ليلة انكدرت فيها النجوم، والقمر ينسحب من السماء رويداً رويداً، أخافها ظلام الليل، لفّتْ جسدها الهزيل بشالها الصوف القديم، مسحت دمعة خديها، سهدت عيونها، وتوسدت الأجفان الذابلة، في ذلك البيت العربي المزخرف بنقوشات ورسومات، جدرانه تزينه لوحات فنية، وأما النوافذ فكانت خشبية مزخرفة، والساعة تتوسط حائط الدار، تتأرجح الصور في كل مكان في البيت، وفي عمق الليل يعم الصمت.
يشق الصمت أذان الفجر، ومع إغفاءة الأجفان وسفرها في رحلة الهروب من الزمن، تفيق لتؤدي صلاة الفجر، تتوضأ من دموع عينها الجارية، فرشت السجادة المطرزة بخيوطها الفضية الجميلة، لا تقوى على الوقوف، تجلس وتصلي، وأحزانها مازالت واقفة، قوَّس الزمن ظهرها فأصبح القوس هلالا، تردد بعض الكلمات الفارسية عندما لا تجد من يسمع وجعها، يا حسرتي أين هم؟ ماذا فعلوا بهم!! هل ما زالوا على قيد الحياة ؟ أرحني يا الله.
جف سيل دموعها، الروح تخرج من الجسد، كلما ذكرت أولادها، والجمرة في القلب، كوابيس الخوف تلاحقها، وجع لا يحتمل، استطابت الليالي أحزانها، يتوغل الوجع في داخلها، كنار في الهشيم، فبعد انتظار وصبر طويل ليأتي مولودها الذكر الذي كان حلما لها، بعد ثلاث من الإناث، ها هو الذكر، فرحتها لم توصف، كعاقر أنجبت، كغريق أنقذه أحد، ماذا تسمى المولود، فبعد هذا الانتظار وطلب المولود من الإمام أمير المؤمنين علي سيكون عبدا للأمير علي (عبد الأمير)، وفتْ بنذرها، حلقتْ شعره وأعطت بوزنه فضة، وكما كان في السابق يُحلق المنذور في صحن الأمير علي تحت مرزاب الذهب ، فرحتها بأميرها الصغير أنستها كل الهموم والأحزان، فقد ولدت صبيا، يبهر كل من رآه لشدة جماله، فالعيون عسلية، والشعر ذهبي، ابيض البشرة، طويل القامة، وما أن تمضي سنة على ميلاده حتى أشعلت شمعة بطوله، خوفها عليه كان عجيبا، لا تنام وابنها المدلل مازال مستيقظا، الغالي والنفيس كان له، ترتل له الأناشيد الفارسية، مضت السنين والأيام وأصبح شابا أنيق المظهر.
ثم رزقها الله بمولود جديد ماذا؟؟ إنه ذكر!! الحمد لله، هاهو المولود الثاني ذكر، شكراً يا الله، إنه مهدي، حظي بعناية شديدة، تكبر أحلامها كلما زاد عمر أبنائها يوما، فرحتها كانت مؤقتة، سرعان ما وصلت عاصفة خطفت زرعها المثمر، في الانتفاضة الشعبانية عام1991، ثار الثائرون على حكومة ظالمة، سرقت حقوقهم، وسفرت أحبتهم، قاومت المدينة النظام البعثي، بكل ما لديها من السلاح والشباب، حتى أخذوا يرمونهم بالمدافع، شارك أولادها في رفض الظلم والجور وقول لا لحاكم جائر .
انغمس الخوف في قاع قلبها، صارت تخبئ أولادها خوفا من النظام البعثي، فهي وحيدة هنا بعدما سفر أهلها وأحبتها كرها وظلما، تخرج مجروحة ملفوفة بالدمع والحسرة على سنين عمرها، تجري على ضفاف العمر دمعات وآهات، خرجت في الظلام الداجي، وعلى الجثث تلهو الحيوانات، خائفة ترتعش إنهم يملأون الشوارع، فرقة مدرعة ووحدات متفرقة من الحرس الجمهوري والحرس الخاص وعناصر من الأمن الخاص وبقايا المخابرات والأمن العام وعدد من البعثيين، نظرت إلى الأرض فإذا هي تهتز، ولكن هذه الهزات والإضاءات ليست طبيعية، ولكنها أعمال بعثية حاقدة، هذا الحقد الذي أفزع الناس والأهالي والأطفال والشيوخ والنساء الحوامل، سرعان ما التفتت إلى أولادها قائلة: ليس لنا مأوى سوى حرم سيد الشهداء (ع)، فرُوحها في غُربة، والفِكر في شُرود، والقلب أعْياه القَهْر والخوف، والجسد يرتعش كسعفة نخل، جثث وحرائق وخراب واقتحامات للبيوت ونهب محتوياتها ودبابات تفجر القذائف بداخلها وسط المدينة، مما اضطر الناس الى اللجوء الى مرقد الإمام الحسين، تسْتر دَمْعها.
