الغضب قوَّة مزدوجة الحدَّين، قد تكون بوَّابة فضيلة إذا انطلقت من ضوء العقل والشَّرع، وقد تتحوَّل إلى مهلكة إذا اشتعلت بنار الشَّهوة والكبر. وبين هذين الحدّين يقف الإنسان أمام امتحانٍ يوميّ، يختبر فيه قدرته على التَّوازن، وحفظ كرامته، وصيانة قلبه من السقوط في الفوضى. وما دام الغضب يطفئ نور البصيرة...
لم يكن الغضب يومًا مجرَّد حالة عابرة من الانفعال؛ فهو إحدى الظَّواهر المعقَّدة التي تتقاطع عندها اللغة مع النَّفس، والجسد مع الرُّوح، والعقل مع الهوى. إنَّه طاقة كامنة، قد تصعد بصاحبها إلى ذرى الشَّجاعة إذا وجدت سبيلها في موضعها الشَّرعي، وقد تسقطه في مهاوي النَّدم إذا تجاوزت حدود العقل. ومن يتأمَّل في النُّصوص الشَّريفة يدرك أنَّ الغضب بابٌ شديد الخطورة، بدايته نارٌ في القلب وآخره جرحٌ في الرُّوح، وأنَّ أي انحراف في هذه القوَّة قد يحوّل الإنسان من كائنٍ عاقلٍ متزن إلى شخصٍ تتقاذفه العواصف.
المحور الأوَّل: تعريف الغضب وأنواعه.
1. تعريف الغضب لغة واصطلاحًا:
الغضب لغةً: "رَجُلٌ غَضُوبٌ غُضُبٌ غُضُبَّةٌ: شَديدُ الغَضَب. وغَضِبْتُ له: إذا كانَ حَيًّا، وغَضِبْتُ به: إذا كانَ مَيِّتاً.
والغَضُوبُ: الحَيَّةُ الخَبِيثةُ. والنَّاقَةُ العَبُوس.
والغَضْبُ: بَخْصَةٌ في الجَفْن الأعلى خِلْقَةً.
والغَضْبَةُ: الصَّخرةُ الصُّلبة المُرَكَّبَةُ في الجَبَل المُخالِفَةُ له.
والغَضْبُ: الشَّدِيدُ الحُمْرَةِ، أحْمَرُ غَضْبٌ.
والغُضَابُ: داءٌ مِثْلُ الجُدَرِيِّ بعَيْنِه. وهو مَغْضُوبُ الجِلْدِ. وغَضِبَ جِلْدُه وغُضِبَ. وبَدَنٌ مَغْضُوبٌ: مُتَقَرِّحٌ. وأصْبَحَ جِلْدُه غَضْبَةً واحدةً.
والغَضْبَةُ: جِلْدُ الحُوتِ. وجِلْدَةُ الرَّأْسِ. وجِلْدَةُ ما بين قَرْنَيِ الثَّور.
والغَضْبُ: الغَليظُ الصُّلْبُ من الثِّيران..." (1).
أمَّا اصطلاحًا: "الغَضَبُ: تَغَيُّرٌ يحصُلُ عِندَ غَلَيانِ دَمِ القَلبِ؛ ليحصُلَ عنه التَّشَفِّي للصَّدرِ" (2).
وبتعريف أوسع: "کیفیَّة نفسانیَّة موجبة لحرکة الرُّوح من الدَّاخل إلی الخارج للغلبة، ومبدؤه شهوة الانتقام، وهو من جانب الإفراط، وإذا اشتد یوجب حرکة عنیفة، يمتلئ لأجلها الدماغ والأعصاب من الدُّخان المظلم، فيستر نور العقل ویضعف فعله، ولذا لا یؤثر فی صاحبه الوعظ والنصیحة؛ بل تزیده الموعظة غلظة وشدَّة. قال بعض علماء الأخلاق: (الغضب شعلة نار اقتبست من نار اللَّه الموقدة، إلَّا أنَّها لا تطلع إلَّا علی الأفئدة، وإنَّها لمستكنة فی طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، وتستخرجها حمیَّة الدِّین من قلوب المؤمنین، أو حمیَّة الجاهلیَّة والكبر الدَّفین من قلوب الجبَّارین، التي لها عرق إلی الشَّیطان اللعین، حیث قال: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(3)"(4).
إنَّ الجمع بين التَّعريفينِ يقدِّم صورة متكاملة عن ماهية الغضب من زاويتينِ مختلفتينِ: زاوية اللفظ والمعنى الأصلي في اللغة، وزاوية التَّحليل النَّفسي الأخلاقي الذي يشرحه العلماء.
