بفعل التطورات والتحولات السياسية والأمنية والاقتصادية المتلاحقة في البلدان العربية، فشلت بعض هذه البلدان في الخروج من مآزقها ومشكلاتها بنجاح واقتدار، كما وقعت في المزيد من الصعوبات السياسية والأمنية والاقتصادية، وأضحت بعض هذه البلدان في عداد الدول الفاشلة وفق المصطلح السياسي المتداول حديثا والذي يعني عدم قدرة هذه الدول على مواجهة مشكلاتها وصعوباتها ومآزقها، وتمكنت هذه الصعوبات من السيطرة على المشهد السياسي لهذه الدول التي لم تتمكن من الخروج من صعوباتها ومشكلاتها. واليوم حيث استمرار التحولات والتطورات، أضحت حقيقة الدول الفاشلة غير القادرة على حماية مصالحها الحيوية من حقائق المشهد العربي العام.
ونظرة واحدة على الأحداث التي تجري في العراق وليبيا وسورية واليمن، تثبت حقيقة ما نقول.
ونحن نحاول في هذا المقال الإطلالة السريعة على مصطلح الدولة الفاشلة وما هي المتواليات والتأثيرات المباشرة التي ترافق أية دولة لا تتمكن من الخروج من صعوباتها ومشكلاتها. وثمة حقيقة سياسية ومجتمعية تكشفها الكثير من الأحداث السياسية الكبرى التي تجري في المنطقة، إلا أن القلة من المهتمين من يلتفت إلى هذه الحقيقة، ويرصد آثارها ومتوالياتها على المواطنين وعلى الاستقرار المحلي والإقليمي والدولي.
وهذه الحقيقة هي أن أخطر مرحلة تبلغها الأحداث والتطورات في أي بلد، هي حينما يصبح هذا البلد بلا راع، وبلا حكومة تضمن الحدود الدنيا للنظام وتسيير شؤون الناس؛ لأن الدولة التي تصبح بلا راع ينظم مصالح الناس ولو في الحدود الدنيا، ويمنع التعديات على أملاك الناس وأعراضهم، تصبح هذه الدولة فضاء مفتوحا ومتاحا لجميع الجماعات السياسية والإجرامية لتنفيذ مخططاتها وأجندتها بعيدا عن الرقابة والمحاسبة من قبل الأجهزة الرسمية.
وفي ظل صعود الجماعات العنفية العابرة للحدود، تتحول هذه الدولة الفاشلة إلى بيئة حاضنة لهذه الجماعات، تدرب فيها عناصرها على الأعمال الإرهابية والعنفية وتطوير تعبئتها الأيدلوجية، ما يسرع في عملية اتساع دائرة هذه الجماعات التي تهدد أمن الأوطان والمنطقة بأسرها..
وأمام هذه الحقيقة المركبة والمتداخلة، تتعقد أزمة الأجهزة الأمنية القادرة على ضبط الأمن في هذه الدول، وتصبح هذه الدول الفاشلة ساحة مكشوفة لكل الإرادات والمشروعات الأمنية والسياسية، ما يزيد الأعباء على أبناء هذا الوطن وتلك الدولة الفاشلة. فالجميع يتنافس ويتصارع بمختلف الأسلحة الأمنية والسياسية والعسكرية على أرض ليست أرضهم وبدماء هذا الشعب المسكين الذي انهارت دولته وتحولت إلى دولة فاشلة غير قادرة على ضبط أمنها الداخلي وأمن حدودها. ولكونها أضحت ساحة مكشوفة وغير مسيطر عليها بقانون وأجهزة تنفيذية قادرة على ضبط الأمن والاستقرار، فإن جميع القوى الإقليمية والدولية والقوى الخارجة على قوانين بلدها، ستتجمع في فضاء هذه الدولة الفاشلة وستتصارع هناك وستدمر بقية البنية التحتية غير المدمرة، وستفتك بالنسيج الاجتماعي والوطني، ما يفاقم من أزمات هذه المجتمعات، ويدخلها في أتون الفوضى المدمرة والكارثية على كل الصعد والمستويات.
