المجازفة من حيث هي مرادف "المخاطرة" او "ركوب الخطر" او "التهلكة"، هي شيء يشعر به أولئك الذين يعيشون في المجتمعات الرأسمالية الليبرالية المعاصرة في كثير من أوجه حياتهم اليومية. وقد ارتبطت ارتباطا وثيقا بالبحث عن الأمان، وتوفير الرفاهية، والثقة بالخبراء والمؤسسات، وتحاشي الضرر او تقليله. وما صار يميز المجازفة او المغامرة هو محاولة حسابها والتحكم بها، بالنسبة الى المجتمعات وفي الحياة الفردية أيضا. وهذا يعني ان المجازفة تتميز عن مجرد الاخطار، كالمجاعات او الطواعين او الكوارث الطبيعية، التي يمكن القبول بها كقضايا من القدر، او فعل من أفعال الله.
يكمن أحد المصادر الممكنة لمصطلح "المجازفة" في الكلمة الإيطالية "risko" بمعنى الصخرة المنحدرة او النتوء الجبلي. ولعل البحارة كانوا اول من استخدم المصطلح، وهي بالتأكيد ترتبط بتاريخ التامين على السفن. ولمصطلح "المجازفة" معنى واسع في التجارة بوصفها خطورة فقدان سفينة، او سلعة، او ملك، ويرتبط تاريخها ارتباطا وثيقا بمحاولة حساب مثل هذه المجازفات لكي يوقع المؤمّنون سندا عليها عند العودة مقابل قسط التامين المدفوع سلفا.
ويقتضي التصرف الحصيف من المرء ان يحاول حساب كل شيء والتامين ضد المجازفة. ومنذ القرن السابع عشر في اوربا، نجد امثلة على أناس يتصورون أنفسهم وكأنهم يخوضون في مجازفة. ومنذ القرن الثامن عشر، رأى الاقتصاديون ان الفائدة تكمن في الأقل في العودة جزئيا الى مخاطرة المقاولين. وعند جون ستيوارت مل فان "الاختلاف بين المصلحة والفائدة الاجمالية يعوض مجهودات المتعهد ومجازفاته".
يبدو اليوم، ان المجازفة قد تضاعفت. فنحن نواجه المجازفات والمخاطر في محلات عملنا، وبيوتنا، واسفارنا، واستثماراتنا، وعلاقاتنا، وكمواطنين في بعض الدول: الطعام، طراز الحياة، الصحة الجسدية والعقلية، مستوى المعيشة، الحمل، استخدام العقاقير، التدخين، الكحول، المالية الشخصية، الاستراتيجيات المؤسساتية، الامن القومي والقضاء، هذه كلها هي مجرد امثلة على العوالم التي نكتشف فيها اننا نتعرض لمجازفة ومخاطرة ونعمل على تقليل تلك المجازفة.
يرتبط جزء من وعي المجازفة بالقضاء. والحقيقة ان بعض اقسام الصناعات الكيميائية والنووية أصبحت غير قابلة للتامين لصعوبة حساب تكاليف أسوأ الحوادث المتخيلة لدى الجماعات والبيئات التي تتعامل بها. وتشكل حملات الصحة العامة المتعددة او حملات "تحسين الصحة" الموجودة في وسائل الاعلام جزءا اخر من هذا الوعي. وتزيد الحملات السياسية التي غالبا ما تدور حول موضوعة "القانون والنظام" في إدراك مخاطر الجريمة، ولاسيما بين بعض قطاعات السكان، مثل كبار السن. ويزيد الرواج العام والترويج الإعلامي للمعرفة العلمية وعلاقتها بالحركات البيئية من حساسيتنا بالمخاطر المستترة والظاهرة التي تثيرها الصناعة والتطور الاقتصادي.
