الخطابات الرسمية تمثل محاولة لإعادة ضبط فضاء المجتمع المدني في العراق، من خلال تقوية الرقابة المركزية ومنع التداخل بين السلطات المحلية والمنظمات. لكنها في الوقت نفسه تعكس تحدياً متزايداً أمام المنظمات التي تبحث عن مساحة عمل مستقلة وفعالة، فالمشهد يتجه نحو موازنة دقيقة بين هدفين، الأول: تنظيم القطاع، والثاني: الحفاظ على دوره الحيوي في الحوكمة والتنمية...
بتاريخ 12 تشرين الأول 2025 وجهت الأمانة العامة لمجلس الوزراء/ دائرة المنظمات غير الحكومية، اعمام حكومي يحمل العدد د.م.غ /01 /54292، وقبل ذلك صدر إعمام أقل تفصيل بتاريخ 16/1/2022 بالعدد 1565، وقبلهما اعمام بتاريخ 9/5/2016 بالعدد2163، وكلها موجهة الى جميع مؤسسات الدولة، يشير إلى مرحلة مهمة من تنظيم العلاقة بين المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني في العراق.
وحسب ما مرفق مع المقال من وثائق عن تلك المخاطبات الرسمية والتي تؤكد بوضوح أن الدولة تتجه نحو منع الجهات التنفيذية والأمنية من فرض إجراءات إضافية غير منصوص عليها قانوناً، مع التشديد على حصر المتابعة والرقابة بجهة مركزية واحدة هي دائرة المنظمات.
أولاً: دلالات الإشارات الحكومية
1. تأكيد احتكار الدولة للرقابة حيث تشدد الكتب الرسمية الصادة على أن:
- الجهة الوحيدة المختصة قانونياً بمتابعة نشاط المنظمات هي دائرة المنظمات غير الحكومية.
- أي تدخل من المحافظات أو المجالس المحلية يعد مخالفة للقانون.
هذا يعكس رغبة الدولة في ضبط الساحة التنظيمية، ومنع تعدد مراكز القرار أو استغلال المنظمات كورقة ضغط محلية.
2. التذكير بالإطار القانوني
ترتكز الرسائل على:
- قانون المنظمات غير الحكومية رقم 12 لسنة 2010.
- تفسير المادة المتعلقة بـ اكتساب الشخصية المعنوية بعد إصدار شهادة التسجيل.
وهذا يعني أن الحكومة تريد العودة إلى التطبيق الحرفي للقانون، خصوصاً بعد تزايد الشكاوى من إجراءات محلية وصفتها المخاطبات الرسمية بأنها تجاوزات تعرقل عمل المنظمات.
3. تحذير مبطن من "المضايقات" حيث تستخدم المخاطبات الرسمية لغة هادئة لكنها تحمل رسائل واضحة:
- أي جهة تفرض موافقات إضافية أو تكلف المنظمات بما لا يدخل ضمن القانون، فإنها تعتدي على اختصاص الدولة المركزية.
- الجهات المخالفة تتحمل مسؤولية الإجراءات التي تتخذها.
وهذه لهجة تشير إلى أن الحكومة تعترف فعلياً بوجود تضييقات حصلت في عدد من المحافظات.
ثانياً: السياق الأوسع للعمل المدني بعد 2025
1. البيئة السياسية
تعمل الدولة في مرحلة ما بعد انتخابات 2025 على إعادة تنظيم العلاقة مع الفاعلين غير الحكوميين، في ظل:
- رغبة حكومية في ضبط الموارد والتبرعات.
- حساسية أمنية تجاه الأنشطة المدنية.
- محاولة منع استغلال المنظمات لأغراض سياسية أو اقتصادية.
2. البيئة القانونية، القانون الحالي يمنح المنظمات:
- حرية العمل.
- شخصية معنوية مستقلة.
- عدم تبعية لأي جهة تنفيذية محلية.
