مَنْ يَظلِم يُظلَم

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

ان الإنسان يجب أن يعرف بأن العقاب والثواب سوف يكون بقدر الفعل أو العمل، فإن كان خيرا سوف يُجزى به الإنسان خيرا يوازي عمل الخير الذي قام به، وإن كان شرا فإنه سوف يحاسَب ويعاقَب بمقدر الشر الذي ارتكبه وآذى به الآخرين...

(إن الذي يعمل شرّاً أو يفعل شراً فإنّه سوف يراه)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

ليس هناك إنسان يُعفى مما ارتكبه من أذى وشرّ تجاه الآخرين، ولا فرق في هذا بين كبير وصغير، بين كهل أو طفل، الكل مسؤولون وسوف يُسألون أمام الله عمّا ارتكبوه من ظلم في حق الآخرين، حتى الطفل الذي قد لا يعي ما يفعله، أو غير مكلَّف سوف يُحاسَب عمّا يقوم به من أعمال وأفعال إذا كانت تحمل الشر والظلم في طيّاتها.

فهذه الرؤيا التي تخص محاسبة فاعل الظلم لا تخص فئة بعينها، ولا دخل للمرحلة العمرية في ذلك، الجميع سواسية أما القضاء الإلهي، حتى أولئك الذين قد يتذرعون بأنهم لا يعرفون أو لا يدركون أو لا يعلمون بما يقومون، لن يفلتوا من الحساب، وفي هذا الأمر درس وتحذير للجميع من دون استثناء أن لا يرتكبوا ظلوما أو أذاً بحق الآخرين، لأن الحساب الإلهي لهم بالمرصاد، وأن جميع الأعذار لن تخلّصهم من العقاب، فمن يَظلِم سوف يُظلَم حتما. 

إن الظلم نوع من أنواع الشرور، ولا يصح أن يُنظَر له على أنه شيء عابر، أو شيء يمكن التغاضي عنه لأن من يقوم به لا يُدرك عواقبه وتأثيراته على الآخرين، وهذا يعني أن على جميع الظالمين أن يستعدوا لتلقي وطأة الظلم التي ألحقوها بالآخرين سواء عن قصد أو من دون قصد، أما السبب الإلهي في ذلك، هو البناء السليم للأمة وللمجتمع.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في محاضرته القيّمة ضمن سلسلة نبراس المعرفة، عنوان المحاضرة: عوائد الخير والشرّ على الإنسان:

(الطفل وإن كان لا تكليف عليه، إلاّ أنّه سيرى نتيجة عمله (مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). فالرؤيا ليست خاصة بالكبار المكلّفين العقلاء البالغين، بل هي حسب ظاهر التعبير القرآني (من عمل) لكل شخص وإن كان غير مكلّف. فالظلم شر، فإذا ظلم الانسان فإنّه سيبتلى بمثل ما ظلم أو أشدّ من ذلك).

الظالم يتلقى العقاب آجلا أم عاجلا

أما لحظة تلقّي العقاب الإلهي فإنها قد تؤخَّر حتى تحين الآخرة، وهذا يعني أن الله تعالى قد يؤجّل عقاب الظالمين إلى ما بعد الدنيا، ولكن الأمر المحسوم أن من يظلم الناس سوف يتلقى عقابه سواء تم ذلك في الحياة الدنيا أو في الآخرة، وهذا ما يظهر لنا في الآيات القرآنية الكريمة وفي الروايات الشريفة، حيث يكون الانتقام من الظالمين أشدّ عذابا مما يتلقونه في الحياة الدنيا، فالأمر الثابت إن مرتكِب الظلم سيلاقي عواقب ظلمه حتما.

وكما يبدو هنالك قانون تكويني وإرادة إلهية في محاصرة الظلم والظالمين والتصدي لهم بالعقاب المستحَق، والهدف من ذلك بناء حياة أفضل تقوم على العدل الإلهي، حتى لا يسود الظلم بين الناس، وحتى لا يتحول عالما إلى غابة يظلم فيها القوي الضعيف.

حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في محاضرته المعلَن عنها في أعلاه:

(قد يُبتلى من يأتي بشر في الآخرة فيؤخّر الله تعالى عليه العذاب في الآخرة، وظاهر الآيات الكريمة بالقرآن الحكيم والمتواتر من الروايات الشريفة أنّه في الآخرة يكون الانتقام أشدّ من العذاب بالدنيا، بل أشدّ بكثير. ولعل هذا حكم تكويني، أي إنّ الله تعالى جعل الكون يمضي بهذه الطريقة، فالذي يعمل أو يفعل شراً فإنّه سوف يراه).

مع أن الإنسان يجب أن يعرف بأن العقاب والثواب سوف يكون بقدر الفعل أو العمل، فإن كان خيرا سوف يُجزى به الإنسان خيرا يوازي عمل الخير الذي قام به، وإن كان شرا فإنه سوف يحاسَب ويعاقَب بمقدر الشر الذي ارتكبه وآذى به الآخرين.