بَكت دون نَشيج، فلم يَشعر بحرارة دمعها أحَد، ساتِـرَةً وَجَعَها، مسافة البيت عن المرقد لا تبعد كثيرا سوى بضع خطوات ولكنها كانت مسافة يوم كامل، فهي ترى الجثث والرصاص، تعثر بأشياء لا تستطيع أن تراها خوفا من أن يكون احد أحبتها، تفرش ذيل ثوبها لأقدام أطفالها خوفا من أن تلتصق اقدامهم بالدماء، والدمار منتشر في كل مكان، الجثث منتشرة بين أنقاض البنايات، ورائحة الموت الصدامية، الدبابات تسحق على الشهداء، والقوات المختصة وأجهزتها الرهيبة تسوق الآلاف من الشباب إلى المذابح، دخلوا في مرقد سيد الشهداء (ع) حيث الأمان والطمأنينة، جلست متعبة تحتضن أولادها .
مرّت أيام وهم بحاجة الى كسرة خبز، فكل من كان في الصحن الشريف يساعدون بعضهم، بتقديم الطعام، وإعطاء الملابس، حتى جاء ذلك اليوم الذي دخل فيه المجرم (حسين كامل)، الذي كان يقود الهجوم على كربلاء وكان له كلمته الشائعة التي سمعها اغلب الناس وهو يقف أمام ضريح الإمام الحسين بن علي بن ابي طالب قائلاً "أنت حسين وأنا حسين كامل" ساخرا من عظمة الامام الحسين ومكانته .
وكان يصدر أوامر مشدّدة إلى قواته بتدمير بيوت الثوار وملاحقة اهلهم، ألقى حسين كامل القبض على المئات من شباب كربلاء فأعدم بنفسه الكثيرين منهم، ورمى الأحياء في مقابر جماعية، وأمر حسين كامل بتوجيه مدافع الدبابات والقاذفات R.B.G7 إلى الصحن الشريف وقد هدمت الدور الواقعة حول الصحنين الشريفين، صحن مرقد الإمام الحسين وصحن مرقد أخيه العباس على من فيها وبقيت الجثث شهورا تحت الأنقاض! لقد كان حسين كامل يريد أن ينهي مهمة القتل والتدمير في كربلاء دون تأخير لكي يتجه نحو النجف وقد أصدر عدد من الأوامر والتعليمات ما يكفي لقتل أكبر عدد ممكن من أهل المدينة وإنزال الدمار بها وسوق الآلاف من شبابها إلى معتقلات الرضوانية في بغداد، فاندفع أحد كلابه وناوله بندقية، وهيأها للرمي على ابنها الشاب (عبد الامير) فسددها باتجاه الشاب، وقال له: أنت كنت مع الثوار في داخل الصحن، ثم عاد والتفت إليه وأعاد سؤاله ثانية: من منكم مع الثوار؟.
فذهب الشاب بخطوات معهم، الى المجهول!، عيونها الحائرة، وتنهيداتها، وقفت نحو الجندي متوسلة إياه أن يترك ابنها، فما عاد جوابه إلا شظايا من ألم ..
في هدوء الليل الحزين، دقت نواقيس الساعة ليلا، صوت الرفسات المتتالية على باب الدار، وأصوات صرخاتهم، هاهم جاءوا الى دارها من جديد، أغلقت النوافذ الخشبية، وأسرعت لتخبئ إبنها خلف الخزانة، لكن القدر كان أسرع منها، دخلوا وقطفوا ثمار قلبها، ثانية اخذوا ابنها البالغ من العمر (18) من سريره وبملابسه، أسرعت تبحث عنه فى كل مكان ما تركت أحدا، لا احد يعلم أين أولادها، البعض قال قتلوهم بالرصاص، وآخر قال رموا بأجسادهم في حوض التيزاب، والبعض الاخر قال أعدموهم.
أخذت تصيح وتصرخ اولادي اولادي يا فلذة كبدى الى اين ذهبتم، أين انتم الآن؟؟ أين بات شبابكم؟ آه يا اولادي، سأبقى اتذكركم .. لن ترى عيناي غيركم... ولن يخطر على بالي سواكم.. ستبقون كل شيء .. كان رحيلكم نهاية حياتي.
خفق قلبها كما لم يخفق يوماً، ثم أحسّته انتزع من صدرها انتزاعاً، وكل ملامح الحزن والأسى ارتسمت على وجهها، لا تقرب الطعام ولا الشراب، وأصبحت وجنتيها خطوطا من اثر البكاء، وضاع الفرح وصار الحزن يملأ المكان وأصبح الصمت في كل دار، القلب يصرخ والعين تدمع، وانطفأت شمعه شبانها.
هذه الأم الآن أوشكت على الهلاك من هول المصيبة، لا قبر لهم، فتذهب لتزروهم ولا جثة تبكي عليها، توقد الشموع عند عتبة دارها ليلا، مازالت دمعات فقدها تروى للزمن قصة أبطال خلدوا، فكانوا شموعا أضاءت الانتفاضة.
اضف تعليق