لكن التطبيق الفعلي ظل متفاوتاً بين محافظة وأخرى، ما استدعى تدخل الأمانة العامة، وهو ما يتحدث عنه بعض رؤساء المنظمات.
3. الصورة العامة للقطاع المدني حيث تشهد منظمات المجتمع المدني حالياً:
- تراجعاً في الدعم.
- زيادة في الطلب المحلي على خدماتها.
- اتساع الفجوة بينها وبين المؤسسات الحكومية.
ثالثاً: تقييم الواقع – القيود والإنجازات
*القيود
1. إجراءات محلية تعرقل الأنشطة (موافقات أمنية - رسوم - اشتراطات إضافية).
2. ضعف الثقة بين السلطات وبعض المنظمات.
3. تراجع مصادر التمويل وارتفاع متطلبات الشفافية.
4. أجواء سياسية تميل للتركيز على الأمن والتنظيم بدل الانفتاح ودعم المشاركة المدنية.
*الإنجازات
1. بناء شبكات تعاون بين المنظمات داخل بعض المحافظات.
2. توسع برامج الحوكمة والشفافية.
3. تنامي دور المنظمات في دعم النازحين والفئات الضعيفة.
4. تحسن الوعي العام بأهمية المجتمع المدني كطرف رقابي وخدمي.
رابعاً: ماذا تعني المخاطبات الرسمية للمشهد المدني؟
1. حماية للمنظمات من التعسف المحلي، وهنا المخاطبات الرسمية تمثل نوعاً من الضمان، لأنها:
- تمنع المحافظات الأجهزة الأمنية من فرض شروط غير قانونية.
- تحفظ استقلالية المنظمات.
2. لكنها أيضاً تشير إلى مركزية أكبر في إعادة تركيز كل السلطات الرقابية في بغداد وقد يعني:ضبطاً أكبر، ومتطلبات أكثر صرامة.
- احتمالية تحجيم المنظمات غير المنسجمة مع السياسات العامة.
3. بداية مرحلة "تنظيم أكثر من تشجيع"، فالمخاطبات الرسمية تعكس رؤية حكومية تعتبر المجتمع المدني جزءاً من النظام الإداري، لا شريكاً مستقلاً تماماً.
خامساً: كيف يمكن دعم المجتمع المدني في المرحلة المقبلة؟
* توصيات لصانعي القرار
1. إصدار تعليمات واضحة تمنع التعطيل الميداني غير القانوني.
2. إنشاء نافذة إلكترونية لتسهيل الموافقات دون تدخل المحافظات.
3. تعزيز الشفافية عبر نشر تقارير سنوية عن علاقة الدولة بالمنظمات.
* توصيات للمنظمات
1. تحسين جودة التقارير المالية والإدارية لزيادة المصداقية.
2. بناء تحالفات بين المنظمات لتقليل الضغط عليها من الجهات المحلية.
3. الاستثمار في برامج الرقابة المجتمعية والتوعية القانونية.
* توصيات للمجتمع الدولي
1. دعم مشاريع الاستدامة المالية للمنظمات المحلية، وما يشير اليه النظام الداخلي للمنظمات، وفق القانون.
2. تدريب المنظمات على الحوكمة وإدارة التمويل.
3. تعزيز مبادرات بناء الثقة مع الدولة.
خلاصة
الخطابات الرسمية تمثل محاولة لإعادة ضبط فضاء المجتمع المدني في العراق، من خلال تقوية الرقابة المركزية ومنع التداخل بين السلطات المحلية والمنظمات. لكنها في الوقت نفسه تعكس تحدياً متزايداً أمام المنظمات التي تبحث عن مساحة عمل مستقلة وفعالة، فالمشهد يتجه نحو موازنة دقيقة بين هدفين، الأول: تنظيم القطاع، والثاني: الحفاظ على دوره الحيوي في الحوكمة والتنمية.





اضف تعليق