وأمام هذه الحالة التي تؤثر سلبا وبشكل عميق في الأمن الوطني والإقليمي والدولي نود التأكيد على النقاط التالية:
1 - لو تأملنا في البدايات الأولى والتي أنتجت في المحصلة النهائية ما نسميه (الدولة الفاشلة) سنجد أن أحد الأسباب الأساسية هو انسداد أفق الحل والمعالجة الداخلية لمشكلاتها السياسية والأمنية والاقتصادية وتصلب جميع الأطراف وعدم تنازلها وسعيها إلى خلق تسوية ترضي الأطراف المتصارعة وتخرج الوطن والشعب من احتمالات الصدام والصراع الدائم.
فحينما ينسد أفق الحل السياسي الداخلي وتتعاظم تأثيرات الأزمة، وتستدعي جميع الأطراف المتصارعة الخارج سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن النتيجة الفعلية المترتبة على ذلك هي تآكل الدولة ومؤسساتها من الداخل وتعزيز الانقسام الأفقي والعمودي في المجتمع، وتوقف عجلة البناء والتنمية، وكل هذه العناصر مجتمعة تفضي إلى دخول هذه الدولة في مرحلة الفشل والعجز عن معالجة مشكلاتها وأزماتها المستفحلة.
وحينما تصل الدولة إلى مرحلة الفشل والتآكل الداخلي، فإن عودتها إلى عافيتها تتطلب الكثير من الجهود والإمكانات والصبر، وقد تتعافى وفي كثير من الأحيان لا تتعافى، وإنما يستمر التدمير والدمار والقضاء على المؤسسات المتبقية للدولة. وأمامنا جمهورية الصومال كمثال على ذلك، فهي ومنذ سنين طويلة تعاني الصعوبات الجمة للعودة إلى دولة مركزية قادرة على ضبط الأمن وتسيير شؤون مواطنيها. فلم يعرف الشعب الصومالي خلال العقود الثلاثة الماضية إلا القتل والدمار والحروب الداخلية والكانتونات المغلقة على بعضها البعض والتدمير المتواصل للنسيج الاجتماعي والقبلي.
من هنا ولكي لا تصل بعض الدول العربية الأخرى إلى مرحلة الفشل بحاجة إلى الإسراع في وقف الانحدار والتآكل الداخلي، عبر الإصلاحات الإدارية والدستورية والسياسية، التي تعيد الحياة إلى مشروع الدولة، وتعيد ثقة شعبها بقدرة الدولة على الخروج من مأزق الانهيار والتآكل الداخلي.
2- دائما في لحظات انهيار الدول المركزية، تبرز وتتعاظم الانقسامات الاجتماعية تحت يافطات دينية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية أو جهوية، ما يجعل الانهيار خطيرا لأنه يصيب الدولة والمجتمع في فترة زمنية واحدة، ما يفاقم من حالة العنف والاحتراب الداخلي.
وهذا التشظي المجتمعي يكشف عن غياب مشروع وطني لهذه الدول لإنجاز مفهوم الاندماج الوطني لذلك وفي اللحظة الأولى لغياب الدولة أو تآكلها تبرز كل التناقضات المجتمعية، ودائما يكون البروز بوسائل قهرية - عنيفة تساهم في تدمير النسيج الاجتماعي والوطني. وهذا بطبيعة الحال يعود إلى غياب مشروع للانتماء الوطني، بحيث يكون هذا الانتماء هو الانتماء المشترك الذي يضمن حقوق الجميع بدون افتئات على أحد.
وتتحمل كل الدول العربية في هذا السياق مسؤولية العمل على بناء مشروع وطني متكامل للاندماج الوطني، بحيث لا تتحول مجتمعاتنا العربية إلى مجتمعات منقسمة أفقيا وعموديا تحت يافطة الانتماءات التاريخية والتقليدية.