فعلى المستوى اللغوي يتَّضح أنَّ كلمة الغضب تحمل في جذورها دلالات متنوّعة، بعضها يشير إلى الشدَّة والصَّلابة والقسوة، وبعضها الآخر يشير إلى الاحمرار والالتهاب والانتفاخ، وأخرى إلى الحركة والانفعال كما يُرى في تعابير مثل الرَّجل الغضوب، أو الجلد المغضوب، أو الحيَّة الخبيثة التي تُسمّى (غَضوب). وهذا التَّنوع في الجذر اللغوي يكشف أنَّ العرب نظرت إلى الغضب باعتباره حالة تتجمع فيها القوَّة، والاندفاع، والاضطراب، والحرارة.
أمَّا الاصطلاح، فيذهب مباشرة إلى جوهر الظَّاهرة النَّفسيَّة، فيقدِّم تعريفًا أكثر تركيزًا وعمقًا، فيصف الغضب بأنَّه غليان الدَّم في القلب ورغبة في دفع الأذى أو التَّشفي أو الغلبة. وهذا التَّعريف يتوسع في فهمه علماء الأخلاق ليجعلوه كيفيَّة نفسانيَّة تتصاعد من الدَّاخل إلى الخارج، منبعها شهوة الانتقام، وإذا تجاوزت حدَّ الاعتدال تحجب نور العقل، وتُفقد الإنسان قدرته على الموازنة والتَّفكير.
ومن خلال الرَّبط بين المعاني اللغويَّة والمعاني الاصطلاحيَّة نستنتج ما يلي:
أوَّلًا: إنَّ الغضب هو طاقة نفسيَّة-جسديَّة تترافق مع تغيُّرات في الجسد (كالاحمرار والاضطراب والشدَّة) كما في معاني اللغة، ومع تغيُّرات في النَّفس (كغليان القلب والرَّغبة العنيفة في الانتقام) كما في الاصطلاح.
ثانيًا: طبيعة الغضب قد تكون قوَّة إيجابيَّة إذا وُظِّفت في موضعها الشَّرعي والأخلاقي، كالدِّفاع عن الحقِّ أو مواجهة الظُّلم، كما تُشير إليه عبارة "تحييها حميَّة الدِّين في قلوب المؤمنين". وقد تكون قوَّة مدمِّرة إذا جاءت من الكبر والعصبيَّة الجاهليَّة.
ثالثًا: هناك علاقة بين الغضب والعقل؛ فحين يشتد الغضب "يمتلئ الدَّماغ والأعصاب من الدُّخان المظلم" على حدِّ تعبير العلماء، فيُغلق منافذ الفهم ويُضعف القدرة على السَّماع والنَّصيحة. وهذا يفسِّر سبب تغيُّر الإنسان في لحظة الغضب وانقلاب سلوكه عن طبعه المعتاد.
رابعًا: الغضب في جوهره نار كامنة في النَّفس، قد يُشعلها الإيمان والغيرة على الحقِّ، وقد يُوقدها الشَّيطان والكبر، وأنَّ الفارق بينهما هو النيَّة والميزان الشَّرعي والخلقي الذي يضبط هذه الطَّاقة.
وبذلك يظهر أنَّ التَّعريف اللغوي رسم ملامح الصورة الخارجيَّة، فيما كشف التَّعريف الاصطلاحي عن أعماقها الداخليَّة، ومن مجموعهما نفهم الغضب كظاهرة كاملة: جسدًا، ونفسًا، وأثرًا، وخطرًا، ومسارًا يمكن تهذيبه إذا وُضع في إطار الحكمة.
2. أنواع الغضب.
يتفاوت النَّاس في قوَّة الغضب بين إفراطٍ وتفريطٍ واعتدال. فالإفراط هو أن تستولي هذه الصفة على الإنسان استيلاءً يخرجه عن طاعة العقل والشَّرع، فيفقد معها صفاء الفكر ونور البصيرة. أمَّا التَّفريط فهو أن تضعف فيه هذه القوَّة أو تنعدم، فلا يغضب لما ينبغي أن يُغضَب له شرعًا وعقلًا، فيستقبل الظُّلم أو الخطأ بلا حميَّة ولا دفاع. وأمَّا الاعتدال فهو أن يتحرَّك غضبه في موضعه الصَّحيح، وفي الحدود التي يقرُّها العقل وتُجيزها الشَّريعة.
