المحتمل ان روسيا استشعرت الخطر الاكبر بعد اسقاط الجماعات المسلحة طائرة ميغ 21 سورية ما يعني حصولهم على اسحلة حديثة مضادة للطائرات، والرئيس الروسي لا يتحمل خسارة الكثير خاصة في ظل الازمة الاقتصادية الخانقة في بلاده ما يعني اننا قد نشهد بعد ايام ارتفاع اسعار النفط بعد طفرة الروبل السريعة، فروسيا تريد رفع اسعار النفط وذلك لا يتم الا من خلال التعاون مع الجانب السعودي وبالتالي قد يكون هناك اتفاق بين موسكو والرياض على صفقة تحت الطاولة، لا سيما بعد الاعلان الاخير عن بحث التعاون النووي بين روسيا والسعودية . وهي مؤشرات تساعد الروس بالخروج بثوب المنتصر وان كان نصرا لا يستحق الاحتفال في الساحة الحمراء لكنه على اقل تقدير استطاع النجاة من سيناريو افغاني جديد اذا اخذنا بالحسبان ان قرار الانسحاب لا يشمل منظومة الدفاع الجوية المتطورة جدا.
ثالثا: من المحتمل ان الجانب الروسي شعر بحتمية فوز الجمهوريين في الانتخابات الامريكية وهو ما يعني توقع احتمالات كثيرة من ضمنها تشديد العقوبات او حتى المواجهة العسكرية المباشرة مع الولايات المتحدة وحلف شمال الاطلسي وهي فرضة واردة جدا، فالمتابع للشأن السوري يجده يتدحرج يوما بعد اخرى للدخول في حرب اقليمية كبرى قد تتطور في اي لحظة الى حرب عالمية لا يرغب فيها الجميع وبالتالي فقد يحاول الرئيس الروسي فلادمير بوتين استثمار المدة المتبقية ولاية باراك اوباما من اجل اجراء بعض التسويات السياسية مع الولايات المتحدة من قبيل رفع العقوبات ضدها او ايجاد مخرج للازمة الاوكرانية.
ومن الواضح بان روسيا ومن خلال تدخلها في سوريا استطاعت كسر عزلتها الدولية بعد الازمة الاوكرانية بل واعادتها كقطب متحكم بالازمة السورية الى حد بعيد، فيما ساعد هذا الانسحاب على اظهار الجانب المشرق لروسيا باعتبارها راعية سلام، تتصدر هذه الايام مشهد التصريحات المرحبة بالقرار، وقد يسهم هذا الانسحاب بمنع عودة العمليات العسكرية الى ما قبل الهدنة، وهو رأى يحمل الكثير من الواقعية، لا سيما بعد توقيع الكثير من قوى المعارضة على الهدنة مع روسيا وبالتالي فان الانسحاب يعطي رسالة اطمئنان الى تلك الجهات بمدى جدية موسكو بدعوتها للحل السياسي وكل القرائن تشير الى رغبتها بالحل السياسي وذلك من شانه سحب البساط من تحت أقدام تركيا والسعودية بمحاولتهما التدخل البري في سوريا.
وتبقى النقطة التي اسهب الكثير من المحللين في التركيز عليها بتاكيدهم بان سحب القوات الروسية جاء للضغط الرئيس السوري بشار الاسد، واذا كان هذا الاحتمال صحيحا فالسؤال الذي ييطرح نفسه بالحاح هو.. ماذا لو لم يستجب الاسد للضغوط الروسية؟، هل ستعود الطائرات الروسية الى سوريا؟، ام انها ستبقى في روسيا وتترك حليفها لقمة سائغة لإعدائه؟، وماذا عن منظومات الدفاع الجوي الاكثر تطورا في العالم؟، اسئلة ستبقى اجابتها مفتوحة لكل الاحتمالات بانتظار القرارات الروسية القادمة.
اضف تعليق