وتتوسل هذه الدول في بناء مشروع الاندماج الوطني على وسائل التنشئة والتثقيف والإعلام والتعليم والتعامل مع الجميع بمساواة على قاعدة المواطنة الجامعة.
وهذا بطبيعة الحال سيخفف من مخاطر التآكل الداخلي للدولة، لأنه يبقي المجتمع موحدا ولديه القدرة على بناء كتلة تاريخية وطنية قادرة على وقف الانحدار وإعادة بناء الوطن على أسس جديدة تخرج الجميع من أتون المآزق السابقة.
3- من الضروري أن تدرك جميع دول المنطقة أن تجذر الجماعات التكفيرية والعنفية في المناطق التي انهارت فيه الدولة أو تآكلت، يعد خطرا حقيقيا على الجميع؛ لأنه لا يمكن للأمن الوطني والقومي العربي أن يهنآ بالاستقرار السياسي في ظل وجود جماعات عنفية-تكفيرية تمتلك القدرة على التدريب العسكري وحيازة الأسلحة والمعدات العسكرية بكل أنواعها.
لذلك ثمة ضرورة وطنية وقومية لكل الدول العربية لبناء مشروع عربي متكامل يستهدف مواجهة جماعات العنف والتكفير التي بدأت بالانتشار والتوسع في دول عربية مختلفة مستفيدة من وجود ثغرات أمنية وسياسية عديدة في جسم بعض هذه الدول؛ لأن هذه الجماعات وكما أثبتت التجربة في أكثر من مكان، لا تعرف إلا القتل والتفجير وتدمير البنى التحتية، ولا شك أن هذه الجماعات وبما تشكل من فكر عنفي وممارسات إرهابية تشكل خطرا محدقا على العالم العربي.
ولا خيار أمام العرب إلا الوقوف في وجه الثقافة التكفيرية والجماعات العنفية والإرهابية التي قد تلتقي مع إرادات دولية أو إقليمية بشكل موضوعي لإدخال العالم العربي في أتون العنف والعنف المضاد.
ولو تأملنا في ظاهرة الإرهاب، لرأينا أن الدول الفاشلة من أخصب البيئات الاجتماعية والسياسية لتمدد حركات وتنظيمات الإرهاب. فتنظيم داعش لو لم يجد دولا فاشلة أو في طريقها للفشل، لما تمكن هذا التنظيم من التوسع والامتداد. لذلك لايمكن محاربة الإرهاب إلا بإصلاح وضع الدول العربية، وإخراج الدول الفاشلة منها من مربع الفشل، عبر دعم مشروعات المصالحة من مآزق انسداد أفق الحل والمعالجة السياسية.
وجماع القول: إن العالم العربي يواجه تحديا جديدا، يتجسد في انهيار وتآكل بعض دوله، ما أدخل مجتمع هذه الدول في مضمار الصراعات المعقدة والمركبة بعضها متعلق بملفات وصدامات داخلية، وبعضها الآخر متعلق بصراع الآخرين على أرض هذه الدولة المتآكلة ما جعل في الوسط العربي مجموعة من القنابل الحارقة والخطيرة في آن.
وأمام هذا التحدي النوعي الجديد، بحاجة أن تبادر دول العالم العربي لإيقاف هذا الانحدار وإيجاد خطط حقيقية وممكنة لإخراج هذه الدول من سقوطها السريع وتآكلها الداخلي المستغرب.
وهذا لا يتم على نحو فعلي إلا بأدوات إصلاحية، تنهي بعض مآزق العلاقة بين الدولة والشعب، حتى يتمكن الجميع من الخروج من مخاطر انهيار دولة عربية في ظل أوضاع عربية على أكثر من صعيد حساسة ودقيقة وتتطلب إرادة عربية جديدة تتجه صوب بناء أنظمة سياسية دستورية وقانونية وديمقراطية.
اضف تعليق