يلقي الموسم الانتخابي في العراق بظلاله الثقيلة على الحياة العامة، إذ يتعرض الجمهور العراقي لسيل من الرسائل الإعلامية المباشرة والمبطّنة، هدفها خلق استعداد نفسي وذهني لدى الفرد والجماعة الأكبر التي ينتمي إليها، للذهاب إلى صناديق الاقتراع والتصويت لصالح هذا التيار أو ذاك الحزب...

يلقي الموسم الانتخابي في العراق بظلاله الثقيلة على الحياة العامة، إذ يتعرض الجمهور العراقي لسيل من الرسائل الإعلامية المباشرة والمبطّنة، هدفها خلق استعداد نفسي وذهني لدى الفرد والجماعة الأكبر التي ينتمي إليها، للذهاب إلى صناديق الاقتراع والتصويت لصالح هذا التيار أو ذاك الحزب.

تشير استطلاعات الرأي، العلنية منها والسرية، إلى ارتفاع نسبي في أعداد الناخبين المستعدين للمشاركة، مقارنة بالدورة السابقة التي شهدت نسبة مشاركة متدنية اعتُبرت دليلاً على تراجع ثقة العراقيين بالنظام السياسي وبالقوى التي تديره. ومع ذلك، لم تتراجع طموحات السياسيين، بل بدا واضحًا وجود سباق محموم ورغبة جامحة في استخدام المال السياسي والتأثير النفسي والإعلامي للحفاظ على ما تبقى من “المقبولية الشعبية” واستثمارها في معركة النفوذ والسلطة.

كان من المتوقع – في ضوء التراجع المقلق في نسب المشاركة خلال آخر دورتين انتخابيتين – أن تدفع هذه الأزمة القوى السياسية إلى مراجعة جادة لخياراتها واستراتيجياتها، والاقتراب أكثر من هموم الناس واحتياجاتهم. لكن ما يحدث في الغالب هو العكس تمامًا: ازدراء صريح لمطالب الجمهور، واعتماد تكتيكات قديمة تقوم على استحضار الهواجس الطائفية والمخاوف من “المجهول” وتعبئة الجماعات باتجاه مزيد من الانغلاق والهويات الفرعية.

القلق الحقيقي لدى الجمهور مختلف تمامًا عمّا تروّجه الحملات الانتخابية. المواطن العراقي العادي يعيش حالة إحباط عميق، وشعورًا متناميًا بأن الطبقة السياسية لا تمثله واقعيًا. هذا الفراغ استثمره بعض المغامرين في ترويج خطاب التغيير “الحتمي”، ولو عبر العنف والصدام. وهنا يتساءل كثير من العراقيين: هل التغيير الذي يروَّج له جاد أم مجرد وهم جديد؟ بعضهم يخشى عودة الفوضى ومشاهد الدماء، والبعض الآخر مقتنع بأن النظام السياسي “ممسوك” من الداخل والخارج، وأن لا مجال لتغيير إرادي في بنية الأداء السياسي، ما دامت هناك مصالح داخلية وخارجية مترسخة لا تريد التغيير ولا تسمح به.

العراق، في الحقيقة، بحاجة إلى تغيير عميق، لكنه تغيير سلمي وداخلي بالدرجة الأولى، يطال هياكل السلطة وطريقة إدارة الدولة. المطلوب هو انتقال من “النمط الرعوي” في الحكم إلى إدارة حديثة تضع العراق على سكة دولة قادرة على مواجهة تحديات الأمن والتنمية والاقتصاد. أما ما يروَّج له من دعوات لانقلابات أو تدخلات خارجية فليس سوى أوهام إعلامية لا تستند إلى وقائع موضوعية.

الخطر الأكبر الذي يهدد العراق ليس غزوًا خارجيًا جديدًا، ولا حتى عودة تنظيم إرهابي كداعش، بل يكمن في انعدام القدرة على القراءة الواقعية للتحديات: المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية، التباعد المتسع بين القوى السياسية والجمهور المحبط، تآكل الثقة بالزعامات والوجوه المتكررة، وضعف الإرادة في مواجهة تحديات الأمن والتنمية. ويضاف إلى ذلك استمرار الاعتماد المفرط على الريع النفطي الذي تحتكره القوى النافذة عبر الهيمنة على الوزارات والمؤسسات، بينما المجتمع العراقي – الفتي والمتزايد بسرعة – يقذف سنويًا بمئات الآلاف من الشباب الباحثين عن عمل، والحكومة مثقلة بعجز مالي وبيروقراطية مترهلة عاجزة عن الاستجابة.

إن التغيير المطلوب لا يبدأ من صناديق الاقتراع وحدها، بل من تغيير العقل السياسي الذي ما زال غارقًا في التفكير الاستحواذي قصير النظر، ومن الانتقال إلى رؤية بعيدة المدى توازن بين المصالح وتستشرف المستقبل. فالزمن هو الخصم الحقيقي للطبقة السياسية الحالية، والسنوات الضائعة تهدر فرصًا ثمينة لمعالجة أزمات متراكمة.

يكفي أن نقرأ تحذيرات المؤسسات المالية العالمية: وكالة “رويترز” نقلت عن بنك “جي بي مورغان” توقعاته بانخفاض سعر برميل النفط إلى خمسين دولارًا في الربع الأخير من عام 2026، في وقت ما زال فيه الساسة يقدّمون وعودًا بمزيد من التوظيف ويضغطون على الموازنات لتوزيع مكاسب انتخابية قصيرة الأمد. هذه المفارقة الصارخة تعكس عجزًا في التفكير الاستراتيجي، وتكشف هشاشة الوعود مقارنة بحجم التحديات المقبلة.

العراق يواجه اليوم فسادًا مستشريًا، واقتصادًا متواضع الأداء، وضعفًا في جذب الاستثمارات، وتردّدًا لدى المستثمرين بسبب هشاشة البيئة السياسية والأمنية. إن من يفكر في المستقبل عليه أن يستحضر الأرقام والوقائع: أعداد متزايدة من الشباب تدخل سوق العمل، أزمات مرشحة للتفاقم، مجتمع لم يعد يحتمل الانتظار. الطريق إلى بناء دولة حقيقية يبدأ من العقول المفكرة والخطط الذكية، ويمر بخلق بيئة آمنة جيوسياسيًا واقتصاديًا، ويتطلب الكف عن المغامرات الخطابية والرهانات على الهويات الضيقة.

التغيير في العراق ليس ترفًا ولا خيارًا مؤجلاً، بل ضرورة وجودية تمليها معادلات الواقع. وما لم تدرك القوى السياسية هذه الحقيقة، فإنها ستدفع – ومعها المجتمع بأسره – ثمن الإصرار على تجاهل الخطر الأكبر: ضياع الزمن وضياع الفرص.

اضف تعليق