وقد أثنى الله (تعالى) على خيار الصحابة بما امتازوا به من الحميَّة والقوَّة في مواضعها، فقال (سبحانه): (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (5)، كما خاطب نبيَّه الكريم (صلَّى الله عليه وآله): بقوله: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(6). وهذه الحِدّة والغلظة إنَّما تنشأ من قوَّة الغضب حين تكون موجَّهة في الاتِّجاه الصَّحيح. لذلك كان فقدان هذه القوَّة تمامًا أو ضعفها الشَّديد أمرًا مذمومًا.
المحور الثَّاني: من آثار الغضب المذموم.
الغضب من أعظم المهلكات التي تُطفئ نور العقل وتدفع الإنسان إلى مهاوي الخطر، حتَّى قيل: إنَّه بابٌ قد يفضي إلى شقاءٍ لا ينتهي، لما يجرُّه من جرائم القتل والاعتداء وقطع الأواصر وتمزيق القلوب قبل الأجساد. وقد عبَّر بعض الحكماء عن شدَّة خطره بتشبيه بليغ حين قال: "السَّفینة التی وقعت فی اللجج الغامرة، واضطربت بالرِّیاح العاصفة وغشیتها الأمواج الهائلة أرجی إلی الخلاص من الغضبان الملتهب" (7). فالغضب إذا استعر في النَّفس، جرَّ وراءه آثارًا كثيرة، تمتدُّ من تشويش الفكر واضطراب الحكم، إلى اندفاع الإنسان نحو ما يندم عليه ما دام حيًّا؛ بل وربما حمله على ما يهدم دنياه وآخرته معًا.
لقد رأى الأئمة الطَّاهرون (عليهم السلام) والحكماء أنَّ بوَّابة الغضب الأولى هي فقدان السَّيطرة على النَّفس، فإذا انفتحَت هذه البوَّابة تسلَّلت منها كلُّ رزيَّة، من حقدٍ وبغضاء، واعتداءٍ وظلم، وقطيعة رحم، وكلمةٍ جارحة قد تكون أشدَّ من سيف. وإليك بعض آثاره:
الأثر الأوَّل: فقدان السيطرة.
يكشف أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) حقيقة دقيقة تصف حالة الإنسان حين يشتدّ به الغضب، فيقول: "الْحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَنْدَمُ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ فَجُنُونُهُ مُسْتَحْكَمٌ"(8).
وهذه الكلمة تتحدَّث عن تلك اللحظة التي يفقد فيها الإنسان بوصلته، فيتحوَّل من كائنٍ عاقلٍ إلى شخصٍ مأسور لثورة تعميه عن أبسط مبادئ الحكمة. يسميها الإمام (عليه السلام) "جنونًا"؛ لأنَّ الغضب يفصل الإنسان عن قدرته على وزن الأمور، ويقوده إلى أفعال وكلمات لا تشبهه، وكأنَّه خرج عن طبعه الحقيقي.
فالنَّدم الذي يأتي بعد الحِدّة هو الدَّليل على أنَّ الإنسان كان خارج وعيه المتزن، وأنَّ عقله لم يكن حاضرًا ساعةَ الغضب. أمَّا إن لم يشعر بالنَّدم، ولم يلتفت إلى ما صدر منه، فهذه هي المرحلة الأخطر التي يعبِّر عنها الإمام (عليه السلام) بوصفها "جنونًا مستحكمًا"؛ أي: حالة يتحوَّل فيها الغضب إلى طبع، والانفعال إلى منهج، والاندفاع إلى عادة متجذِّرة لا يراجعها صاحبها ولا يشعر بثقلها على نفسه أو على الآخرين.
الأثر الثَّاني: زوال الرأي والبصيرة.
يحدّثنا الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بكلمة قصيرة في لفظها، عظيمة في معناها، حين يقول: "لَا يَعْزُبُ الرَّأْيُ إِلَّا عِنْدَ الْغَضَبِ"(9).
إنَّ هذه العبارة تكشف طبيعة الغضب كما لو أنَّ الإمام (عليه السلام) يسلِّط الضوء على لحظة الانطفاء التي تصيب الإنسان ساعةَ يستولي عليه الانفعال؛ فالعقل الذي كان قبل ثوانٍ يرى التَّفاصيل واضحة، ويتحرَّك بوعي واتزان، يُصبح -عند اشتعال الغضب- كمرآةٍ غشَّاها الغبار، لا تعكس شيئًا إلَّا مشوَّهًا.
الغضب لا يأخذ من الإنسان قوَّته فقط؛ بل يأخذ منه ترتيب أفكاره، وضبط كلماته، وحسن تقديره للأمور. وما دام الرَّأي هو ثمرة العقل الهادئ، فإنَّ الغضب هو الرِّيح العاصفة التي تقتلع هذه الثمرة قبل أن تنضج.
الأثر الثَّالث: شرٌّ إذا خرج دمَّر.