ولا يُهمل هذا العمل (خيرا كان أو شرا) حتى لو كان بمقدار ذرة، وهي متناهية الصِغَر، ولا تُرى بالعين المجرَّدة إلا في حالات معروفة، أي حين يدخل خيط الضوء من ثقب في السقف أو الجدار، سوف يرى الإنسان هذه الذرات تسبح في حيّز الضوء الصغير، وهي صغيرة جدا، ولا يراها الإنسان إلا من خلال خيط الضوء الداخل من الثقب. 

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في قوله:

(الذرّة كما هو ظاهر الآية الكريمة وذكره المفسّرون أيضاً أنّها لا تُرى بالعين المجرّدة إلاّ إذا نظرنا اليها من خلال ثقب في ظلمة عاتمة فيدخل من الثقب ضوء أو نور الشمس، فيرى في عمود النور هذا ذرّات تتطاير في الهواء).

والهدف من هذا التوصيف القرآني تحذيري يؤكد للإنسان بأن الشر أو الخير لا يُهمَل حتى لو كان بمقدار ذرّة. ولهذا على الإنسان كبيرا كان أم صغيرا، قويا أم ضعيفا، غنيا أم فقيرا، عليه أن يحتاط من ارتكاب الشر ولا يظلم مطلقا، لأن الظلم ليس هواء في شبك، بل هو فعر بالغ الخطورة يؤدي إلى تدمير الإنسان والكون برمته، وهذا ما لا تسمح به الإرادة الإلهية، لهذا يعاقَب الإنسان أو يُثاب على فعله وعمله بمقدار ما يستحق من ثواب أو عقاب.

الناس بين الإثابة والعقوبة

كما يجب أن يفهم كل إنسان بأن عمل الخير أو الشر، لا علاقة له بالمقدار أو الحجم، كبيرا كان أم صغيرا، فلا يُستثنى أي عمل ولا أي فعل من الإثابة أو العقوبة، لذلك يجب على كل إنسان أن يعي هذه الحقيقة جيدا، ويُطلقُ أعماله وأفعاله وحتى أقواله في ضوء هذه المعادلة، لأن اللفظ يمكن أن يكون مصدرا للخير أو مصدرا للشر، لذا عليه أن يسيطر ويتحكم بلسانه، مثلما يجب عليه أن يتحكم بأعماله وأفعاله كي لا تصبح مصدرا لظلم الآخرين.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(هدف القرآن الكريم من ذلك الوصف الدقيق (الذرّة) أن يقول للإنسان أنّ الخير والشرّ مهما كان صغيراً فهو يعود على الانسان بالفضل أو الشرّ مهما كان صغيراً).

ويتميز التأكيد الإلهي بدقة قصوى في خصوص أفعال وأعمال الخير والشر، لدرجة أننا قد نستغرب أو لا نتوقع بأن نظرة حادة يقوم بها الإنسان قد تجعل منه إنسانا ظالما، لأن النظر الحاد يُخل الرعب في نفوس وقلوب الناس، فحتى هذه النظرة الحادة التي قد يرى بعضهم بأنها غير مؤذية، لكنها سوف تدخل الحساب الإلهي وسوف يعاقب عليها من يقوم بها حتى لو لم يلحق ضررا ماديا في الناس الآخرين.

إلى هذه الدقة العالية يطالبنا القرآن الكريم كتاب الله الحكيم أن نفكر كثيرا حتى في طبيعة النظرة التي ننظر بها إلى الناس، فهي قد تكون مؤذية وقد تكون نظرة خير تشيع في نفوس الناس السكينة والطمأنينة إذا كانت نابعة من نفس نقية مؤمنة تخاف الله تعالى.

سماحة المرجع الشيرازي يخاطبنا قائلا: 

(في الأحاديث الشريفة نماذج عديدة من التي يقول الانسان فيها كلمة يتأذّى بها الآخرون أو ينظر نظرة حادّة لشخص أمامه فيُدخل في قلبه الرعب، ومن أمثال ذلك، والعِبَر كثيرة وهذه واحدة من تلك العِبر).

إن العِبرة الكبيرة من هذه المحاضرة الغنية بالمعاني السامية والتي ألقاهما سماحة المرجع الشيرازي، تهدف إلى إبعاد الناس بمختلف فئاتهم العمرة، ودرجة وعيهم وإدراكهم، عن ارتكاب أعمال الشر والظلم، وتدعوهم إلى السير في سبل الخير والعمل الصالح حتى في أدق الأمور التي قد لا يتنبّه لها الإنسان، فالمهم أن لا نكون ممن يرتكبون الظلم مع سبق الإصرار، وأن لا نرتكب الظلم من دون قصد، فكلاهما سوف يلاقي العقاب أو الثواب المستحَق.

اضف تعليق