في هذا المحرّم، أيها المحب لأهل البيت، لا تكتفِ بالدمعة، وإن كانت مطلوبة وعظيمة، بل اجعل منها بوابةً لمعرفة أعمق، وسلوكٍ أصدق. اقرأ سيرة الحسين، تأمل في كلماته في طريقه إلى كربلاء، استشعر المعاني الكبرى في كلّ موقف، من خروجه إلى وداعه، ومن عطشه إلى شهادته...
ها هو محرّم يعود من جديد، لا كالشهور، بل كصوتٍ من قلب السماء، ينعى للعالم أجمع سيد الشهداء، الإمام الحسين بن علي (عليهم السلام)، سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة، ومَنْ مثله يُبكى عليه إلى آخر الدهر؟ فها هي القلوب تهتزّ، والعيون تفيض، والمآتم تتشحُ بالسواد، إيذانًا بذكرىٍ لا تندمل جراحها، ولا تموت مع الأيام.
يقول الإمام الرضا (عليه السلام):
(كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكًا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام منه، فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه).
إنّ بكاء المؤمنين في شهر محرّم ليس حزنًا مجرّدًا، بل هو موقفٌ، وفهمٌ، وانتماءٌ لنهجٍ إلهي جسّده الحسين في كربلاء. فقد أُريق الدم الطاهر ليبقى الإسلام نقيًّا، وليُفرَزَ طريقُ الله عن طريق السلطان الجائر.
في العاشر من محرّم، لم يكن الإمام الحسين خارجًا لطلب سلطة أو جاه، وإنما – كما ورد في زيارته–:
"خرجتَ لطلب الإصلاح في أمة جدك محمد، أمرتَ بالمعروف ونهيتَ عن المنكر".
فكربلاء كانت مدرسة، وكلّ من بكَى على الحسين عن معرفة، فهو خريج هذه المدرسة. يقول النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): يا فاطمة كلّ عين باكية يوم القيامة، إلا عينٌ بكت على مصاب الحسين، فإنّها ضاحكةٌ مستبشرة.
والعجيب أن البكاء – الذي قد يُظَنُّ فيه ضعف – هو في كربلاء ذروةُ القوة. فالباكِي على الحسين ليس ضعيفًا، إنما هو المنتصر على خدر اللامبالاة، والمستيقظ في زمن الغفلة، والحاضر في معركة القيم. البكاء هنا فعل مقاومة، وتعبير عن الرفض القاطع للظلم، والولاء المطلق لخط الإمامة.
فأيُّ تسليمٍ هذا؟! وأيّ رضا بما قدّره الله؟! إن الإمام الحسين في كربلاء ما كان إلّا تجلٍّ لأعلى مراتب التوحيد، حيث تتجرد الإرادة إلا من إرادة الله، ويصبح الدم بيانًا ربانيًّا يعيد تشكيل ضمير الأمة.
ولا ننسَ زينب الكبرى (عليها السلام)، شريكة الحسين في الثورة، التي وقفت في مجلس يزيد وقالت كلمتها الخالدة: فَكد كيدكَ، واسعَ سعيك، وناصب جُهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا.
وها هو التاريخ يُثبت قولها. فالدم الحسيني لم يجفّ، والظلم الأموي اندثر، وبقيت كربلاء شمسًا لا تغيب، تهدي التائهين، وتوقظ الضمائر.
في هذا المحرّم، أيها المحب لأهل البيت، لا تكتفِ بالدمعة، وإن كانت مطلوبة وعظيمة، بل اجعل منها بوابةً لمعرفة أعمق، وسلوكٍ أصدق. اقرأ سيرة الحسين، تأمل في كلماته في طريقه إلى كربلاء، استشعر المعاني الكبرى في كلّ موقف، من خروجه إلى وداعه، ومن عطشه إلى شهادته.
فالحسين (عليه السلام) لم يُقتَل ليُبكى عليه فقط، بل لينهض به أهل الحق، ويثور به المؤمنون في كل زمان. وفي كل نَفَسٍ من أنفاسك وأنت تذكره، اجعل نيتك أن تكون من السائرين على طريقه، (من الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام).
فيا عاشق الحسين، إن جاءك محرّم، فاستقبله باكيًا، واعلم أن دمعتك شهادة، وحزنك ولاء، ومجلسك ثورة... فإنّ الحسين، لا يُذكر إلا ويُنهض، ولا يُبكى عليه إلا ويُطهّر القلوب.
اضف تعليق