الاستمرار في طلب العلم يجعل العقل مثمرًا، وأنَّ المراجعة الذَّاتية تمثِّل مرآةً صافية تكشف مواطن القوَّة والضَّعف، فيما يمدُّنا الفضول المعرفي بروح المغامرة والاكتشاف التي تدفعنا لتجاوز المألوف. وهذه الثُّلاثيَّة تشكِّل معًا طريق الإنسان نحو الكمال والتَّفوّق؛ فالعلم غذاء، والمراجعة تقويم، والفضول إشعال لشعلة الإبداع. وكل من جمعها في...

العقل الإنساني أشبه بمصباح لا يزداد إشراقًا إلَّا إذا مُدَّ بالوقود المناسب. وهذا الوقود هو العلم والمعرفة؛ فالحياة بكلِّ تحوّلاتها تفرض علينا أن نكون في حالة دائمة من البحث والاكتشاف، وألَّا نركن إلى الجمود أو نكتفي بما وصلنا إليه من معارف أو تجارب.

 إنَّ الإنسان الذي يحرص على الاستمرار في طلب العلم، ويوازن ذلك بمراجعة ذاته ومحاسبتها، ويغذي عقله بالفضول المعرفي، إنَّما يسلك طريقًا يجعل منه شخصيَّة متجدِّدة، قادرة على التَّكيف، والإبداع، والتَّميُّز. وهذه الرَّكائز الثَّلاث هي أسرار بناء العقول الكبيرة التي تصنع المستقبل وتخلِّد أثرها في التَّاريخ.

1. الاستمرار في طلب العلم.

العِلم هو الرَّكيزة المحوريَّة التي يقوم عليها ارتقاء الإنسان وتقدُّم المجتمع معًا، فهو ليس تراكمًا للمعارف والمعلومات، وإنَّما رحلة متواصلة من البحث والاكتشاف والفهم العميق، ومهما بلغ حجم معرفتنا، يبقى هناك دائمًا مجال للتَّعلم والتَّوسع في الإدراك. والتَّوقف عن العلم يعني الجمود والتَّخلي عن الفرص التي تتيح لنا تحسينَ حياتنا، وتطويرَ عقولنا، وبناءَ مستقبل أفضل.

من هنا يمكن القول: إنَّ علاقة العلم ببناء العقل علاقة تكامليّة تُعطي للعقل طاقته الحقيقيَّة؛ فالعلم هو الزَّاد الذي يغذي مداركه ويقوِّي قدرته على الفهم. وكما يحتاج الجسد إلى الغذاء ليستقيم وينمو، يحتاج العقل إلى العلم والمعرفة ليزدهر ويتَّسع أُفُقه. 

بالعلم يستطيع العقل أن يفرِّق بين الحقيقة والزَّيف، ويقيِّم ما يواجهه من أفكار ومعلومات بموضوعيَّة ودقَّة، ويكتسب ملكة النَّظر العميق في الأمور. وكلَّما غاص الإنسان في طلب العلم، ازدادت بصيرته إشراقًا، وتحرَّرت أفكاره من الجهل والسَّطحيَّة، واتَّسعت مداركه نحو آفاق الحكمة التي تجعل منه إنسانًا أكثر وعيًا وقدرة على قيادة حياته بوعي راسخ ورؤية نافذة، والباعث على ذلك؛ لأنَّ التَّعلُّم المستمر يرفع من قدرات العقل ويغذِّيه بروح الابتكار والإبداع؛ فكلُّ معرفة جديدة يكتسبها الإنسان تُولِّد في داخله أفكارًا ورؤى مغايرة تفتح أمامه سبل التَّفكير بطرق غير مألوفة، وتمنحه القدرة على صياغة حلول خلَّاقة للعقبات التي يواجهها. والابتكار هنا هو حصيلة التَّفاعل الحي بين العقل والمعرفة؛ إذ يتحوَّل العلم إلى أدوات فعَّالة بين يدي العقل، تساعده على الإبداع، وتدفعه إلى اكتشاف مسارات جديدة توسِّع دائرة الفهم والعمل، وتجعل الإنسان أكثر قدرة على صناعة التَّغيير.

