الشيء الأكثر اهمية في اعمال سمث هو الاعتقاد بان الناس العاديين يفهمون مصالحهم الذاتية دون مساعدة من السياسيين او الفلاسفة المهنيين.
"كتاب ثروة الامم هو صرح رائع اقيم على اساس متين من المصلحة الذاتية". هكذا كتب جورج ستايجر، وهو يمثل رؤية الاغلبية في القرنين الاخيرين. لكن رؤية الاغلبية هي خاطئة. الادّعاء بان ثروة الامم لسمث بُني على افتراض ان الناس يتصرفون بدوافع المصلحة الذاتية، واعتبار اهمية الكتاب تنبع من هذا الافتراض هو سوء فهم شديد له.
كل ما قاله سمث حول اهمية المصلحة الذاتية كان بسيطا جدا، في زمانه: رفض الاختزال الأناني لكل محفزات الانسان الى المصلحة الذاتية، وآمن اكثر من هيوم بالمخاوف المحتملة للآخرين، وسمح بمجال للإيمان الديني العميق اكثر من فولتير، واختلف جدا عن التنويري الاسكتلندي Hutcheson حول دور المصلحة الذاتية في الاقتصاد.
الأهم في عمل سمث هو الايمان بان الناس العاديين عادة يفهمون مصالحهم الذاتية بدون مساعدة من السياسيين والفلاسفة. العلامة المميزة لفكر سمث هي رؤيته لفهم الانسان، وليس لحوافزه: هو اكثر رغبة من معاصريه في القبول بقدرة الناس العاديين على معرفة ما يحتاجون معرفته في الحياة. وهذه الرؤية توضح فلسفة سمث وتوقعاته بسياسة تحررية حديثة.
"انه من دواعي السخف وعدم الاحترام ان يتظاهر الملوك والوزراء بمراقبة اقتصاد الناس الشخصي، ويكبحون النفقات اما بقوانين مقيدة للإنفاق الخاص او بمنع استيراد البضائع الاجنبية. هم انفسهم كانوا دائما اكبر المبذرين في المجتمع. دعهم يهتمون بنفقاتهم الخاصة" (1)
في زمان سمث كان الاعتقاد الشائع ان الناس بحاجة الى التوجيه من الحكماء والاخلاقيين، وان النظام السياسي الجيد سيحاول منع الطبقات الدنيا من السلوك المدمر ذاتيا (الخمر، وارتداء الملابس الراقية) ويوفر تعليمات في الدين والاخلاق. ولعدة سنوات شغل سمث كرسي الفلسفة الاخلاقية الذي أسستهُ الحكومة الاسكتلندية لصيانة الاخلاق العامة، لكنه بالنهاية رفض فكرة ان هذه هي الوظيفة الملائمة للحكومة. هو ايضا رفض فكرة ان الحكومات تحتاج لإشغال نفسها بعادات الشرب الخاصة بالفقراء او إلزام الشركات بتمرير قوانين تقييد الانفاق لتحديد طريقة اختيار الناس لملابسهم.
"ان رجل النظام... يميل للإعجاب بجمال الخطة المثالية للحكومة، ولدرجة لا يمكن ان يحصل اي انحراف في اي جزء منها... هو يتخيل انه يستطيع ترتيب مختلف افراد المجتمع الكبير بنفس سهولة ترتيب احجار رقعة الشطرنج. هو لا يدرك ان احجار الشطرنج ليس لها قوة دافعة للحركة عدا حركة اليد المؤثرة، لكن، في رقعة المجتمع الكبير، كل قطعة منفردة لديها قوة حركة خاصة بها، وهي مجتمعة تختلف دائما عن تلك التي يختار المشرع التأثير عليها."(2)
هذه كانت امثلة محددة عن الالتزام الاساسي الذي يتخلل جميع اعمال سمث في تبريره لأحكام الناس العاديين ومنع محاولات الفلاسفة والسياسيين في استبدال تلك الأحكام بالأنظمة "الافضل" التي اخترعها المفكرون. في كتابه "تاريخ علم الفلك" يصف سمث الفلسفة بالحقل الذي يحاول ربط وتنظيم بيانات التجربة اليومية. في "نظرية العواطف الاخلاقية" هو ينتقد نظريات العديد من الفلاسفة في الاخلاق لأنها لا تتعامل بشكل مناسب مع الطريقة التي تُمارس بها حقا العواطف الاخلاقية. في كلا الكتابين هو يلوم اولئك المنجذبين "لحب النظام"، الذين يريدون فرض رؤيتهم المعيارية الخاصة على الذين يعيشون حقا في عالم الانسان. كان وصف سمث للتفكير السياسي والاخلاقي بالمساواة egalitarian: الخبراء يعرفون اقل مما يدّعون معرفته، والناس العاديين يعرفون اكثر مما يبدو معرفته، حول افضل ما يعزز الخير الانساني.
رؤية المساواة هذه للمعرفة الانسانية توفر الاساس الجوهري لجدال سمث ضد تدخّل الحكومة في الاقتصاد. معلم سمث Hutcheson وخصمه جيمس ستيوارت والعديد من الاقتصاديين السياسيين لا يشتركون مع سمث بالثقة بأحكام الناس العاديين، ولهذا نظروا للحكومة كمرشد للاستثمار والسيطرة على العمل وخيارات الفقراء في الاستهلاك. بالنسبة لسمث، القرارات التي يتخذها الافراد في مواقفهم المحلية –كل الافراد حتى الفقراء وغير المتعلمين نُظر اليهم بمزيد من الاحتقار من جانب معاصري سمث– سوف دائما تعزز بفاعلية اكبر الخير العام قياسا باي خطة تُوجّه مباشرة لذلك الخير. قرارات الافراد المتعلقة بمشاكلهم الاخلاقية ستكون ايضا بنفس درجة حكمة القرارات التي يصلون اليها في ظل الاشراف الاخلاقي للقادة السياسين.