يرسم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في قوله: "الْغَضَبُ شَرٌّ إِنْ أَطْلَعْتَهُ دَمَّر" (10) صورة دقيقة لحقيقة الغضب حين يخرج من حدود السيطرة. فالغضب حين يتفجَّر يدمّر صاحبه قبل غيره. يدمّر كرامته، ووقاره، وسمعة عقله، وصورة نفسه في عيون الآخرين. يدمّر علاقات امتدت لسنوات، ويهدم جسوراً بُنيت بالمحبَّة، ويحرق ما زرعته الأيَّام من مودَّة وألفة. وربما يطلق كلمة واحدة تكسر قلبًا، أو يتَّخذ قرارًا لحظيًّا يغيِّر مصير حياة كاملة.
وبهذه الكلمة، يدعونا الإمام (عليه السلام) إلى أن نرى الغضب قوةً يجب تهذيبها، وإلَّا تحوَّلت من حرارة عابرة إلى نار حارقة، ومن ردَّة فعل لحظيَّة إلى أثر طويل لا يمكن إصلاحه بسهولة.
الأثر الرَّابع: نهايته مؤلمة.
يقدِّم أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) تشخيصًا بالغ الدقة لطبيعة الغضب، فيقول: "إِيَّاكَ وَالْغَضَبَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ جُنُونٌ وَآخِرَهُ نَدَمٌ" (11). فالغضب يقتحم النَّفس بوصفه حالةً من فقدان الاتزان تشبه الجنون؛ إذ يتصرَّف الإنسان بما لا يليق به، ويقول ما لا يريده، ويتجاوز حدوده وكأنَّ عقله قد انسحب من المشهد، تاركاً المجال لغريزةٍ مضطربة تتكلم وتقرر وتتحكم.
إنَّ وصف الإمام (عليه السلام) لبداية الغضب بالجنون هو توصيف دقيق لتلك اللحظة التي يعطِّل فيها الغضب مراكز الوعي، ويحجب الإنسان عن رؤية العاقبة. ففي أوَّل الغضب، يثور اللسان بلا ميزان، وتتحرَّك اليد بلا روية، ويتحوَّل القلب إلى ساحة فوضى؛ وهذه الفوضى هي عين الجنون المؤقت.
ثمَّ إنَّ الإنسان إذا أفاق من ثورته، ورجع إليه وعيه، وجد أنَّه أسرف في الكلمة، وأسرف في الحركة، وأسرف في كسر القلوب أو جرح النفوس، فتمتلئ روحه بشعور ثقيل من الأسى، ويتمنى لو عاد به الزَّمن لحظة واحدة كي يصمت أو يتروَّى أو يتراجع. وهذا النَّدم هو دليل على أنَّ الغضب كان انفعالًا أعمى.
ولذلك يجمع الإمام (عليه السلام) بين البداية والنِّهاية ليقول لنا: احذر الغضب؛ لأنَّك في لحظته الأولى تفقد نفسك، وفي لحظته الأخيرة تفقد راحتك. وما بين الجنون والنَّدم، يقع الإنسان في مساحة من الخسارة النفسيَّة والعمليَّة والعاطفيَّة لا يربح منها شيئًا.
الأثر الخامس: إثارة كوامن الحِقد.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "الْغَضَبُ يُثِيرُ كَوَامِنَ الْحِقْد"ِ(12).
بهذا القول القصير، يكشف الإمام (عليه السلام) عن طبقة خفيَّة من طبائع النَّفس البشريَّة، تلك الطبقة التي لا يراها الإنسان في حالته الهادئة؛ لكنها تظهر عند أوَّل شرارة غضب. فالغضب هو مفتاح يفتح أبوابًا كانت مغلقة في أعماق القلب، ويحرِّك مشاعر كانت ساكنة، ويوقظ من داخل الإنسان ما لم يكن يتوقع أنَّه موجود فيه.
إنَّ النَّفس قد تخفي في أعماقها أثرًا قديمًا لجرحٍ لم يلتئم، أو شعورًا دفينًا بالظلم؛ لكنها تظل ساكنة وغير مؤثرة طالما أنَّ العقل حاضر، والقلب متزن. فإذا هبَّت عاصفة الغضب، اندفعت هذه الآثار القديمة إلى السَّطح، وتحوَّل الانفعال اللحظي إلى صراع نفسي عميق. وهنا يكمن معنى قول الإمام (عليه السلام): إنَّ الغضب لا يصنع الحِقد من العدم؛ لكنه يوقظ ما كان نائمًا منه. وبصورة أخرى: الغضب يشبه من يحرِّك الماء الرَّاكد فيكشف ما ترسَّب في قاعه، فترتفع الشَّوائب إلى السَّطح. وكذلك النَّفس، قد تبدو طاهرة في ظاهرها؛ لكنها حين تغضب يظهر ما كان مستترًا من عداوة، وشدَّة، وقسوة، وربما ظلم لم يكن الإنسان يشعر به في نفسه من قبل.