هكذا يرتبط وعينا بالمجازفة بالنقاش العام والإعلامي، وبالشهرة التي تحظى بها بعض الاحداث مثل 11 أيلول، وبجميع أنواع خبراء المخاطر في الاستشارة والعلاج، والعناية الصحية، والخدمات المالية، وفي صياغة معايير ممارسات التامين لدى قطاعات واسعة من السكان. ويرى بعضهم ان هذا التكاثر في المخاطر قد افضى بنا الى نوع جديد موسع من نزعة التدبر والحصافة.
وبينما نجرب المجازفة كجزء من حياتنا اليومية، فانها شيء يمكن ان يعرف ويحسب من لدن أنواع كثيرة من الخبراء، وهو يتكامل مع ممارسات اجتماعية وسياسية بعينها. يمكن ان تتعلق المجازفة باحتمال حصول احداث ضارة (حوادث العمل على سبيل المثال) ويمكن ان تتصف ببعض الأزمنة والأماكن، مثلا (متى وأين يرجح وقوع الجريمة). وفوق كل شيء، غدت طريقة كلية الحضور لتقسيم السكان بحيث يمكن منع الضرر او تقليصه او تقليله. ويعتبر الان ان بعض الافراد، والعائلات، والجماعات والسكان يتعرضون لمجازفة أكبر بأشياء مثل البطالة الدائمة، او سوء معاملة الأطفال، او سرطان الثدي، او أوضاع جنينية شاذة. وهكذا فان انتاج المجازفة ككيان قابل للحساب بمختلف الطرق هو مكون أساسي في الإدارة، والطب الحيوي، وأنظمة الرفاهية الاجتماعية، وكذلك في التامين والاستثمارات.
ويتميز تكاثر تصوراتنا عن المجازفة بأشكال مختلفة من حساب المخاطر والمجازفات مثل التقدير الكمي للمجازفة وتحليل جدوى المجازفة، ولمحة عن مجازفة بعض السكان الذين يحتمل ان يرتكبوا جريمة. ويكمن في قلب علاقاتنا بالمجازفة سؤال الثقة بالخبراء، والسياسيين، ومؤسسات مجتمعاتنا المعاصرة.
أصبح تكاثر المجازفة موضوعا للنقاش النظري والأكاديمي. لقد كتب علماء اجتماع مثل اولريك بك ان المجتمع المعاصر هو مجتمع مجازفة. وتفحص انثروبولوجيون من طراز ماري دوغلاس الفهم الثقافي للمجازفة في مجتمعات مختلفة والفجوات بين ادراكها وحسابها. وهنا تربط المجازفة بالعمليات الثقافية في اللوم والافساد. وتناقش الفلاسفة الاخلاقيون عن دور الخبراء ومسؤوليتهم في حساب المجازفة، ومشروعية مثل هذه الإجراءات والالتزامات نحو الأجيال المقبلة، والعدالة في توزيعها في الزمان والمكان.
ينبغي ان نلاحظ ان فكرة المجازفة أصبحت أداة تحليلية قوية وكذلك تجربة شائعة في العيش في المجتمعات المعاصرة. اذ يمكن وصف مجتمعاتنا بانها طورت اليات معقدة للإبحار في المجازفة والتحكم بها. ويمكن فهم دولة الرفاهية بانها طريقة للخوض في بعض مجازفات العيش في مجتمعات كهذه. وفي الوقت الحاضر تم في الأقل، إضفاء الطابع الفردي على المجازفة من خلال مقاييس التامين الخاصة والتركيز على نوع اخر من المجازفة، الا وهو الضربة الإرهابية. ويمكن اعتبار "قسم الامن القومي " الجديد في الولايات المتحدة والحرب على الإرهاب، ومذهب الضربة الوقائية جميعا استجابة لإدراك مخاطر الامن البارزة. وسواء اكنا نتحدث عن الرفاهية الاجتماعية او الدفاع القومي، فان إدراك المجازفة وحسابها والتحكم بها هي أمور جوهرية للطرق التي نبحث بها عن تحقيق هدف نيل الأمان في مجتمعاتنا.
اضف تعليق