كذلك فإنَّ المواظبة على التَّعلُّم تزيد في الإنسان قدرة أعمق على التَّعامل مع الآخرين بفعَّالية وروح احترام، وتمنحه مرونة تمكِّنه من التَّعايش مع مختلف أنماط التَّفكير. وكلَّما توسعت معارفه أصبح أكثر تقبُّلًا للاختلاف، وأكثر وعيًا بأهميَّة التَّنوع بوصفه مصدر غنى وإثراء للتجربة الإنسانيَّة.

ولا يقتصر التَّعلُّم المستمر على كونه وسيلة للتطور المهني والشَّخصي، فهو أيضًا وسيلة للحفاظ على شباب العقل وحيويته. وقد أظهرت الدِّراسات العلميَّة أنَّ المواظبة على التَّعلُّم وممارسة النَّشاط الذِّهني المتجدد تساعد في تأخير مظاهر الشَّيخوخة العقليَّة، وتحدُّ من احتماليَّة الإصابة بأمراض الذَّاكرة مثل (الزهايمر)؛ فالعقل الذي يعتاد على التَّفكير والبحث واكتساب معارف جديدة يبقى نشطًا ومتجدِّدًا، محتفظًا بقدرته على الإبداع والعطاء في مختلف مراحل العمر.

العلم رحلة ممتدة لا تعرف التَّوقف، فمهما اتَّسعت معارف الإنسان سيظل هناك دائمًا أفق جديد ينتظره ليتعلَّمه ويستكشفه. وهذه الرُّوح السَّاعية إلى التَّعلُّم المستمر هي التي تصوغ عقلًا متجدِّدًا، وتمنحه قوَّة تجعله أكثر قدرة على الفهم والإبداع والتَّعامل مع واقع الحياة برؤية أوسع ووعي أعمق؛ إذ المواظبة على التَّعلُّم تجعل من العقل عقلًا قادرًا على ابتكار حلول جديدة، وعلى التَّكيُّف مع التَّغيُّرات المتسارعة، وعلى مواجهة المصاعب برؤية واسعة ومرونة راسخة في مختلف مراحل العمر.

لذلك، فإنَّ طلب العلم ليس مرحلة عابرة تنتهي مع الدراسة الأكاديميَّة أو الاكتفاء بما حصَّله الإنسان في مرحلة معيَّنة؛ وإنَّما هو مسيرة دائمة؛ فكلُّ معرفة جديدة يكتسبها الإنسان تُضيء داخله، وتفتح أمامه أبوابًا لفهم أوسع للحياة، ورؤية أعمق للعالم؛ لذا، لا تتوقف عن طلب العلم، لا في دِينك الذي يهديك، ولا في دنياك التي تعيشها، فالعلم هو المفتاح الذي يفتح لك أبواب المستقبل، ويمنحك القدرة على مواكبة التَّغيير، وصناعة فرص جديدة للنَّهضة والتَّقدُّم.

لكن يبقى السؤال: أيُّ علمٍ هو الجدير بأن يُطلَب؟

 وأيُّ دربٍ ينبغي للإنسان أن يثبت فيه بلا فتور؟

 إنَّه ذاك العلم الذي يقوم على جناحينِ متكاملينِ، لا غنى لأحدهما عن الآخر...

الجناح الأوَّل: العلوم التي تمنح الإنسان رؤية واضحة عن مسؤوليته في هذا الوجود؛ كالعقيدة والفقه والأخلاق ومعرفة القرآن الكريم وسيرة المعصومين (عليهم السلام)؛ وهذه العلوم تمنح الإنسان بصيرة نافذة، وتحرّره من قيود الجهل، وتجعله أكثر قدرة على الرَّبط بين المعارف الدُّنيويَّة وغاياتها الأخرويَّة. فهي التي تهدي القلب إلى الله (سبحانه)، وتبني الضَّمير.

الجناح الثَّاني: علوم الحياة والبناء؛ كالطِّب والهندسة والرِّياضيات والعلوم الطبيعيَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة؛ وهذه العلوم تُسخِّر قدرات العقل لفهم الكون وتطوير الحياة، وتجعل الإنسان قادرًا على المشاركة في صناعة حضارة تخدم النَّاس وتحقِّق العدل والرُّقي. وقد روي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "العِلمُ عِلمانِ: عِلمُ الأَديانِ، وعِلمُ الأَبدانِ" (1)، في إشارة إلى أنَّ طلب العلم لا ينحصر في بعد واحد. ويمتدُّ ليشمل كلَّ ما يحفظ الحياة ويُصلح شؤونها.

