الكتابة بدم هي ترجمة العلاقة الصميمية بين مايكتب ويعاش وفق نيتشه، فالتجربة الحياتية المعاشة بدقة هي الممول للكتابة القابلة، ثم التجربة المعاشة هي التي تمول الفهم مثلما تمول الكتابة. يقول نيتشه "ما لم يكن للمرء من معرفة به من تجربة معاشة لايمكن له أن يسمعه" لكن استحالة الفهم قد تكون عائقا في القراءة والفهم لما في الكتابة اذا كانت كتابة بدم، لأنها تكون متدفقة متحركة متنقلة تعكس تجربة ديناميكية في الحياة المعاشة في تدفقها لاتدع ان يكون هناك لبثا في فهمها، لان الافكار تتحرك فيها، تتنقل من حيز الى اخر.
هنا لابد للمتلقي ان يكون ماهرا في التقاط الافكار، لكن هناك مجالا أرحب في ان يقوم هو بإنشاء افكاره بتكوين تصوراته في جدل النص الذي يمارسه المتلقي، هنا تكمن قيمة الكتابة بدم المعبرة عن التجربة المعاشة وهي تجربة نيتشه في كتابته نصه "هكذا تكلم زرادشت" فاعرب له صديقه فون شايتن عن تذمره من انه لم يفهم كلمة واحدة من زرادشت، ويصف نيتشه تذمر صديقه بانه تذمر صادق، فهو يعيش تجربة حية في قراءة زرادشت.
يقول نيتشه انه لا يريد من متلقيه ان يفهمه بل ان يعيش قارئه ست جمل من زرادشت، بمعنى ان يكون قد فهمها، لان الفهم يسكن في التجربة المعاشة المتفاعلة مع النص حينها يكون فهم متدفق متحرك ثم منتج.
الفهم المنتج
لا ينطبق بالضرورة الفهم المنتج مع ارادة نيتشه في النص الذي يكتبه بدم، لكن نيتشه لايريد من قارئه ان يكون نسخة منه، والا فانه فهم يظل غير منتج هو يقول "كل من يقول انه فهم شيئا من كتاباتي فقد فهم مني ما فهم طبقا لصورته الخاصة وفي اغلب الاحيان شيئا مناقضا لي تماما" فالكتابة بدم بالنسبة لنيتشه مثلما يقول مترجمه علي مصباح "عامل فصل لا وصل بين الكاتب والقاريء".
ان نيتشه يشدد على العزل بين النص ومتلقيه وهو ما يفسح للمتلقي – القاريء ان يصنع، ان ينتج افكاره الخاصة ويتخلص من استحواذ النص، ان التجربة الحية في معاملة النص والعيش في تجربة قراءة خاصة تحرر القاريء من اسار النص وتصنع له عالم فصل خاص يصدر عن فكرة النص، لكنه يمول لصالح فكرته من ذلك النص، وهي قبل ذلك تشكل بداية الفصل بين المؤلف والنص في عدم انطباق الفهم مع ما اراد المؤلف او غايته، والتحرر من ضرورة هذا الانطباق في القراءة التقليدية والمتوارثة من عصر الاغريق.
النص في الكتابة بدم يتحول الى ميدان اخر غير ميدان المؤلف الخاص به، لان المؤلف الكاتب رهين تجربة معاشية خاصة به في الكتابة، والقاريء يعيش تجربته الخاصة به في قراءة النص، مما يؤدي الى ضرورة عدم انطباق الفهم مع ما أراد الكاتب– المؤلف، هنا يتم الفهم والتأويل والتوظيف بمعزل عن ارادة المؤلف وغايته، من هنا ينتج ثراء الافكار.
ان ثراء الافكار ينتج امكانه، حين يكون كل منا مفكر بعقله منتج لأفكاره الخاصة ومستقل بإرادته، هكذا يريد نيتشه من قارئه بمعنى ان يكون وحيدا في خوض افكاره وذلك ما كان يعلمه زرادشت في خطبه الحماسية في الجمهور، وذلك ما يهدف اليه نيتشه في الكتابة بدم. وهنا يقول زرادشت بعد ان يلقي حكمته على تلاميذه "وحيدا أمضي الان يا تلامذتي وأنتم ايضا ستمضون الان وحيدين هكذا اردت لكم" وبغير هذه الطريقة في قراءة النص فان القاريء يكون خاملا ويمقته نيتشه، هكذا يقول انه يمقت قارئا يقرأ نصوصه بهذه الطريقة المستجيبة للنص.
لكن ماذا يكون موقف نيتشه لو استجاب القاريء لمقولته وهو يؤمن بنصه في الطلاق بين المؤلف والقاريء او عدم الانطباق بين النص والقاريء؟ ترى هل يمقته لانه لم يخرج عن ارادة نيتشه وغايته؟، يترك نيتشه ذلك القول فهو استثناء لم يشر اليه لانه على طريقة زرادشت يلقي حكمته ويمضي ويدع الامر برمته الى القاريء المتلقي لنص حكمته.
