كما هي الأمراض التي تستوطن السياسة والاقتصاد وسواهما في بلادنا، هناك مرض لا يزال يستوطن ثقافتنا، لا تستطيع الى الآن أن تتخلص منه، ونعني به مركزية الثقافة، ففي الوقت الذي يحاول فيه العراقيون بقوة، واصرار واضح، التخلص من المركزية وعيوبها، لا تزال ثقافتنا الى الآن متمسكة بنسبة كبيرة بالمركزية الثقافية، في محاولة للتسيد على ما يسمى بـ (الهامش)، وتظهر ملامح المركزية في جوانب ومؤشرات عديدة.
من هذه المؤشرات، تلك المحاولات المستميتة التي تحاول من خلالها المؤسسات والمنظمات والاتحادات الثقافية المقيمة في العاصمة او ما يسمى المركز، بمسك زمام الامور وخاصة الادارية والمالية وحصر اقامة المهرجانات والنشاطات الثقافية المتنوعة بها، او بتوجيه وتأثير منها، فضلا عن السيطرة على وسائل الاعلام الرسمية المختلفة، والايفادات وما شابه من امتيازات اخرى، تحصرها مؤسسات المركز بأفرادها ومؤيديها، وفي كل هذه الامور تحاول المركزية الثقافية الادارية على وجه الخصوص أن تبقي على الهامش تابعا لها ومرتبطا بها ومنفذا لرؤيتها وأوامرها الادارية والتنظيمية.
وهذه للأسف ظاهرة كان ينبغي التخلص منها تماما واطلاق حرية الثقافة وانشطتها في جميع مناطق العراق، وعدم ربطها بالمركز، بسبب النتائج السلبية التي ترافق او تنجم عن مثل هذه التبعية، ومن المفارقات الغريبة التي تعيشها ثقافتنا، أن الهامش نفسه ومؤسساته ومنظماته الثقافية، تُسهم في تكريس سيطرة المركز على زمام الامور كافة، ليس الادارية فحسب، وانما حتى التنظيمية منها، وهو أمر غريب لا نجد له سببا او تفسيرا سوى ضعف شخصية القائم على ادارة أنشطة الهامش كما يسميه المناصرون لمركزية الثقافة، وعدم القدرة على الخلاص من التبعية للمركز!.
ولا شك أن هناك ما يثبت إصرار المؤسسات المتواجدة في العاصمة، على تكريس المنهج المركزي للانشطة الثقافية المختلفة، والعمل باستمرار ودقة على مضاعفة تبعية المحافظات الى مؤسسات العاصمة، وهو امر كما يراه مختصون لا توجد له ضرورات حتمية، خاصة فيما يتعلق بالجانب الابداعي والفكري، فهناك مثقفون ومفكرون ومبدعون، يسكنون خارج المركز وينشطون في الأطراف، واستطاعوا أن يتفوقوا في عطائهم وابداعهم على من ينتسب الى مؤسسات ومنظمات العاصمة.
وهذا دليل قاطع على عدم أهمية المنهج المركزي في ادارة واستمرارية الانشطة الثقافية، بمعنى لا يشكل الارتباط بالمركز عاملا حاسما على تطور الفكر والثقافة، بل ربما يحدث العكس تماما، اما عندما يتعلق الأمر بالجانب الاداري والتنظيمي، فإن هذا الأمر لا يبرر سيطرة مؤسسات العاصمة على (الفروع) كما يسميها الاداريون في العاصمة.
مقارنة بين الهامش والمركز
لا يختلف المركز (العاصمة) عن الهامش (المدن القصية)، بشيء عن بعضهما، سوى وفرة الفرص الاعلامية والعملية، اكثر منها في مدن الهامش، هذا اذا تحدثنا عن الاعلام ووجود الفضائيات المهمة في بغداد، وجعل وجودها الاعلامي أقل تأثيرا واهمية في المدن، وهو أمر ينطبق على وسائل الاعلام الاخرى كالصحف والمجلات فضلا عن الاذاعات وسواها، وفي جميع الاحوال يكون التأثير الاعلامي في المركز اقوى وضوؤه أكثر سطوعا، وهذا ما كان يحدث في ظل الأنظمة السياسية السابقة التي حكمت العراق.
ولا يزال هذا الأمر موجودا في المركز، حيث السيطرة الاعلامية والتفوق في البث الفضائي وفي وجود الصحف المهمة، يكرس سيطرة الاعلام على الانشطة كافة والتحكم بتوصيلها الى ابعد نقطة ممكنة، وهذه ميزة للثقافة المركزية على حساب ثقافة الهامش، فبالاضافة الى وفرة فرص الانتشار وحرية العمل وسواها من عوامل مساعدة اخرى، نجد في مقابل ذلك قلة الفرص في الهامش وضعف المؤسسات الاعلامية والثقافية، والسبب دائما هو التبعية التي يفرضها المركز، والمؤسسات الثقافية في العاصمة على المؤسسات التي يطلق عليها بالفروع في المدن الاخرى الأبعد.