وهذا التَّحليل العلوي هو دعوة إلى مراقبة النَّفس؛ فالغضب لا يكشف الآخرين بقدر ما يكشفنا نحن لأنفسنا، ويبيِّن لنا مدى سلامة أرواحنا، ونظافة قلوبنا، وصدق صفائنا. فمن كان قلبه نقيًّا، كان غضبه عابرًا لا يجرّ وراءه حقدًا، أمَّا من تراكمت في داخله مشاعر غير محلولة، فإنَّ الغضب يفتح لها الطَّريق لتظهر وتتحرَّك وتؤذي.
ومن هنا نفهم الحكمة: السيطرة على الغضب يحمي الآخرين من أذانا، ويحمينا من أنفسنا، ومن إعادة فتح خزائن الحقد النَّائم الذي قد يفسد علاقتنا بربِّنا وبالنَّاس وبأنفسنا.
الأثر السَّادس: يقود إلى أعظم الجرائم.
رُوِيَ عن الإمام جعفر بن محمَّد الصَّادق (عليه السَّلام) أنهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي (عليه السَّلام) يَقُولُ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) رَجُلٌ بَدَوِيٌّ.
فَقَالَ: إِنِّي أَسْكُنُ الْبَادِيَةَ، فَعَلِّمْنِي جَوَامِعَ الْكَلَامِ؟
فَقَالَ: "آمُرُكَ أَنْ لَا تَغْضَبَ".
فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ الْمَسْأَلَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى رَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى نَفْسِهِ.
فَقَالَ: لَا أَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ هَذَا، مَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) إِلَّا بِالْخَيْرِ.
قَالَ: وَكَانَ أَبِي يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ مِنَ الْغَضَبِ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ فَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَيَقْذِفُ الْمُحْصَنَةَ" (13).
قد يتوقع السَّائل أحكامًا أو وصايا طويلة، لكنَّ الرَّسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) قدَّم له أقصر طريق للوصول إلى الجوامع؛ لأنَّ الغضب هو الباب الذي إن انفتح فُتح معه باب الشرِّ كله، وإن أغلق أغلق معه أبواب كثيرة من المعاصي والزَّلل.
وبهذا القول يبيِّن الإمام (عليه السلام) أنَّ الغضب قوَّة عمياء يمكن أن تدفع الإنسان إلى ارتكاب أعظم المحرَّمات؛ القتل والقذف. فالغضب إذا سيطر على صاحبه يسقط عنه كلَّ قيد من قيود العقل، ويفتح الباب أمام الشيطان ليجعل الإنسان أداةً للفساد والظلم.
إنَّ القتل (وهو أبشع الجرائم) لا يأتي دائمًا من طبع شرير أو نيَّة مسبقة؛ بل قد ينشأ من غضبةٍ خاطفة تفقد الإنسان اتزانه. والقذف (وهو من أكبر الكبائر) قد يصدر من كلمةٍ ظالمة يطلقها الغاضب من دون روية، فيجرح بها كرامة إنسان، ويهدم بها أسرة، ويشعل بها نار الفتنة.
والأعرابي حين أدرك أنَّ السيطرة على الغضب هي مفتاح النَّجاة، لم يعد يحتاج إلى وصايا أخرى؛ لأنَّ الذي يملك زمام غضبه يملك زمام أخلاقه، ويملك زمام قراراته، ويمسك بيديه أكبر بوَّابة للشرّ قبل أن تُفتح.
وهكذا، يكشف النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) أنَّ الخير كله قد يُختصر أحياناً في كلمة؛ لكنها كلمة تبني حائطًا عظيمًا بين الإنسان وبين ما يهلكه.
المحور الثَّالث: علاج الغضب.
إنَّ للتعامل مع الغضب طريقينِ متكاملينِ يجتمعان كما يلتقي الدَّواء بالوقاية؛ فهناك علاج يدرأ الغضب قبل أن يولد، يهذِّب النَّفس ويحصِّنها، وهناك علاج يُطفئ شرارته حين يندلع، فيعيد القلب إلى توازنه.
أوَّلًا: العلاج الوقائي.
1. البصيرة قبل الانفعال.
