هناك الآن محاولاتٌ جادّة لوقف الحروب والأزمات المشتعلة في المنطقة، والتي تشمل ساحاتها كلّاً من سوريا والعراق واليمن وليبيا، وهي البلدان التي امتزجت فيها صراعاتٌ محلية وتدخّلٌ عسكري إقليمي ودولي سافر، مع مواجهاتٍ عسكرية مفتوحة ضدّ الإرهاب الذي يقوده الآن تنظيم "داعش" وإفرازات "القاعدة".
ولعّل هذا المزيج المركّب، من عناصر الصراعات المحلية والإقليمية والدولية المجتمعة في هذه الأزمات، ما يجعل من الصعب التوصّل لحلول وتسويات نهائية لها، لكن مخاطر استمرار وتصعيد هذه الأزمات أصبح هو الدافع الآن للبحث عن اتفاقياتٍ مؤقتّة تنهي الحروب، لا جذور الصراعات.
فهناك ارتفاعٌ دولي مشترَك لمنسوب المخاوف من تفاعلاتٍ ممّا يحدث تحديداً على الأرض السورية، إن كان لجهة زيادة دور الجماعات الدينية المتطرّفة، والمحسوبة اسمياً على "جماعات داعش والقاعدة"، أو أيضاً لمحاذير امتداد الصراعات المسلّحة إلى مواجهات إقليمية ودولية، كما هي الأزمة الآن بين روسيا وتركيا، العضو في حلف "الناتو".
إنّ سوريا هي قضيةٌ حاضرة الآن في كلّ الأزمات الدولية، وسيكون مصير الحرب المشتعلة فيها، أو التسوية المنشودة لها، هو الذي سيحدّد مصير الأزمات الأخرى. كذلك، فإنّ استمرار الحرب يعني استمرار التأزّم الغربي مع موسكو وطهران، ويعني مخاطر حربٍ إقليمية تشترك فيها إسرائيل، إضافةً إلى التورّط التركي الكبير الحاصل في الأزمة السورية ممّا قد يؤدّي إلى تورّط "الناتو" عسكرياً، وهو أمرٌ لا ترغب به الآن الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون.
أيضاً، فإنّ مخاوف إدارة أوباما من زيادة نفوذ جماعات التطرّف المسلّحة في سوريا ومخاطر انتشارها إلى أميركا ودول الغرب، لا يمكن إزالتها من دون تسوية سياسية للحرب الدائرة في سوريا وعلى سوريا. فكلّما زاد التصعيد العسكري كلّما زاد نفوذ هذه الجماعات وتأثيراتها على مستقبل الأحداث في عموم المنطقة. ولا خيار الآن أمام إدارة أوباما إلّا البحث عن تسويةٍ سياسية ودعم الجهود الدولية الجارية الآن لتسهيل هذه التسوية لدى الأطراف السورية المعنيّة بالأزمة، إذ ليست واشنطن بوارد التدخّل العسكري المباشر، ولا هي تثق بمصير السلاح الذي يمكن أن تقدّمه لبعض قوى المعارضة السورية.
مراهناتٌ دولية وإقليمية كثيرة على الحرب في سوريا وصلت حتّى الآن إلى طريقٍ مسدود، كما هو أيضاً الخيار بالحلّ العسكري عند كلّ طرف. وستكون العقبة الكبرى أمام أي صيغة تسوية سياسية جادّة للأزمة السورية هي في جماعات التطرّف المسلّحة على المستوى الداخلي، وإسرائيل ومن لديها من عملاء أو حلفاء على المستويين الإقليمي والدولي. فلا مصلحة لهذين الطرفين في إنهاء الصراع الدموي في سوريا، أو في التفاهمات الدولية، وما قد تفرزه هذه التفاهمات من نتائج سلبية على كلٍّ منهما.
ما يحصل في سوريا هو أشبه بتقاطع طرق لمشاريع عديدة في المنطقة، بحيث نرى تكاملاً بين بعضها وتناقضاً بين بعضها الآخر، لكن في المحصّلة هي "مشاريع" لها خصوصياتها الإقليمية أو الدولية، ولا أجد أنّ أياًّ منها يراهن على تصعيد نيران الحرب في سوريا باستثناء "المشروع الإسرائيلي"، الذي وجد مصلحةً كبيرة في تداعيات الأزمة السورية وانعكاساتها التقسيمية العربية، على مستوى الحكومات والشعوب. فإسرائيل لا يوافقها توصّل واشنطن وأوروبا، من جهة، وموسكو وطهران من جهةٍ أخرى، إلى اتفاقٍ كاملٍ بشأن الأوضاع في سوريا لأنّ ذلك يوقف النزيف الدموي في الجسم السوري، والعربي عموماً، ولأنّه يعني أيضاً تفاهماتٍ أميركية/غربية مع روسيا وإيران تتجاوز المسألة السورية، ممّا قد يدفع أيضاً بإعادة فتح الملف الفلسطيني ومسؤولية إسرائيل تجاهه.
