هل العراق يمر في مرحلة حرجة؟؟ ماهي أوجه هذا الحرج، هل هو سياسي، اقتصادي، أم ثقافي؟ وهل المثقف يعي طبيعة هذه المرحلة، ويفهم، خطورتها؟ واذا سلّمنا بالنتيجة الايجابية لهذا السؤال، وقلنا أن المثقف يفهم هذه المرحلة بدقة، سوف ينبثق سؤال آخر، هل المثقف يؤدي دوره في التصدي لمصاعب ومخاطر المرحلة الراهنة التي يمر بها العراق اليوم؟ وهل هو حاضر بقوة، أم أنه يفضّل الانزواء والتراجع؟.
إن الثقافة العراقة عانت كثيرا من السياسة والقرار السياسي، وانعكس ذلك على المثقفين عموما، وتم إضعاف دور المثقف في أنشطة الدولة والمجتمع، ولا يزال الحال نفسه حتى بعد نيسان 2003، فمع كل هذا الضجيج الذي يدور في ربوع العراق أرضا وشعبا، في مجالات السياسة والتخطيط والاقتصاد والتعليم والصناعة وسواها، ومع كل هذه الفوضى التي تجتاح العراق، نلاحظ تحييدا مبرمجا لتغييب المثقف، أو غيابه، وانتفاء أي دور مبرز له، وحتما هناك جهات تعمل على تحقيق هذا الهدف وتخطط له.
فلماذا هذا الضعف الذي يعتري الوسط المثقف، مع أننا نتفق كما تؤكد التجارب في الامم والشعوب الاخرى، بأن شريحة المفكرين والمثقفين، في الغالب، هي التي تقود الطبقات والشرائح المجتمعية الاخرى، أو يفترض أن يكون الامر كذلك، وهي التي تتحكم في دفة التوجيه، وتنشر الوعي بين من أهم أقل وعيا، وأقل معرفة ببواطن الامور وخفايا المخططات السياسية مما يحيط بهم، ويسمم حياتهم، ويجعلها لا تليق بالكرامة الانسانية، إذاً لماذا يتراجع المثقف في هذه المرحلة الحرجة من عمر البلد وهو في أصعب الظروف؟.
إن الشكوك تحوم حول هذا التراجع الغريب للمثقفين والمفكرين عموما، مع أنهم (رأس الرمح) في قضية الوعي والثقافة، ففي ظل مثل هذه الأوضاع التي يعيشها العراقيون منذ سنين، وفي ظل تداخل الاوضاع واشتباكها واختلاطها، الى درجة فقدان الرؤية والسلوك معا، وعدم معرفة المسار الابيض من الاسود كما يقال، ومع الحاجة القصوى لمساعدة الشعب على الابصار، ومضاعفة البصيرة لدى الشرائح الاقل وعيا، مع هذا كله، نلاحظ تراجعا غريبا لدور المثقف والمفكر في استنهاض قدرات الشعب.
صراع مستمر مع السلطة
في عقود الحكومات العسكرية الفردية، كان المثقف محاصرا ومكبوتا وكانت أفكاره تثير الخوف والتحسّب والقلق لأصحاب السلطة، فتمارس مراقبة صارمة على الفكر الحر، ومع ذلك كانت هناك ومضات للتحرر الثقافي يحاول المفكرون والمثقفون أن يمرروا من خلالها أفكارهم الى الشعب عبر الايحاء والتصريح وما شابه، فكان التغيبب الفكري والثقافي لا تتم مواجهته بالصمت أو التراجع، لذلك ثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها حول هذا الموضوع.
لذلك يُثار هذا التساؤل مجددا، لماذا لا نلمس حضورا واضحا للمثقف، أين دوره؟ لماذا هذا الغياب المؤسف، وهل هو غياب بمحض الارادة، أم تغييب قسري تقوم به جهات معينة، تعمل بالضد من ارادة المفكر والمثقف والنخب الاخرى، فتحجّم دورها وتحاضر قدراتها كي تحد من نشر الوعي والثقافة وتعيق قيادة المجتمع نحو الافضل؟ وهل ثمة إجابة صحيحة وواقعية عن هذه التساؤلات؟.
بين الآونة والاخرى تُطرح اجابات بعضها تأتي بالخفاء وتارة في العلن، والسبب هناك خوف من السلطة سابقا، لذا كانت السلطة ولا تزال تتحامل على المثقف، وتخشى الثقافة، وتحارب المفكرين، فكما هو معروف، ان الغياب والتغييب، يؤديان الى الهدف المطلوب، بخصوص تحييد المثقف ودوره، وابقاء الوعي الجمعي او الشعبي، في المستوى الأدنى دائما، وبالتالي يتحقق للجهات التي تسعى لتجهيل الشعب هدفها.
