q

يبدو أن تصاعد التوترات بين روسيا وتركيا بسبب حادثة إسقاط طائرة "سوخوي-24" الروسية بصاروخ أطلقته طائرة إف 16 تركية، قد تؤجج صراعا نشطنا في منطقة الشرق الاوسط، وهذا ما وضع العلاقات بين موسكو وأنقرة في امتحان هو الأصعب، بل يكاد يكون غير مسبوق منذ عقود، إذ يرى الكثير من المحللين ان سقوط الطائرة الروسية أشعل معركة كسر عظم سياسية بين الدب الروسي والذئب التركي، المتهم بداعم الإرهاب في سوريا.

وعلى خلفية حادثة الطائرة الروسية التي اسقطاها الاتراك في سوريا، يتكهن المحللون عدة سيناريوهات قد تحدث تطورات على مختلف الاصعدة بشأن العلاقات الروسية التركية خلال المرحلة المقبلة، ابرزها استمرار المواجهة السياسية المفتوحة خصوصا فيما يتعلق بالقضية السورية "أهم عامل خلافي بين الطرفين"، أذ ستقوم روسيا بمواصلة الدعم لنظام الرئيس بشار الأسد بتأمين غطاء جوي لقوات الجيش السوري لتحقيق مكاسب عسكرية، وتقطع الطريق نهائيا أمام إقامة منطقة آمنة على جزء من الشريط الحدودي مع تركيا من مدينة جرابلس حتى البحر وفقا لتصريح للرئيس التركي.

في مقابل استمرار تركيا على دعم الجماعات المسلحة والعمل على تحويل الحرب في سوريا إلى حرب استنزاف لروسيا، تدعمها في ذلك الولايات المتحدة والمملكة السعودية وقطر، كما ستضغط أنقرة من أجل إقامة منطقة آمنة داخل الشمال السوري.

أما سيناريو المواجهة العسكرية، استبعده الكثير من المحللين باعتبار أن إسقاط الطائرة "سو-24" بمثابة فخ كان ينصب لروسيا وتركيا بلعبة امريكية، غير أن الرد العسكري الروسي على الحادث في شكل غير مباشر يبقى ضمن السيناريوهات الروسية المطروحة على طاولة الكرملين من خلال تكثيف عمليات القصف الجوي في سوريا، واستقدام تعزيزات نوعية من الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة، حيث أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن موسكو ستنقل منظومات صواريخ إس 400 المضادة للجو إلى قاعدة حميميم العسكرية في سوريا، كما قد تقوم روسيا بتسليح السوريين الأكراد، سيعتبرها الأتراك كموازٍ لدعم المتمردين الشيشان في حربهم ضد روسيا. هل خطوة كهذه ممكنة الآن مع شعور روسيا بالغضب وبالرغبة بالانتقام وبحاجة ماسة لنوع من رد الفعل الذي سيؤذي تركيا دون أن يؤذي روسيا؟.

أما السيناريو الاكثر حتمية هو تبني عقوبات اقتصادية من لدن روسيا تجاه تركيا، وهذا ما حصل فعلا، فقد تبنت روسيا مجموعة عقوبات اقتصادية ضد تركيا ردا على اسقاطها مقاتلة روسية قرب الحدود السورية، فيما حاول الرئيس التركي رجب طيب اردوغان تهدئة التوتر بالتعبير عن حزنه لهذا الحادث متمنيا لو انه لم يحصل ابدا.

ويقول مراقبون للشؤون الروسية إن الأزمة دفعت بوتين الذي يجهز وزراؤه إجراءات اقتصادية انتقامية ضد تركيا "للاستنفار" بطريقة الجيوش في أوقات الأزمات، هذا الظرف غير مسبوق. هذا التحدي لروسيا غير مسبوق. لذا وبشكل طبيعي سيكون رد الفعل على قدر هذا التهديد.

ويقول هؤلاء المراقبون يتوافر لدى روسيا العديد من الخيارات في هذا الشأن، لا سيما في مجال الطاقة، إذ تعتبر روسيا أكبر مورد للغاز الطبيعي لتركيا، ولكن ينبغي على بوتين التفكير جيداً فيما إذا كانت فوائد معاقبة تركيا بقطع إمدادات الغاز، تفوق مخاطر بحث أنقرة عن مصادر بديلة للطاقة.

وتشير مصادر معلوماتية إلى أن التجارة بين روسيا وتركيا تتركز في عدد قليل من القطاعات، من أهمها الطاقة والمعادن والزراعة، وتشكل الصادرات الروسية حوالي 10% من واردات تركيا بشكل عام، ويُعد قطاع الطاقة هو الأكثر أهمية بالتجارة بين البلدين، إذ قامت روسيا بتوفير 55% من احتياجات استهلاك الغاز الطبيعي في تركيا لعام 2014، وعلى سبيل المقارنة، لا تستهلك السوق التركية إلا مقدار 13% فقط من إجمالي صادرات روسيا من الغاز الطبيعي.

ومما لا شك فيه أن الطرفين أمامهما حسابات معقدة ستفرض عليهما واقعا جديدا يتمثل بمواجهة سياسية مفتوحة، فاذا استمر الوضع على حاله المتوتر، ستجري احتكاكات ومواجهات بين روسيا وتركيا، وهذا الامر يشير الى أن تكون هناك صفقات سياسية بين الدول الكبرى المتصارعة والمهتمة بالهيمنة على سوريا، بهدف إعادة ترتيب الأوضاع بالمجال السياسي لغاية اقتصادية إستراتجية، مما ينذر ببواعث خطر نشوب حرب متعددة الأوجه بين الاطراف المتخاصمة.