إنّ المراهنات الإسرائيلية في الأزمة السورية هي على مزيدٍ من التفاعلات السلبية أمنياً وسياسياً وعدم التوصّل إلى أيِّ حلٍّ في القريب العاجل. فمن مصلحة إسرائيل بقاء هذا الكابوس الجاثم فوق المشرق العربي والمهدّد لوحدة الأوطان والشعوب. كذلك، تراهن حكومة نتنياهو على صراعاتٍ عربية-إيرانية لتكون مدخلاً لصراعاتٍ عُنفية مذهبية محلّية في المنطقة لتغيير خرائطها ولإقامة دويلاتٍ طائفية وإثنية، ولتعزيز حاجة أميركا والغرب لإسرائيل بحكم ما سينتج عن الحروب الإقليمية، "الدينية" و"الإثنية"، من تفاعلات لأمدٍ طويل تثبّت مقولة: إسرائيل "دولة يهودية"!.
لقد تحدّث الرئيس أوباما، في سنة حكمه الأولى في "البيت الأبيض" بالعام 2009، عن الحاجة لوقف السياسة الانفرادية الأميركية وللتخلّي عن أسلوب الحروب الاستباقية، وهما الأمران اللذان سارت عليهما إدارة جورج بوش الابن وأوصلا الولايات المتحدة والعالم إلى أزماتٍ سياسية وعسكرية واقتصادية كبيرة. والبديل عن هذه السياسة هو الإقرار الأميركي بعصر التعدّدية القطبية، وبالسعي لتفاهمات مع القوى الكبرى الأخرى في العالم من أجل صياغة تسويات لما هو قائمٌ من أزماتٍ دولية تهدّد، في حال عدم تدارك تداعياتها، مصير العالم كلّه.
ولم تجد إدارة أوباما أيَّ مصلحةٍ في تصعيد التوتّر مع إيران أو في تبنّي مقولة الحكومة الإسرائيلية منذ العام 2009 بشأن استخدام الضربات العسكرية على مواقع إيرانية لتصنيع الطاقة النووية، بل نظرت إدارة أوباما إلى هذا العمل العسكري الذي كان مطلوباً إسرائيلياً كخطرٍ أكبر على أميركا ومصالحها من أيّة حربٍ أخرى خاضتها في المنطقة.
لذلك حصلت التفاهمات الأميركية/الروسية على كيفيّة التعامل مع الملف النووي الإيراني، وجرى التوصّل لاتفاقٍ دولي مع طهران بشأن ملفّها النووي، دون أن يعني ذلك حدوث "يالطا" جديدة الآن، أو تفاهماتٍ على توزيع الحصص الجغرافية في العالم، كما حصل بين موسكو وواشنطن عقب الحرب العالمية الثانية. فالتفاهمات هي الآن على مبدأ تحقيق تسويات سياسية، وعلى منع استمرار الانحدار السلبي للأزمات المشتعلة في "الشرق الأوسط"، وعلى توفير أوسع جبهة دولية ممكنة لمواجهة خطر التطرّف والإرهاب المهدّد حالياً للجميع.
فخيار التسويات السياسية، وليس المزيد من التصعيد العسكري، هو المرغوب حالياً من قبل الأقطاب الدوليين، حتّى لو كانت هناك عقبات أو "معارضات" لهذه التسويات على مستوياتٍ محلية وإقليمية. لكن هذه التسويات الدولية الممكنة لأزماتٍ في المنطقة ومحيطها هي مراهناتٌ عربية جديدة على "الخارج" لحلّ أزماتٍ مشكلتها الأساس هي ضعف "الداخل" وتشرذمه. فأيُّ حلٍّ يرجوه العرب لصالحهم إذا سارت التفاهمات الدولية والإقليمية تبعاً لمصالح هذه الأطراف، الإقليمية والدولية، غير العربية؟! فكلّ طرفٍ معنيٌّ بصراعات المنطقة سيحاول تحسين وضعه التفاوضي على "الأرض" قبل وضع الصيغ النهائية للتسويات، بينما العرب منقسمون ومتصارعون!. إذ مهما حدث من تطوّراتٍ إيجابية محتملة على صعيد التفاهمات الدولية والإقليمية، فإنّ السؤال يبقى: كيف سيكون هناك مستقبلٌ أفضل للشعوب والأوطان العربية إذا كان العرب مستهلَكين بأمورٍ تُفرّق ولا تجمع!؟.
وستبقى الأوطان العربية مهدّدةً بمزيدٍ من الصراعات والتشرذم، ليس حصيلة التدخّل الأجنبي والدور الإسرائيلي فقط، بل أصلاً بسبب البناء الهش لمعظم دول هذه الأوطان، ولما فيها من تخلّف فكري في مسائل فهم الدين ومسألة الهويّات المتعدّدة للإنسان العربي.
المنطقة العربية لم تستفد بعد من دروس مخاطر فصل حرّية المواطن عن حرّية الوطن، ومن انعدام الممارسة الصحيحة لمفهوم المواطنة. ولم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي ما زال تجاهلها قائماً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ طائفية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولهدم الكيانات والمجتمعات العربية.
اضف تعليق