نجاح كبير كتبته الدبلوماسية الإيرانية من خلال مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني، التي استمرت لعدة سنوات، وقد توجت تلك المفاوضات الشاقة باتفاق لوزان بين إيران ودول الخمسة زائد واحد في يونيو من العام الماضي. فبعد التزام إيران ببنود الاتفاق وإقناع الغرب والولايات المتحدة بنواياها النووية السلمية، على الرغم من معارضة إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة التقليديين في دول الخليج، أعطت وكالة الطاقة الذرية الضوء الأخضر لرفع العقوبات الدولية عن إيران، ليرسل بعدها الرئيس الأمريكي مرسوماً إلى الكونغرس يدعوه إلى رفع العقوبات عن طهران. وبالفعل دخل رفع العقوبات الاقتصادية حيّز التنفيذ، ليعمّ الفرح بعدها شوارع العاصمة الإيرانية "طهران" وبقية المدن في إيران، مقابل بؤس وإحباط واكتئاب في دول الخليج وإسرائيل.
رفع العقوبات يعني أن إيران -ومنذ سنين طوال- تجد نفسها بدون عقوبات دولية وإقليمية "سياسية واقتصادية"، وهذا يعني عودة الغاز والنفط والسجاد وغيرها من المنتوجات الإيرانية إلى الأسواق العالمية، وبلا قيود دولية أو إقليمية. كذلك رفع العقوبات يعني تدفق الأموال الإيرانية المتجمدة في المصارف العالمية والتي تقدر بـ(50) مليار دولار إلى الخزانة الإيرانية، وإلغاء كل القيود على القطاع البنكي والتأمينات، وهذا سيساهم في إنعاش البورصة الإيرانية بالتأكيد، إلا أن هذا الانتعاش سوف يؤثر سلباً على البورصة الخليجية، كذلك يؤثر سلباً في تهاوي أسعار النفط وقد تصل إلى أدنى مستوياتها، وربما تصل إلى ما دون العشرين، الأمر الذي سيدخل الاقتصاديات الخليجية والعراق وبعض الدول النفطية في كارثة حقيقية؛ وذلك بسبب ضخ إيران للخزين النفطي المقدر بـ(38) مليون برميل، وكذلك إنتاجها اليومي الذي سيصل إلى مليوني برميل يومياً، فضلاً عن الكمية التي تستعد طهران لضخها إلى الأسواق العالمية والتي تقدر بمليون برميل، وهذا سيُغرق الأسواق العالمية بالمنتوج النفطي المتخمة أصلاً بالنفط، ولعل هذا سيجعل من طهران القوة الاقتصادية النفطية المتحكمة في أوبك، وقد تحاول السياسية الإيرانية جر دول الخليج، ولاسيما السعودية إلى سياسة المضاربات الاقتصادية التي اتبعتها الأخيرة ضد إيران مؤخراً، محاولة منها تدمير الاقتصاد الإيراني، كما سبق لها في عهد الشاه؛ وذلك بسبب القوة السياسية والاقتصادية التي ستكتسبها إيران من رفع العقوبات؛ لكونها -أي إيران- أكدت بأنها قوة سياسية واقتصادية إقليمية ودولية في ظل العقوبات السياسية والاقتصادية التي فرضت عليها لسنوات طوال، فكيف بها وهي تنفض كل تلك العقوبات بعد رفعها سياسياً واقتصادياً بموجب الاتفاق النووي؟.
إذاً، نحن أمام تغير في ميزان القوى الإقليمي سياسياً واقتصادياً بعد رفع العقوبات المفروضة على إيران، وستكون إيران هي اللاعب الرئيس في المنطقة، ولاسيما في ظل تنامي دورها السياسي والعسكري والملفات السياسية التي تديرها في أكثر من بلد عربي. هذا التغير سيضع دول الخليج أمام حقيقة الدور الإيراني المتزايد، وتجنب التصعيد السياسي والعسكري، ولاسيما أن إيران من الممكن أن تصبح الحليف المستقبلي للولايات المتحدة في حال استطاعت توظيف دورها بشكل إيجابي في المنطقة، كحل الأزمة السورية واليمنية، وتجنب التصعيد مع السعودية ودول الخليج وإسرائيل، والانغماس الإيجابي مع السياسية الدولية، وتأكيد التزاماتها السلمية اتجاه الغرب والولايات المتحدة في المنطقة، ومساعدة العراق وحكومة بغداد على دورها السياسي والرسمي في حربها ضد تنظيم (الدولة الإسلامية "داعش")، والكف عن دعم وتسليح الفصائل الشيعية المرتبطة بها أيديولوجياً في العراق، ومساعدتها في تقوية المؤسسة العسكرية العراقية بعيداً عن كل المسميات الأخرى، وتشجيع دورها الدبلوماسي والسلمي على الصعيد الخارجي.
