الكتابة من أهم الاختراعات البشرية بل الاختراع الذي لولاه ما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من حضارة، وما كانت الكتب السماوية التي قامت عليها الأديان وانتشرت، وما كان التواصل بين الشعوب ومراكمة الانجازات. قطعت الكتابة مشوارا طويلا وتعددت أشكالها وأبجدياتها، بدءا من أول اختراع للكتابة 3600 قبل الميلاد وهي الكتابة المسمارية السومرية ثم الهيروغليفية التصويرية المصرية، وصولا لاختراع الآلة الكاتبة (Typewriter) عام 1714م على يد العالم البريطاني هنري ميل – Henry Mill، وأخيرا الكتابة الالكترونية اليوم حيث أصبحت كتابة بلا أوراق وبلا أقلام، فالكاتب يمكنه كتابة مقال أو كتابا ونشره دون أن تلمس يداه قلما أو ورقة.
لم تكن الكتابة في مراحلها الأولى مرتبطة بالقراءة كما لم تكن شأنا عاما. كانت في بداياتها حكرا على رجال الدين وشأنا مقدسا تُمارَس داخل المعابد وليس من اختصاص العوام، ثم أصبحت خاصة بالفلاسفة الذين يكتبون غالبا انطلاقا من عقلهم المجرد نظرا لعدم وجود كتابات سابقة يعتمدون عليها أو يستلهمون أفكارها، وبعض الفلاسفة كان يستقرئ الواقع – هناك فرق بين القراءة والاستقراء-، ولذا نلاحظ أن كل كتابات الفلاسفة الأوائل في كل الحضارات اليونانية والصينية والإسلامية لم تكن تُحيل لمراجع وأدبيات سابقة، وإن كان بعضهم يستقرأ الواقع، وفي مرحلة لاحقة ومع مراكمة المعرفة الإنسانية وتوثيقها من خلال المخطوطات والكتب والوثائق أصبحت نوعية الكتابة ترتبط بنوعية وكمية ما يقرأ الكاتب بالإضافة إلى قدرته الإبداعية المستمدة من استقرائه لما يدور في البيئة التي يعيش فيها.
مع تطور وتراكم المعرفة الإنسانية أصبحت الكتابة، باعتبارها عملا إبداعيا هادفا، عملية مركبة، تستمد قيمتها ويرتبط تأثيرها من خلال امتزاج الإبداع مع القراءة المُسبقة مع الاستقراء، وكلما كانت قراءة أو مطالعات الكاتب متنوعة ومختارة كلما كانت كتاباته متميزة وغنية في مبناها ومعناها. ومع انتشار التعليم وظهور الثورة التقنية وظهور الانترنيت والكتابة الالكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي كل ذلك جعل عملية الكتابة متاحة للجميع، كما سهلت وصولها لأعداد كبيرة من القراء، إلا أن ذلك كان على حساب نوعية الكتابة وجودتها. وإن حدث تراجع في الكتابة الورقية – كتب وصحف – وفي دور النشر التقليدية، ففي المقابل توجد ثورة أو طفرة في مجال الكتابات الالكترونية -من صحف الكترونية وكتب الكترونية ومواقع ومنتديات أصبح عددها بالملايين-.
كان المثقف أو العالم أو الكاتب في الأدب والسياسة والاقتصاد والاجتماع وفي مختلف العلوم والتخصصات يكد ويشقى حتى يحصل على المراجع والمعلومات الخاصة بمجال بحثه والتي كانت في الأعم ورقية فقط، حيث لم يكن آنذاك النشر الالكتروني ولا الانترنيت ولا الأقراص المدمجة، وكان مضطرا أن يبحث عن أدبيات موضوع بحثه في المكتبات أو عند مؤلفيها وفي كثير من الأوقات كان يضطر للسفر من بلد لآخر بحثا عن كتاب أو مخطوط أو لمقابلة ذوي الشأن بموضوع بحثه، وعليه كانت الكتابة فعلا إبداعيا. أما اليوم فأي إنسان يستطيع وهو في بيته أن يحصل على غالبية ما يريد من أدبيات تتعلق بموضوع بحثه.
لم تقتصر الصعوبة في الحصول على المراجع والأدبيات بل كانت تكمن في النشر أيضا، حيث لا قيمة لإبداع إن لم يصل للجمهور ويؤثر على حياة البشر. كان الكاتب مضطرا لأن يخط عمله بيديه ثم يطبعه إن كان يُحسن استعمال الآلة الكاتبة، أو يكلف أحدا ليطبعه على الآلة الكاتبة ثم يقوم بتصحيح النص المطبوع وإعادته للطباعة، وبعد كل ذلك تأتي عملية النشر حيث كانت الصحف والمجلات ودور النشر محدودة ولا تعتمد عملا للنشر إلا بعد مراجعة وتدقيق، وإن كان الكاتب معروفا فإن نشر عمله يحتاج لوقت لأنه مضطرا لأن يرسله بالبريد العادي –قبل ظهور الفاكس والانترنيت- وهو أمر يستغرق أسبوعا أو أكثر حتى تصل الرسالة لمقر الصحيفة أو دار النشر، وإن كانت الصحيفة أو المجلة في بلد غير بلد الكاتب فتحتاج إلى أيام حتى تنتشر وتوزع عربيا أو عالميا، وإن كان العمل كتابا فكان يحتاج لأشهر لطباعته ونشره.