منْ يثابر على التَّعلُّم في هذينِ المسارينِ، ينال عقلًا راجحًا متوازنًا، وقلبًا ممتلئًا رحمةً وإدراكًا. فهو لا يقف عند حدود المعرفة النَّظريَّة؛ بل يسمو بها إلى بصيرةٍ تنعكس في سلوكه، ويحوّلها إلى أدوات عمليَّة تخدم النَّاس، وتفتح آفاقًا واسعة لصناعة المستقبل.

2. المراجعــة الذَّاتيَّـة.

حين يعتاد الإنسان على نمط معيَّن من التَّفكير، قد يصبح من السَّهل أن تنزلق أفكاره ومعتقداته إلى مسار روتيني متكرر، من دون أن يتوقف ليفحصها بتمعن، وهنا تبرز ضرورة المراجعة الذَّاتية كأداة أصيلة في حياة الإنسان تتيح له أن يتوقف للحظة ويعيد النَّظر في أفكاره ومعتقداته. وهذه المراجعة تمثِّل رحلة مستمرة نحو فهم أعمق للذَّات، فهي تتجاوز كونها عمليَّة فكريَّة عابرة لتصبح طريقًا لاكتشاف النَّفس وتنمية الوعي بشكل متواصل.

إنَّ الدَّعوة إلى المراجعة الذَّاتيَّة تعني أن نعيد النَّظر في منابع أفكارنا ومعتقداتنا لنقف على مدى صحَّتها وموضوعيتها؛ فالحياة تتسم بالتَّغيُّر المستمر، وما نعتنقه اليوم من أفكار قد يتعارض مع الحقائق الجديدة التي نكتشفها في المستقبل، ولذلك تصبح المراجعة وسيلة للحفاظ على انسجام فكرنا مع واقعنا المتغيِّر. والوعي بهذا التَّغير والتَّكيف معه يتطلَّب من الإنسان أن يكون شجاعًا بما يكفي ليتساءل عن مدى صحَّة معتقداته، ولينظر إلى أفكاره بعيون جديدة؛ إذ الإنسان بطبيعته كائن متغيِّر، يتأثَّر بالبيئة والأحداث التي يعيشها؛ وهذه اللحظات من التَّفكر تساعدنا على تصحيح المسار إذا لزم الأمر.

قد تبدو هذه العمليَّة وكأنَّها بحث مضنٍ عن الحقيقة؛ لكنَّها في الواقع مسار يوجهنا نحو تحسين الذَّات؛ وذلك، لأننا

عندما نعيد النَّظر في أفكارنا، نمنح أنفسنا فرصة للتَّخلص من الافتراضات المسبقة التي قد تكون عائقًا في سبيل تقدُّمنا، ويمكننا، من خلال هذه المراجعة، أن نفتح أبوابًا جديدة لفهم أعمق للعالم من حولنا؛ ويمكن أن تتيح لنا مراجعة أفكارنا ومعتقداتنا التَّحقق من مدى تطابق تصرفاتنا مع القيم التي نعتنقها، وقد نكتشف من خلال هذه العمليَّة أننا بحاجة لتعديل سلوكياتنا لتصبح أكثر انسجامًا مع ما نؤمن به.

قد يبدو صعبًا قبول أنَّ بعض أفكارنا ومعتقداتنا قد تحمل عدم الدِّقة أو الانحراف، غير أنَّ هذه الشَّجاعة نفسها تفتح أمامنا الطَّريق نحو التَّحسين والتَّطور، من خلال الاعتراف بنواقصنا والعمل على تصحيحها.

من المهم أن ندرك أنَّ المراجعة الذَّاتية تمثِّل رحلة مستمرة تتخلل مسار حياتنا، وليست حدثًا عابرًا لمرَّة واحدة. وتخصيص وقت منتظم للتفكر في أفكارنا ومعتقداتنا يتيح النَّظر إلى أهدافنا الشَّخصيَّة وإعادة تقييم النَّجاحات والإخفاقات بطريقة واعية. ومع كلِّ مراجعة، تتسع مداركنا، ويزداد وعيُنا الذَّاتي، فنصبح أكثر قدرة على مواجهة أزمات الحياة بمرونة وحكمة، ونصقل شخصيتنا لتعيش بوعي شامل يفتح أمامنا آفاقًا جديدة للتطور في كلِّ جانب من جوانب حياتنا.