من العلاجات الوقائيَّة التي تحمي الإنسان من الوقوع في فخِّ الغضب أن يربِّي نفسه على أن يسبق التَّفكيرُ كلَّ حركة، وأن تكون آيات القرآن الكريم وكلمات أهل البيت (عليهم السلام) وسلوكهم حاضرةً في ذهنه قبل أيّ قول أو فعل. فحين يتعوَّد المرء أن يزن كلمته ويعرض نيَّته على هدي النُّصوص الشَّريفة، يصبح قلبه أكثر هدوءًا، ويبتعد عن ردود الأفعال المتسرِّعة التي تجرُّ الإنسان إلى ما لا يُحمد عقباه.
إنَّ هذا السلوك يشبه بوَّابة أمان يضعها الإنسان أمام نفسه؛ فإذا حاول الغضب أن يندفع من داخله وجد أمامه حاجزًا من الوعي والبصيرة، فيتراجع قبل أن يتحوَّل إلى كلمة جارحة أو فعلٍ مؤذٍ. ومع الوقت تتحوَّل هذه اليقظة إلى طبعٍ ثابت، يحفظ النَّفس من الانزلاق، ويُقوّي حضور العقل على عاصفة الانفعال.
وبهذه الطَّريقة يعيش الإنسان محاطًا بدرعٍ، يردُّ عنه موجات الغضب، ويجعله أكثر سيطرة على مشاعره، وأقرب إلى الطَّمأنينة التي يُحبُّها الله (تعالى) لعباده.
2. الرفقة الحسنة.
يظهر أثر الرفقة في كبح الغضب بجلاء حين يحسن الإنسان اختيار من يجالسهم؛ فالقرب من أصحاب الانفعالات المنفلتة، الذين يتشدَّقون بأنَّهم لا يضبطون أعصابهم ويعتبرون الانتقام شجاعة، يترك في النَّفس أثرًا خطيرًا. فهؤلاء لا يصبرون على كلمة ولا يحتملون موقفًا، ويتعاملون مع الغضب السَّريع كأنَّه بطولة تُشاد، ومع كظم الغيظ كأنَّه ضعف يُعاب. ومع طول الصُّحبة تتسلَّل هذه النَّظرة إلى القلب من غير شعور، حتَّى يبدأ المرء يبرِّر غضبه ويستصغر العفو، فتتشوَّه موازينه من حيث لا يدري.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يختار لنفسه مجالس مختلفة، مجالس يسودها الحلم، وتعلو فيها نفوس تهذَّبت بكظم الغيظ، وتربَّت على العفو والصَّفح. فمجالسة أهل السَّكينة تُنعش الرُّوح، وتمنح الإنسان صورة جميلة عن كيفيَّة إدارة الانفعالات بوعي ووقار. كما أنَّ القرب من هؤلاء يجعل القلب يلين ويهدأ، ويحرِّره تدريجيًّا من هيمنة الغضب التي تفسد على الإنسان دنياه وآخرته.
وهكذا يصبح محيط الإنسان مدرسةً تربويَّة صامتة؛ إمَّا أن تدفعه إلى التَّهذيب وعلو الأخلاق، أو تجرُّه نحو التَّوتر والاندفاع. ومن يُحسن اختيار رفقته يفتح أمام روحه طريقًا واسعًا إلى السَّكينة الدَّائمة، كأنَّه يعثر على بوَّابةٍ خفيَّة تقوده إلى هدوءٍ ينعكس على حياته كلِّها.
ثانيًا: العلاج العملي.
النَّوع الأوَّل: يقوم على تجفيف منابع الغضب واقتلاع أسبابه منذ البداية، حتَّى لا يثور ولا يجد طريقًا للظُّهور. وهو يتضمَّن الأمور الآتية:
1. على الإنسان، حين تهبّ في داخله عاصفة الغضب أن يقف لحظةً واحدة يستحضر فيها نظر الله (سبحانه) إليه، ويضع هذا الحضور الإلهي أمام قلبه قبل أن يتحرَّك أو يتكلَّم. فذكر الله (تعالى) في تلك اللحظة يشبه نورًا يسبق الخطوة، يذكِّره بأنَّ الغضب لا ينبغي أن يدفعه إلى تجاوز حدود الحقِّ أو الوقوع في كلمة أو فعل لا يرضاه الله (عزَّ وجلَّ). وقد لخص النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) هذا الميزان الدَّقيق في حديثٍ جامع، إذ قال: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ اسْتَكْمَلَ خِصَالَ الْإِيمَانِ: الَّذِي إِذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي بَاطِلٍ، وَإِذَا غَضِبَ لَمْ يُخْرِجْهُ الْغَضَبُ مِنَ الْحَقِّ، وَإِذَا قَدَرَ لَمْ يَتَعَاطَ مَا لَيْسَ لَهُ" (14). فالمؤمن الحقيقي هو من يبقى ثابتًا على خطِّ الحقِّ في حال الرِّضا كما في حال الغضب؛ لا يجرُّه الرضا إلى مجاملة في غير موضعها، ولا يدفـعه الغضب إلى قولٍ أو فعلٍ يندم عليه؛ بل يظل قلبه متيقِّظًا، يزن كلامه وخطواته بميزان التَّقوى، ويعرف أنَّ القوَّة في القدرة على الوقوف عند حدود الله (تبارك وتعالى) مهما اشتعلت الانفعالات في الدَّاخل.