بالتأكيد هذا لا يعجب السعودية وإسرائيل المتخوفتين من تنامي دور طهران الإقليمي والدولي، وقد تعول إسرائيل على الانتخابات الأمريكية القادمة بصعود الجمهورين للرئاسة الأمريكية، ومحاولتهم تقويض الدور الإيراني. كذلك الحال بالنسبة للسعودية، إلا أن الرياض لم تفلح كل محاولاتها في جر إيران للمواجهة السياسية والتصعيد لكسر بنود الاتفاق النووي الإيراني مع المجتمع الدولي، والتي كانت آخرها قضية إعدام الشيخ النمر.
قطر وتركيا، ربما ستكونان الدولتين الأكثر براغماتية من السعودية في قضية رفع العقوبات عن إيران، وقد يتعاملان بطريقة أفضل من السعودية، وهذا سيجعل من هاتين الدولتين قريبتين من الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من أي وقت مضى، فضلاً عن دولة الإمارات العربية المتحدة، إلا أن التوافق الأمريكي بطرفيه التركي القطري والإيراني قد لا يُفضي إلى حل سياسي في سوريا أو/ولربما يتعكر بسبب الحركات المتطرفة التي تدعمها كل من قطر وتركيا ضد نظام بشار والتي صنفتها روسيا وإيران من ضمن الحركات الإرهابية التي لا يمكن التحاور معها، أو ليس لها مستقبل في سوريا بعد بشار الأسد.
هذا التوتر في المواقف لحل الأزمة السورية من الجانب التركي والقطري قد يحمل سيناريو آخر في حل الأزمة، وبضغط أمريكي على الطرف التركي والقطري، بأن لا مستقبل لتلك الحركات المصنفة تحت طائلة الإرهاب بالمفهوم الروسي الإيراني في مستقبل الدولة السورية بشرط تنحي بشار الأسد مستقبلاً. وقد تقنع الإدارة الأمريكية حلفاءها الأتراك والقطريين في هذا السيناريو، وتصطف مع الطرف الإيراني الروسي ضد تلك الحركات، ليس إرضاءً لطهران أو موسكو، وإنما وفقاً للرغبة الأمريكية غير المحبّذة بوجود هذه الحركات المتطرفة في مستقبل الدولة السورية، محاولة منها للحفاظ على علمانيتها. وهذا سيكون بحد ذاته انتصارا سياسيا للمحور الروسي الإيراني على المحور التركي الخليجي. لكن يبقى السؤال مطروحاً: هل بإمكان واشنطن أن توفق بين كل تلك الإرادات؟ وإذا وفقت كيف ستوافق؟ أم أنها ستكون خاضعة للإرادة الروسية الإيرانية وتعويلها على دور إيران الإقليمي، ولاسيما بعد نجاحهما في الحفاظ على النظام السوري لحد الآن؟.
أما بالنسبة للعراق، والذي يكون أكثر تضرراً؛ بسبب رفع العقوبات عن إيران وتهاوي أسعار النفط، والتي من المتوقع أن تنخفض لما دون العشرين دولارا، مما سيضع الحكومة العراقية وصانع القرار العراقي أمام حقيقة واحدة، وهي أن تتناسى النفط، وألا تعوّل عليه في مستقبل الاقتصاد العراقي، وأن تفعل القطاعات الأخرى الزراعية والصناعية والتجارية والمشاريع الاستثمارية، ولاسيما تنشيط ودعم الصناعة الوطنية، ودعم القطاع الزراعي، وتفعيل قانون التعرفة الكمركية، والسيطرة على المنافذ الحدودية ووارداتها المالية، وإبعاد سيطرة الأحزاب السياسية والمتنفذين من تلك المنافذ، وتفعيل قانون الضريبة بشكل سليم، مع توفير الخدمات الأساسية والرئيسة للمواطن العراقي.
ويرى البعض، بأن "رفع العقوبات عن إيران يساهم في تعزيز وتيرة التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين البلدين "العراق وإيران"، وزيادة التبادلات المصرفية، وتسديد قيمة الواردات، وسوف ينهي رفع العقوبات معوقات التجارة والاستثمار بين البلدين، خصوصاً المتعلقة بقطاع المصارف والطاقة"، إلا أن هذا التعزيز، ربما سيكون على حساب تعطيل الصناعة الوطنية، وتعطيل الاقتصاد الوطني، مما يسبب مشكلة حقيقية للاقتصاد الوطني العراقي. وعليه، كيف تستطيع حكومة بغداد وصانع القرار العراقي توظيف رفع العقوبات عن إيران لمصلحة الدولة العراقية واقتصادها الوطني؟.
اضف تعليق