ومن يتدبّر النُّصوص الشَّريفة في القرآن الكريم وروايات المعصومين (عليهم السلام) يلاحظ تركيزها الكبير على مبدأ المحاسبة الذَّاتية (2)، وهو جوهر مراجعة الأفكار واكتشاف نقاط القوَّة والضعف في النَّفس؛ فالقرآن الكريم يذكِّرنا بمسؤوليتنا؛ حين يقول الله (تعالى): (لله مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَالله عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ) (3). 

كما يوجه الرَّسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) نصيحةً قيِّمة لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) قائلًا: "يا أبا ذر: حاسِب نفسك قبل أن تُحاسب، فإنَّه أهونُ لحسابك غداً، وزِنْ نفسك قبل أن توزن، وتجهَّز للعرض الأكبر يوم تُعرَض، لا يخفى على الله منك خافية" (4)، ليبيِّن أهميَّة مواجهة النَّفس ومراجعتها قبل الحساب النِّهائي.

ويضيف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "... إِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ‏ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ، ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي وَالضَّلَالَ" (5)، مؤكِّدًا أنَّ التَّدبُّر والعمل بالعبرة يفضي إلى رؤية صائبة وسلوك مستقيم.

وفي قول آخر له (عليه السلام): "مَنْ‏ حَاسَبَ‏ نَفْسَهُ رَبِحَ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ، وَمَنْ خَافَ أَمِنَ، وَمَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ، وَمَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ، وَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ‏" (6). تتضح التَّسلسليَّة للمعرفة والوعي؛ فتبدأ بالمحاسبة الذَّاتيَّة التي تمكِّن الإنسان من استشراف الطَّريق المستقيم وتحقيق الفهم العميق.

المحاسبة عند أمير المؤمنين (عليه السلام).

تُظهر المحاسبة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) منهجًا متكاملًا ودقيقًا لتقييم النَّفس ومراجعة الأفعال اليوميَّة، فقد سئل أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَكَيْفَ يُحَاسِبُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ قَالَ: إِذَا أَصْبَحَ ثُمَّ أَمْسَى رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: يَا نَفْس إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَضَى عَلَيْكِ لَا يَعُودُ إِلَيْكِ أَبَداً، وَاللهُ تَعَالَى يَسْأَلُكِ عَنْهُ فِيمَا أَفْنَيْتِيهِ،

 فَمَا الَّذِي عَمِلْتِ فِيهِ؟ 

أَذَكَرْتِ اللهَ أَمْ حَمِدْتِيهِ؟ 

أَقَضَيْتِ حَوَائِجَ مُؤْمِنٍ؟

 أَنَفَّسْتِ عَنْهُ كُرْبَةً؟ 

أَحَفِظْتِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فِي أَهْلِهِ وَوُلْدِهِ؟

 أَحَفِظْتِيهِ بَعْدَ المَوْتِ فِي مُخَلَّفِيهِ؟

 أَكَفَفْتِ عَنْ غِيبَةِ أَخٍ مُؤْمِنٍ بِفَضْلِ جَاهِكِ؟ 

أَأَعَنْتِ مُسْلِماً مَا الَّذِي صَنَعْتِ فِيهِ فَيَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهُ.

فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ جَرَى مِنْهُ خَيْرٌ، حَمِدَ اللهَ تَعَالَى، وَكَبَّرَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ مَعْصِيَةً أَوْ تَقْصِيراً، اسْتَغْفَرَ اللهَ تَعَالَى، وَعَزَمَ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَتِهِ، وَمَحَا ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِتَجْدِيدِ الصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ، وَعَرَضَ بَيْعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ (عليه السلام) عَلَى نَفْسِهِ، وَقَبُولَهُ لَهَا، وَإِعَادَةَ لَعْنِ أَعْدَائِهِ وَشَانِئِيهِ وَدَافِعِيهِ عَنْ حَقِّهِ. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ): لَسْتُ أُنَاقِشُكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ، مَعَ مُوَالاتِكَ أَوْلِيَائِي، وَمُعَادَاتِكَ أَعْدَائِي" (7). وبهذه الطَّريقة، يضع أمير المؤمنين (عليه السلام) إطارًا شاملًا لمراجعة الذَّات اليوميَّة، يجمع بين التَّفكر، وتصحيح الأخطاء، والالتزام بالقيم، والاستعداد الدَّائم لمواجهة الواقع بوعي ومعرفة.

الاهتمام بالفرائض.