وهذه النتيجة تتسق مع غاية السلطة الهادفة لقتل الثقافة، وهذا هدف خبيث وخطير، يعمل على تخدير الطبقة الكادحة من المجتمع، بشتى الوسائل، مع شن حرب شعواء على الفكر، وعلى مشاعل الفكر، وهو هدف واضح ومعروف، وغالبا ما دخلت الطبقة المثقفة كما تشير التجارب في صراع ضخم متواصل مع السلطة، أو الطبقة الحاكمة عموما، بيد أن الجانب الخطير في هذا الامر عندما يقوم المثقف نفسه بتغييب دوره!، فهناك مثقفون يتراجعون في الأوقات الحرجة، فبعضهم يذهب نحو الانطواء، وآخرون يؤثرون الصمت.
وهذا النوع من المثقفين والمفكرين يساعدون السلطة على تغييبهم، وإلغاء دورهم، أي انه يقوم بمساعدة السلطة على تحييد دوره الريادي، بدلا من خوض الصراع مع السلطة لتعميق الوعي العام، وتحقيق الدور المطلوب للمثقف متمثلا بمواجهة السلطة بدلا من الهروب منها او التخاذل حيالها..
تحطيم الوعي الشعبي
هكذا يبدو هدف السلطة واضحا، إنها في حالة من التضاد المستمر مع الثقافة، أنها تخشى الوعي وتعمل على محاصرته دائما، لذا تسعى لتحجيم دوره بصورة مستدامة عبر آليات الرصد والمراقبة والكبت وما شابه، فهناك نوعان من تحجيم الدور الثقافي، منه ما تقوم به الطبقة الحاكمة، ومنه ما يقوم المثقف نفسه به، أي يتنحى جانبا، ويترك مسؤولياته في بث الوعي الجمعي وحمايته ومضاعفته، وهو بهذا الفعل يشترك مع الطبقة الحاكمة في تجهيل الشعب، ومحاصرة الوعي بين مكوناته، فتضمن السلطة مصالحها بهذه الطريقة المكشوفة
ولكن عندما ينسحب دعاة الفكر وأصحاب الثقافة من الميدونـ ويتركون السلطة تفعل ما تشاء، فإن المجال يفسح للفاسدين، ويمكن للسراق والعصابات الايغال اكثر في سرقة ثروات الشعب، ومن ثم التجاوز على حقوق الاغلبية من الفقراء، ليس في الجانب المادي كالاموال والثروات وما شابه، بل حتى في جانب الارتقاء بالعقل والفكر والرؤية العميقة للحياة، من اجل تكوين مجتمع مثقف ناضج، يعتمد الفكر والوعي في السلوك ومسايرة الحياة اليومية، لبناء مجتمع مدني متنور ومتطور، وهذا بالضبط دور المثقف في حالة الحضور ودور الثقافة في حالة كونها مؤثرة وفاعلة.
أما عندما نتحدث عن حقيقة دور المثقف، وهل هو حاضر أو في حالة تراجع في المرحلة هذه الصعبة، فلابد من الاعتراف ان دور المثقف ليس حاضرا كما يجب، وهناك مشاركة من المثقفين انفسهم في تغييب هذا الدور ومحاصرة المثقف، من خلال السماح لمثقفين طارئين، بتصدر الحراك الثقافي، وتراجع النخبة الثقافية المعنية فعلا بتدعيم الوعي وقيادة الثقافة، فضلا عن ابداء المحاباة للسلطة، وهو امر يثير الشكوك والريبة، إذ لا ينبغي للمفكر والمثقف التنازل عن دوره الأساس في قيادة المجتمع نحو المدنية والارتقاء.
وحتما يعي المثقف أن لا تقارب بينه وبين السلطة التي تسيء للشعب وحقوقه، إذ كيف يلتقي المثقف والحاكم في ظل ظروف تؤكد الخلل في ادارة الحكم لشؤون المجتمع، خاصة ما يتعلق بالتجاوز على الحقوق المدنية، وحقوق الفقراء عندما تتعرض ثروات الشعب للتجاوز، في اشكال وطرق منظمة، تديريها جهات وشخصيات تمتهن سرقة قوت الشعب، على مرأى من بعض المسؤولين!.
وأخيرا لابد من التأكيد في هذا المجال عدم صحة تراجع المفكرين والمثقفين امام السلطة الفاشلة، مهما كانت الأسباب، خصوصا في المرحل الحرجة والعصيبة، لذا ينبغي أن لا يسمح المثقفون بتغييب دورهم أو إضعافه، لأن هذا النوع من الغياب والتغييب لا يصبان في صالح المجتمع، ولا يساعدان على بناء دولة متقدمة ومستقرة، علما أن مسؤولية معالجة مثل هذه الأوضاع المعقدة، تقع على عاتق النخب كلها، لكن ينبغي أن يكون المفكر والمثقف في موقع متقدم من ادارة الصراع ضد السلطة.
اضف تعليق