2. من الدَّواء النَّافع لثوران الغضب أن يستحضر الإنسان في تلك اللحظات فضل الحلم ولذَّة كظم الغيظ، وأن يدرِّب نفسه على ممارستهما تدريبًا عمليًّا مستمرًّا، ولو كان ذلك في البداية على خلاف ما يشعر به في داخله. فكم من إنسانٍ يبدأ الطَّريق مُتكلِّفًا للحلم، بينما قلبه ما يزال يحمل شيئًا من الغضب؛ لكنّه مع التكرار والصَّبر يتحوَّل هذا التكلُّف إلى سجية راسخة لا يجد فيها مشقَّة. فإذا واظب المرء على هذا السلوك فترة من الزَّمن أصبح الحلم خُلُقًا طبيعيًا يجري في عروقه، وصار كظم الغيظ شيئًا محبّبًا لنفسه، ومصدر راحة وطمأنينة. وبهذه التربية الهادئة يتحوَّل الإنسان من أسيرٍ لانفعالاته إلى مالكٍ لها، ومن سريع الاشتعال إلى واسع الصدر، ومن عبدٍ للغضب إلى سيّدٍ عليه.
ولغرس محبَّة الحِلم وكظم الغيظ في القلب، لا بدَّ من التَّأمُّل في هذه المجموعة من الرِّوايات المضيئة:
عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: "مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ" (15). وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): "أَوْحَى اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ: يَا ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي فِي غَضَبِكَ أَذْكُرْكَ فِي غَضَبِي لَا أَمْحَقْكَ فِيمَنْ أَمْحَقُ وَارْضَ بِي مُنْتَصِراً؛ فَإِنَّ انْتِصَارِي لَكَ خَيْرٌ مِنِ انْتِصَارِكَ لِنَفْسِكَ" (16).
وعَنْه (عليه السلام) قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله): يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي. قَالَ: اذْهَبْ وَلَا تَغْضَبْ فَقَالَ الرَّجُلُ قَدْ اكْتَفَيْتُ بِذَاكَ. فَمَضَى إِلَى أَهْلِهِ فَإِذَا بَيْنَ قَوْمِهِ حَرْبٌ قَدْ قَامُوا صُفُوفاً، وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ لَبِسَ سِلَاحَهُ، ثُمَّ قَامَ مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) لَا تَغْضَبْ، فَرَمَى السِّلَاحَ، ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ عَدُوُّ قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ مَا كَانَتْ لَكُمْ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ لَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ فَعَلَيَّ فِي مَالِي أَنَا أُوفِيكُمُوهُ، فَقَالَ الْقَوْمُ: فَمَا كَانَ فَهُوَ لَكُمْ نَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْكُمْ. قَالَ: فَاصْطَلَحَ الْقَوْمُ وَذَهَبَ الْغَضَبُ" (17).
وهذه النُّصوص هي دروس عمليَّة تُعلِّم الإنسان كيف يصبح وجوده مصدرًا للسكينة لا للاضطراب، وكيف يتحوَّل الغضب المكبوت إلى قوَّة إصلاح، وكيف يُمكن لثانية من الحِلم أن تغيِّر مصير أسرٍ كاملة، وربما أمَّة بأكملها.
كما أن الحلم وكظم الغيظ من صفات المؤمنين الذين سمت نفوسهم إلى ما عند الله (تعالى): (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (18). ويحدّثنا الإمام الباقر (عليه السلام) عن سؤالٍ وُجّه إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، سؤال يكشف شوق الإنسان لمعرفة طريق الارتقاء: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) عَنْ خِيَارِ الْعِبَادِ؟
فَقَالَ: "الَّذِينَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا، وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا، وَإِذَا أُعْطُوا شَكَرُوا، وَإِذَا ابْتُلُوا صَبَرُوا(ثم يختم رسول الله صلَّى الله عليه وآله هذه الصفات بميزة عظيمة هي تاج الأخلاق) وَإِذَا غَضِبُوا غَفَرُوا" (19)، وهنا بيت المقام. فالغضب امتحان الأخلاق الحقيقي، ولحظة يُكشف فيها معدن الإنسان. قد يحسن المرء وهو هادئ، ويشكر وهو مرتاح، ويستغفر وهو مطمئن، لكنّ الامتحان الأصعب هو أن تمسك زمام روحك حين يشتعل الغضب في صدرك، وأن تجلس على عرش نفسك فلا تدع الانفعال يقودك إلى ظلمٍ أو قولٍ أو فعلٍ تندم عليه.