لا شك أن لكل الاختراعات والاكتشافات العلمية أوجه أو استعمالات إيجابية وأخرى سلبية، من الديناميت إلى الاستنساخ، وهو الأمر الذي ينطبق على الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي. فهذه الأخيرة ساعدت على أن تصبح الكتابة والنشر والمعرفة الإنسانية بشكل عام أكثر يُسرا وأكثر انتشارا، إلا أنها في نفس الوقت ساعدت على انتشار الأفكار الهدامة والقيم المنحلة، كما ساعدت على تفشي ظاهرة سرقة إبداعات ونصوص المؤلفين، ومع أن هذه الظاهرة ليس جديدة بل صاحبت عملية التأليف والكتابة منذ بداياتها إلا أنها أصبحت مع الثورة التقنية أكثر استفحالا وسهولة.
كَثُر الحديث في الفترة الأخيرة عن موضوع السرقات الأدبية والعلمية وبتنا نسمع كثيرا مفردات التناص والتلاص، وإن كانت هذه المفردات أقرب إلى حقل الدراسات الأدبية إلا أن الأمر تجاوز النصوص الأدبية ليشمل كل فعل إبداعي في كل المجالات. وفي مجال الدراسات الأدبية وفي الأدب المقارن خصوصا يعود الفضل للأديب والمفكر الفلسطيني عز الدين المناصرة في نحت مصطلح (التلاص) عام 1989 للدلالة على السرقات الأدبية، وذلك في كتابه "علم التناص والتلاص نحو منهج عنكبوتي تفاعلي".
التلاص أو السرقات الأدبية تختلف عن التناص، الأول يعني سرقة جهود الآخرين، فكرة كانت أو نصا، بدون أي تغيير، وقد يصل الأمر لسرقة كتاب بكامله أو بحثا علميا أو مقالا أو اختراعا وبالتالي فهي تفتقر إلى الإبداع، أما التَّنَاصُّ Intertextuality فيعنى وجود تشابه أو توارد أفكار بين نص وآخر، وهو أمر وارد لأن الكاتب لا يبدأ من نقطة الصفر، وتشابه وتكرار الأفكار أمر وارد نظرا لانتشار المعرفة والفكر وعملية التثاقف بين المجتمعات وحتى داخل المجتمع الواحد، ووجود الحس الجمعي تجاه قضية أو موضوع ما. نعم قد تتشابه الأفكار وقد يستلهم كاتب من كاتب فكرة ما أو يكون الواقع مصدر استلهام مشترك لعديد من الكُتاب أو كما قال الأديب العربي الجاحظ: "المعاني مطروحة في الطريق"، ولكن الخطورة في أن يسرق شخص ما وخصوصا إن كان أكاديمي أو مثقف أو سياسي معروف كتابات الآخرين أو جزءا منها حرفيا وينسبها لنفسه دون الإشارة إلى الكاتب الأصلي.
أما الكتابة كعمل إبداعي فهي جهد شخصي يمتزج فيه، الإبداع العقلي بمعنى الإتيان بالجديد من فكر أو تصور أو خيال وتخيل أو إعادة كتابة أو تناول موضوع قديم بأسلوب جديد أو منهج جديد، مع الجهد الذهني والجسدي في القراءة والإطلاع على ما كتبه السابقون، مع التواضع العلمي والذي يعني أن الكاتب والمُبدع الحقيقي هو الذي يؤمن أن لا حدود للمعرفة وان الإنسان يعيش ويموت جاهلا، ويعترف بفضل الآخرين من الأحياء والأموات الذين استلهم أفكارهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما أن الكاتب والمثقف الحقيقي هو الذي يكتب لأنه يؤمن بأنه مكلف برسالة أخلاقية ووطنية عليه القيام بها دون انتظار أجر أو مقابل، كما أنه يعمل بصمت حيث لا يسعى للشهرة، وإن جاءت فلا تصيبه بالغرور.
احترم المثقفين والكُتَاب –مع الإشارة إلى أنه ليس كل من كَتَب يعتبر كاتبا- الذين يستلهمون أفكاري واسعد بذلك، ولكن لا احترم الذين يسرقون كتاباتي وخصوصا إن كانوا أكاديميين أو مسئولين سياسيين، وإن كان الانترنيت سهل عملية الكتابة والنشر فإنه في نفس الوقت جعل من السهل اكتشاف الكتابات المسروقة !.
اضف تعليق