كما أنَّ الاهتمام بالفرائض يشكِّل امتدادًا طبيعيًا لمنهج المحاسبة الذَّاتية الذي دعا إليه الإمام الصَّادق (عليه السلام)، فهو جزء من تقييم الإنسان لأفعاله وأعماله اليوميَّة أمام الله (سبحانه)؛ فقد قال (عليه السلام): "إنَّ أوَّلَ ما يسألُ عنهُ العبد إذا وقفَ بين يدي اللهِ جلَّ جلاله الصَّلاة [عن الصلاة] المفروضات، وعن الزَّكاةِ المفروضة، وعن الصِّيامِ المفروض، وعن الحجِّ المفروض، وعن ولايتنا أهل البيت، فإن أقرَّ بولايتنا ثمَّ مات عليها قبلت منهُ صلاتهُ وصومهُ وزكاتهُ وحجَّهُ" (8). وهذا يوضِّح أنَّ أداء الفرائض يمثِّل معيارًا أساسيًا للمحاسبة؛ إذ يرتبط بالوعي الذَّاتي ومراجعة النَّفس للأعمال اليوميَّة؛ فالفرائض تتيح للإنسان تقييم التزامه بالقيم الإلهيَّة، وتثبت علاقته بالحقِّ والعدل، وتفتح أمامه أبواب القبول والغفران، لتكتمل بذلك رحلة الفهم التي بدأناها مع مراجعة النَّفس والتَّفكر في المعرفة، فتصبح حياة الإنسان أكثر وعيًا وانسجامًا مع قيمه ومبادئه.

3. الفضـــول المعرفــي.

الفضول المعرفي هو ذلك الشَّرارة التي تشعل في أعماقنا رغبة لا تُشبَع في فهم العالم من حولنا، والدَّافعُ الذي يحثنا على استكشاف المجهول والبحث عن الإجابات لتلك الأسئلة التي تتصاعد في عقولنا؛ فالفضول هو نافذتنا إلى عالم أوسع من الأفكار والتَّجارب، وهو الشُّعلة التي تضيء دروبنا في رحلة البحث عن الحقائق من خلال طرح الأسئلة، وكلّ سؤال نطرحه بمثابة خطوة جديدة على طريق الاكتشاف.

إنَّ التَّوقف عن طرح الأسئلة يعادل التَّوقف عن التَّعلُّم والنُّمو الفكري؛ فالمعرفة لا تصل إلى حدود ثابتة. وكلّ إجابة تنتهي إلى أسئلة جديدة، فتستمر دورة الفضول بلا انقطاع، وتظلُّ المعرفة متجدِّدة، بينما ينقشع الجهل تدريجيًا بنور الاستفسار والسَّعي المستمر وراء الفهم.

ولو عدنا إلى صفحات التَّاريخ لرأينا أنَّ أعظم العلماء والمفكِّرين في مسيرة البشريَّة كانوا على الدَّوام على استعدادٍ لاقتحام المجهول، وفي كلِّ عصرٍ برز من يتحدَّى المألوف، ويبحث عن تفسيرات جديدة، ويطرح أسئلة لم تخطر على بال أحد من قبل. وهذه النزعة الاستكشافيَّة هي التي دفعت البشريَّة نحو التَّقدُّم، وجعلت من المعرفة معينًا لا ينضب للإلهام والإبداع.

في حياتنا اليوميَّة يمكن أن تكون الأسئلة التي نطرحها حول المشكلات التي نواجهها بمثابة مفاتيح لحلول جديدة وطرق غير متوقعة لحلِّ الأزمات، وحينما نتوقف عن طرح الأسئلة، نتوقف عن الابتكار؛ فالفضول يدفعنا إلى التَّفكير خارج الصُّندوق، ويشجعنا على النَّظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، وهذه القدرة على رؤية الأشياء بشكلٍ مختلف هي ما تميِّز العقول المبدعة وتفتح المجال للأفكار العظيمة التي قد تغيِّر العالم.

وعلى الرَّغم من قيمة الفضول في تحفيز العقل والسَّعي وراء المعرفة، يجب توجيهه بطرق بنَّاءة ومسؤولة؛ فالفضول غير الموجَّه قد يقود إلى البحث العقيم أو التَّدخل في شؤون الآخرين، وقد يتحوَّل إلى وسيلة للضرر بدلًا من النَّفع؛ لذا يصبح من الضَّروري ممارسة الفضول بما يحترم الآخرين ويعمِّق الفهم المتبادل، ليصبح دافعًا للنمو الفكري والمعرفي بطريقة إيجابيَّة.