إنَّ خيار العباد ليسوا أولئك الذين لا يغضبون؛ فالغضب طبيعة بشريَّة؛ وإنَّما هم الذين إذا غضبوا… غفروا.
يطفئون نار الغيظ بماء الحلم، ويحولون لحظة التوتر إلى فرصة للارتقاء، فلا ينتقمون لأنفسهم، ولا يسمحون للغضب أن يسرق جمال أرواحهم.
النَّوع الثَّاني: يقوم على تهدئة الغضب بعد اشتعاله، وكسر حدَّته حين يثور ويهيج، حتَّى يعود القلب إلى سكينته.
1. من العلاجات التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) لمواجهة لحظة الغضب ما يرتبط بتغيير حالة الجسد والاقتراب من عوامل السَّكينة. فإذا شعر الإنسان بأنَّ الغضب بدأ يتصاعد، وكان قائمًا، فليجلس مباشرة. وإن كان جالسًا فليتمدّد أو يضطجع قليلًا؛ لأنّ تغيير الهيئة يُضعف اندفاع النَّفس ويقطع الطَّريق أمام الشَّيطان الذي يستغل لحظة التوتّر ليحرِّض الإنسان على ما لا يرضي الله (تعالى). كما أنَّ استعمال الماء البارد، سواء بالوضوء أو الاغتسال، يخفف حرارة الغضب ويسترجع للنَّفس هدوءها وصفاءها.
2. إذا كان الغضب موجَّهًا نحو أحد أفراد الرحم، فإنَّ العلاج الأعمق هو أن يقترب منه الإنسان، ويضع يده عليه؛ لأنَّ الرحم بطبعها تخمد عند اللمس، ويذوب ما بين القلوب من توتّر، فالقرابة لها حرارتها الرَّحيمة التي تطفئ نار الانفعال. روى ميسِّر أنَّ الغضب ذُكر عند الإمام الباقر (عليه السلام)، فقال: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ فَمَا يَرْضَى أَبَداً حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ غَضِبَ عَلَى قَوْمٍ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ مِنْ فَوْرِهِ، ذَلِكَ فَإِنَّهُ سَيَذْهَبُ عَنْهُ رِجْزُ الشَّيْطَانِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ غَضِبَ عَلَى ذِي رَحِمَ فَلْيَدْنُ مِنْهُ فَلْيَمَسَّهُ، فَإِنَّ الرَّحِمَ إِذَا مُسَّتْ سَكَنَتْ" (20). وعنه (عليه السلام): "إِنَّ هَذَا الْغَضَبَ جَمْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ (21) تُوقَدُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا غَضِبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِيهِ، فَإِذَا خَافَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ فَلْيَلْزَمِ الْأَرْضَ؛ فَإِنَّ رِجْزَ الشَّيْطَانِ لَيَذْهَبُ عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ" (22).
وهكذا يتَّضح أنَّ الغضب قوَّة مزدوجة الحدَّين، قد تكون بوَّابة فضيلة إذا انطلقت من ضوء العقل والشَّرع، وقد تتحوَّل إلى مهلكة إذا اشتعلت بنار الشَّهوة والكبر. وبين هذين الحدّين يقف الإنسان أمام امتحانٍ يوميّ، يختبر فيه قدرته على التَّوازن، وحفظ كرامته، وصيانة قلبه من السقوط في الفوضى. وما دام الغضب يطفئ نور البصيرة في لحظة واحدة، فإنَّ تهذيبه هو السَّبيل الوحيد لحماية الإنسان وعلاقاته ومصيره. ومن يتأمَّل كلمات أهل البيت (عليهم السلام) يرى أنَّ علاج الغضب يبدأ من وعي طبيعته، ومعرفة جذوره، وإدراك آثاره، ثمَّ ممارسة مجاهدات النَّفس حتَّى يصبح الغضب قوَّةً منضبطة لا قوَّةً مدمّرة. وبذلك يستعيد الإنسان سيادته على جوارحه، ويتحوَّل الغضب من نار تحرقه إلى نور يحميه.



اضف تعليق