عقل يتشكل من جديد
العقل الذي يخلق فهمه وادراكه مستقلا عن النص عن كل ارادة للمؤلف وغايته لابد ان يكون شجاعا، ان نيتشه يرى ان العقل في تحولاته يكون مستمرا بعد ان يكون متنقلا، انه كان في ما مضى أي العقل كان إلها ثم صار انسانا لكنه اخيرا صار رعاعا، هذه مراحل انتقالات العقل وتحولاته السلبية التي يحددها نيتشه في تاريخ البشر العقلي والثقافي، لذلك يجد نيتشه ان العقل لابد له ان يكون في تحول مستمر حتى يعود من جديد إلها ينظر من الاعالي كما يفعل زرادشت في توصيف نفسه حينها يتخلص العقل من نتنه الذي يكون في رعاعه، انها دورة العقل ودورة المعرفة التي يصنعها من جديد القاريء غير الخامل، القاريء الذي ينفصل عن النص عن المؤلف في انتاج افكاره، ومن ثم هنا عقل اخر يتشكل من جديد وفيه تتشكل تحولات في الحياة لان الحياة اذا لم تشهد تحولات فأنها ستكون عبئا ثقيلا، ان نيتشه وعلى لسان زرادشت ينسب الى الاخرين الذين يريد ان يقنعهم بحكمته "تقولون لي ان الحياة عبء ثقيلا "لانكم في تفسير زرادشت يتلبسكم الاستسلام".
حتى لايتعلم الاستسلام فان الدعة والراحة والبقاء على ذات الافكار وعدم الخروج عن نطاق عقل مستهلك فانها مواصفات تقود الى مثل هذا الاستسلام ومن اجل ان يتخلص نيتشه من الاستسلام فانه يستحضر الشجاعة للعقل واثبات ذاتها "الشجاعة" لذلك يعبر عن حاجته الى عفاريت حتى يتكيف على مقاومة الدعة والراحة والبقاء على ذات الافكار لكن شجاعة العقل وتجليات رغبتها في العفاريت تمتزج بإرادة شجاعة في الرغبة نحو التحول وعدم البقاء على صيغة العقل السائد.
عقل أكثر تحولا
اذا كان العقل الحداثوي قد استقر على مباديء التنوير الاولى في مركزيته ومعاييره التي نسجتها في بعض فصولها حوله حماسة التحولات التي شهدها القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، فان نيتشه اراد ان ينفض يده عن هذا العقل وعدم التوقف على مرحلته من اجل عقل اكثر تحولا نحو افاق المستقبل وافاق الوجود غير المتوقفة في تجلياتها وغير المتوقعة في تحولاتها، ولذلك يعد نيتشه مؤسس او مشرع مابعد الحداثة. فان العقل واستنتاجا عنه لايتوقف على معايير الحداثة التي جعلته اخيرا رهينا بمركزية الذات الاوربية، لكن نيتشه يضمن ايمانه بالعقل من اجل الحياة في كل فلسفته فهو ليس فيلسوف نظري منعزل عن الحياة بل يريد من تجديد العقل بذاته تجديد الحياة بذاتها حين تكون الحياة متجددة مع كل نص غير مستنسخ، مع كل كتابة بدم تحمل دفق الحياة مثلما الدم يحمل دفق الحياة، هنا دفق الحياة يتعبأ في رمزية الكتابة بدم.
في هذه اللحظة يبتهج نيتشه بمعنى الحياة المتجدد وبواسطته يتخلص من عبء الثقل في الحياة لان هناك قيما جديدة تتأسس، لان هناك معرفة غير تقليدية، غير معهودة قديما، لان هناك مؤلف او نص غير مستنسخ يؤلف ويكتب من جديد.
بعد ان ينهي نيتشه نصه في "القراءة والكتابة بدم" في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" وبعد ان يدعو في خاتمة نصه الى قتل روح الثقل في الحياة، صار يتحدث عن انتهاء مرحلة تعلم المشي وصار يدع نفسه يتمشى ثم تتطور لديه كينونة الحياة الى تعلمه الطيران فيصير خفيفا من اعباء ثقل الحياة الرهينة في ثقلها بثقل الافكار التقليدية – القديمة وهي تمنع حركته او تحركه، لكن الان يقول على لسان زرادشت "منذئذ لم اعد انتظر ان ادفع كي اتحرك من موقعي" نحو مزيد من تحولات العقل الرهينة بالكتابة بدم...الرهينة "الكتابة" بتجربة حية معاشة...
اضف تعليق