وعندما نطرح التساؤل الذي غالبا ما يتردد على ألسنة، وفي اذهان الكثيرين، هل هنالك فرق كبير بين العمل الثقافي في العاصمة والمدن الاخرى، وما هي الاختلافات إن وجدت؟، فإن الاجابة سوف تكون بالايجاب، لا ريب أن الحركة الثقافية في العاصمة غالبا ما تكون اوسع مع تعدد الأنواع وسعتها، فضلا عن الامكانيات الكبيرة التي تتوفر عليها الجهات المعنية القائمة على ادامة الأنشطة الثقافية في الجانبين.
وعندما نعقد مقارنة بين الطرفين في هذا السياق، فإننا مثلا نجد منظمة ثقافية في احدى المحافظات تقدم أفضل الأنشطة الثقافية والفكرية والابداعية، بجهود ذاتية بحتة، لا يدعمها احد، لا جهات رسمية ولا أهلية، ومع ذلك تثبت جدارتها في تعميق النشاط الفكري والثقافي في الهامش، في حين أن المنظمات الشبيه لها في العاصمة تحصل على دعم كبير من جهات مختلفة في الخارج والداخل معا، وهنا تغيب العدالة بطبيعة الحال، فما يميز المنظمتين هو المكان وكثرة الضوء الاعلامي لا غير وخاصة في الفضائيات المؤثرة، حيث يصل صوت المنظمة الثقافية في المركز، اكثر وابعد من منظمة الهامش الثقافية، ولكن على مستوى الفعل والجوهر الفكري والثقافي الذي يطرحه نشاط كلا المنظمتين، لا يؤشر فرقا كبيرا بين الاثنتين، هذا إذا لم يكن نشاط منظمة الهامش اكثر فائدة وجدية من منظمة المركز.
كيف نكرس اللامركزية الثقافية؟
خلاصة ما نريد أن نصل إليه، هو إقرار وتطبيق منهج مختلف، يجعل من الثقافة متاحة للجميع من دون وصاية أحد او جهة رسمية، او منظمة او اتحاد او مؤسسة او وزارة، مع تحقيق عنصر المساواة واللاوصاية، وهذا الهدف الجوهري لا يمكن تحقيقه في ظل المنهج الراهن للثقافة العراقية، التي لا تزال تعتمد مركزية القرار والنشاط والتبعية الادارية وسواها، ومن الأمثلة البسيطة على هذه السيطرة المركزية المرفوضة، أن الهيأة الادارية لهذا الاتحاد، جعلت من هذه المنظمة الثقافية تحت وصايتها، وجيّرتها لمصالح فردية، حيث سعى افراد الهيأة الادارية الى تحقيق مكاسب فردية كثيرة على حساب أدباء ومثقفي الهامش.
فمثلا هذه الهيأة الادارية التي (أكل الدهر عليها وشرب)، حيث تكررت قيادتها (رئيس الاتحاد، ونائبه، وناطقه الرسمي، ونائب النائب) ثلاث دورات انتخابية متتالية، في فعل انتخابي مفضوح ومخطط له مسبقا، أعطى صورة مشوهة لكيفية اجراء الانتخابات للسياسيين العراقيين الذين أخفقوا بدورهم في ادارة البلد، هذه الهيأة هي التي تتحكم بالايفادات والموارد المالية للاتحاد، وهي التي تحدد شكل الأنشطة والاشخاص المشاركين فيها، وهي التي توزع الهدايا والشهادات والامتيازات على من يؤيدها حصرا!!.
ومثل هذه الأفعال تنم عن بؤس المركزية الثقافية، مع إلحاق أفدح الأضرار في ثقافة الهامش التي لا تزال حتى الآن تنوء بحمل هذا المنهج المركزي الذي لم يعد مقبولا في عصرنا الراهن، كونه لا يساير الطبيعة الجديدة للوضع العراقي، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة حيث يطمح الجميع نحو التغيير والتقدم.
لذا من المهم جدا ومن أولويات مهمات المفكرين والمثقفين والمعنيين بالثقافة العراقية، هي تحديد آليات وخطوات عملية جديدة تفتت المركزية الثقافية، وتفتح الآفاق واسعة نحو اللامركزية الثقافية، وهو هدف علينا أن نتعاون جميعا من اجل تحقيقه بصورة فعلية، وليس كما يحدث مع (السياسيين) الذين يعتمدون مبدأ قل ولا تعمل، فلا يصح أن نؤشر ونحدد أهدافنا ولا نعمل او نسعى من اجل وضعها موضع التطبيق، والخلاصة نحن بحاجة الى دحر المركزية الثقافية الى الأبد.
اضف تعليق