وقد حذَّر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من الفضول المذموم، كما ورد عَنِ ابْنِ طَرِيفٍ، عَنِ ابْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: "بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَخْطُبُ النَّاسَ، وَهُوَ يَقُولُ: سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الله لَا تَسْأَلُونِّي عَنْ شَيْ‏ءٍ مَضَى، وَلَا عَنْ شَيْ‏ءٍ يَكُونُ إِلَّا نَبَّأْتُكُمْ بِهِ. 

فَقَامَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنِي كَمْ فِي رَأْسِي وَلِحْيَتِي مِنْ شَعْرَةٍ؟!

فَقَالَ لَهُ: أَمَا وَالله لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ مَسْأَلَةٍ حَدَّثَنِي خَلِيلِي رَسُولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) أَنَّكَ سَتَسْأَلُنِي عَنْهَا، وَمَا فِي رَأْسِكَ وَلِحْيَتِكَ مِنْ شَعْرَةٍ إِلَّا وَفِي أَصْلِهَا شَيْطَانٌ جَالِسٌ، وَإِنَّ فِي بَيْتِكَ لَسَخْلًا يَقْتُلُ الْحُسَيْنَ ابْنِي - وَعُمَرُ بْنُ سَعْدٍ يَوْمَئِذٍ يَدْرُجُ (9) بَيْنَ يَدَيْهِ-" (10). 

وهكذا ندرك أن الاستمرار في طلب العلم يجعل العقل مثمرًا، وأنَّ المراجعة الذَّاتية تمثِّل مرآةً صافية تكشف مواطن القوَّة والضَّعف، فيما يمدُّنا الفضول المعرفي بروح المغامرة والاكتشاف التي تدفعنا لتجاوز المألوف. وهذه الثُّلاثيَّة تشكِّل معًا طريق الإنسان نحو الكمال والتَّفوّق؛ فالعلم غذاء، والمراجعة تقويم، والفضول إشعال لشعلة الإبداع. وكل من جمعها في حياته، عاش حياةً أوسع إدراكًا وأعمق وعيًا وأقرب إلى الحكمة. 

إنَّ رحلة بناء العقل لا تتوقف عند محطَّة بعينها؛ فهي مسير متواصل نحو الكمال. ومن يطرق أبواب العلم والمحاسبة والفضول بإصرار، يكتب لنفسه سيرةً خالدة تظل منارةً تهدي الآخرين وتلهمهم.

................................................

الهوامش:

1. كنز الفوائد: ج 2، ص 107.

2. المحاسبة: هي النَّظر فيما أقدمت عليه النَّفس من قول أو فعل فيما مضـى من الوقت؛ فإن أتت بالأوامر المكلفة بها على وجهها الأكمل ولم تقصِّر في شيءٍ منها، فعليه أن يشكر الله (تعالى) على التَّوفيق ويكلِّف نفسه بذلك الشُّكر ويحثها على المداومة على الطَّاعات ويرغبها فيها.

وأمَّا إذا كانت النَّفس قد قصَّرت في شيءٍ من الأوامر أو فوتت شيئـاً من الطَّاعات أو أنَّها ارتكبت مخالفة منهياً عنها، فعليه أن يقف معها موقف المعاتب اللائم ويؤنبها ويعذلها ويصارحها على أخطائها وتقصيرها، ومن ثمَّ يأتي دور المعاقبة.

ومحاسبة الإنسان لنفسه يجب أن تكون في الدِّقة أكثر مما يصنع التَّاجر بشريكه، فكما يفتش التَّاجر في حساب الدُّنيا عن أدنى نقص فمن الأولى أن يكون مع نفسه؛ لأنَّ ذلك يتعلَّق بأمر الآخرة.

3. سورة البقرة/ الآية: 284.

4. مكارم الأخلاق: ص ٤٦٥.

5. شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): ج ٩، ص ١٥٨.

6. المصدر نفسه: ج 19، ص 28.

7. تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص ٣٨.

8. الأمالي (الصدوق): ص ٣٢٨.

9. يدرج: يقال للصَّبي إِذا دَبَّ وأَخذ في الحركة.

10. بحار الأنوار: ج42، ص 146.

اضف تعليق