اسقاط الطائرة الحربية الروسية خدمة ثمينة للاسد

في سياق متصل يقول سياسي سوري قريب من السلطات مازحا "يجب ان يرسل الرئيس بشار الاسد برقية شكر الى الرئيس رجب طيب اردوغان لان موقف موسكو تطور لصالحنا بفضله"، ويضيف "قبل ذلك، كان الاسد و(الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين متفقين على ان مكافحة الارهاب تأتي قبل الحل السياسي. اليوم، تذهب موسكو الى ابعد من ذلك، وتعتبر، كما تفعل دمشق، ان تركيا تساعد الارهاب"، ويقول الباحثان هنري باركي ووليام بومرانز من مركز "وودرو ويلسون انترناشونال سنتر" في مقال نشراه على موقع شبكة "سي ان ان" الاميركية "الرابح الوحيد من التطورات الاخيرة هو الاسد". ويضيفان "ان احد اعدائه الرئيسيين هو الآن على خلاف شديد مع حليفه الرئيسي"، ويتابع ان "بوتين واردوغان لديهما العديد من القواسم المشتركة: التسلط، القومية، التشكيك والحساسية المفرطة، والتصرفات الاستعراضية"، مشيرا الى ان بوتين "يسيطر بشكل افضل على اعصابه، بينما يتصرف اردوغان طبقا لانفعالاته".

في الاطار نفسه، تحدث وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس للمرة الاولى عن امكانية مشاركة قوات النظام السوري في مكافحة تنظيم الدولة الاسلامية. الا انه اوضح ان ذلك يجب ان يتم "في اطار الانتقال السياسي" في سوريا، ويقول الخبير التركي في معهد ابحاث حول حوض بحر قزوين في اسطنبول روشان كايا لوكالة فرانس برس "ستسمع روسيا صوتها وستزيد من دعمها لنظام الاسد، وبشكل غير مباشر ستعاقب مجموعات متحالفة مع تركيا عبر ضربها داخل سوريا".

عقوبات اقتصادية ضد تركيا واردوغان يحاول التهدئة

من جهته وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوما تضمن الاجراءات العقابية ونشر نصه الكرملين، وجاء في المرسوم ان الاجراءات التي اعدتها الحكومة الروسية و"الهادفة الى ضمان الامن القومي وامن المواطنين الروس" تشمل حظر الرحلات التشارتر بين روسيا وتركيا ومنع ارباب العمل الروس من توظيف اتراك واعادة العمل بنظام تأشيرة الدخول بين البلدين، واضاف المرسوم انه اعتبارا من اول كانون الثاني/يناير 2016، "لن يكون في استطاعة (ارباب العمل الروس) توظيف افراد (...) من بين مواطني الجمهورية التركية". وهو يمنع ايضا "المنظمات الخاضعة للقوانين التركية" من العمل على الاراضي الروسية.

كذلك، يلحظ النص "منع (...) استيراد بعض انواع البضائع التي مصدرها الجمهورية التركية او الحد منه" ولكن من دون تحديد تاريخ لذلك، وذلك استنادا الى لائحة تحددها الحكومة الروسية ولم ينشر مضمونها، وطلب بوتين ايضا "من الحكومة الروسية (...) اتخاذ تدابير من اجل حظر النقل الجوي التشارتر بين روسيا وتركيا"، مع "وجوب" امتناع وكالات السفر الروسية عن "اقتراح مواد على المواطنين الروس تشمل زيارة اراضي تركيا".

من جهته حاول اردوغان تهدئة الوضع قائلا "انا فعلا حزين لهذا الحادث. نتمنى لو انه لم يحصل ابدا لكنه حصل. آمل في الا يتكرر مجددا"، واضاف اردوغان امام مناصريه في برهانية (غرب) "نامل الا تتفاقم القضية بيننا وبين روسيا بشكل اضافي والا تترك عواقب وخيمة في المستقبل"، وتابع الرئيس التركي "ان روسيا مهمة لتركيا كما هي تركيا مهمة لروسيا. البلدان لا يمكنهما الاستغناء الواحد عن الاخر".

لكن اردوغان دعا الى لقاء مباشر مع نظيره الروسي اثناء وجودهما في باريس لحضور قمة المناخ، وكرر اردوغان دعوته قائلا "يجب الا ندع هذه القضية تتصاعد الى حد تقضي فيه بالكامل على علاقاتنا" لافتا الى ان "القمة (حول المناخ) قد تشكل فرصة لاصلاح علاقاتنا"، الا ان موسكو رفضت حتى الان تخفيف الضغوط عن انقرة، ولم تعط بعد ردا.

أزمة خطيرة بين موسكو وأنقرة!

الى ذلك أثارت هذه المواجهة، الأخطر منذ بدء العملية العسكرية الروسية في سوريا قبل شهرين أزمة خطيرة بين موسكو وأنقرة. لكن البلدين على خلاف منذ فترة طويلة بشأن الأزمة السورية، في المقابل تدعم روسيا وإلى جانبها إيران الرئيس السوري بشكل كامل. كما يهدد الحادث بنسف الجهود التي تقودها فرنسا لضم روسيا إلى التحالف لمكافحة الارهابين في أعقاب هجمات باريس.

اضف تعليق