هذا التأكيد غير العادي على سلامة تفكير الناس العاديين كانت له نتائج مؤثرة على كيفية فهمنا لسمث. اولا، اذا كان سمث يعتقد ان العمل الفلسفي والعلمي الجيد يجب ان يتجذر في الوعي العام، عندئذ يجب ان لا نتوقع منه الموافقة على علم الاقتصاد، كالعلم الذي لدينا اليوم، الذي يجري بصيغ تقنية عالية التجريد. ثروة الامم نال الاعجاب في زمانه لوضوحه الكبير، ولتجنبه الحسابات التفصيلية لمصلحة السرد التاريخي.
ثانيا، ان الفلسفة الاخلاقية المتجذرة في الوعي العام من غير المحتمل ان تقبل برؤية الطبيعة الانسانية بالشكل المغاير للبداهة، وان سمث في الحقيقة كافح رؤى اسلافه وزملائه المغايرة للبداهة. هذا احد اسباب رفضه لفكرة ان الكائنات البشرية هي دائما انانية، التي طرحها هوبز وماندافيل. ولكن لنفس السبب هو يرفض فكرة ان الانسان سيكون او كان قادرا على الايثار العاطفي او الوطني الذي علّق عليه المفكرون الطوباويون آمالهم (توماس مور قبل سمث، روسيفان في ايامه، الماركسيون لاحقا).
ثالثا، والاكثر اهمية، عدم ثقة سمث بقدرة "الانظمة" سواء الفلسفية منها او الدينية او السياسية على تحسين الكائن البشري، تنسجم مع اعتقاده بان ما يزودنا حقا بالتعليم الاخلاقي هو المؤسسات المتواضعة التي تجسّد التفاعلات الاجتماعية اليومية بما فيها الاسواق. ان اساس كل فضيلة لدى سمث هي "السيطرة على الذات" self-command"، او المقدرة على التحكم بمشاعرنا، وكبح عواطفنا نحو مصالحنا الذاتية وتعزيز شعورنا بالآخرين. لكننا لا نحقق السيطرة على الذات الاّ بعد ان يقودنا رفض الاخرين الى تطوير عادة لجم حب الذات. حينما نكون بالغين، لا يمكننا اداء الاشياء بنفس الطريقة التي كنا نحصل فيها من تدليل وتعاطف من الآباء، وسيكون السوق هو الميدان الرئيسي الذي فيه نحتاج دائما للاستماع لمصالح الاخرين وكبح انقيادنا للذات. عندما نحاول عقد اتفاق او صفقة مع شخص آخر، وخاصة عندما نريد الاحتفاظ بمهنتنا المنتظمة، سنحتاج لتلبية حاجات الناس الاخرين بدلا من مجرد الانشغال بالذات: الانسان يحتاج دائما لمساعدة جماعته، ولا يمكنه توقّع ذلك من شفقتهم وخيريتهم فقط. هو سيسود اذا تمكن من تسخير حبهم للذات لمصلحته، وتبيانه لهم بانه من مصلحتهم ان يقدموا له ما يحتاج. مهما كانت الصفقة او الاتفاق ومن اي نوع، فهي تقترح هكذا عمل.. اننا لا نتوقع عشائنا من طيبة القصاب او الخباز، وانما من تقديرهما لمصلحتهما الذاتية. نحن نوجّه انفسنا ليس لإنسانيتهم وانما لحبهم للذات، واننا لا نتحدث لهم ابدا عن حاجاتنا الضرورية وانما عن منافعهم.
النقطة الرئيسية في السطور اعلاه هي ليس ان القصاب او الخباز مهتمين ذاتيا وانما هي معرفتنا بكيفية "معالجة" تلك المصلحة الذاتية، ومعرفتنا بكيفية اقناعهم بان ما نقوم به من شيء مع انه يساعدنا لكنه لمصلحتهم. غير ان مقدرتي للتعامل مع اهتماماتهم تأخذني الى ما وراء ذاتي، ومهما كان العمل الذي اقدمه لهم، لابد من الذهاب الى ما وراء حبي للذات لكي انال دعمهم لي. يؤكد سمث ان المقدرة على كبح حب الذات وفهم مصالح الاخرين، هو الذي يميز الكائن البشري عن الحيوانات. لذا فان المشاركة في السوق تصقل شخصية الانسان، وتساعد في تطوير خاصية حاسمة لمقدرتنا على ان نكون جريئين ورقيقين او اي شكل اخلاقي آخر.
احترام السوق هذا كوسيلة لتطوير الشخصية، هو غير مألوف لدى فلاسفة الاخلاق: معظم اسلاف سمث وزملائه وخلفائه يفضلون الميدان السياسي بدلا من ذلك، كأحسن مكان لتطوير الشخصية. سمث لديه رؤية داكنة عن السياسة. هو يرى انه لو شارك في الميدان السياسي، يُحتمل ان يكون دائما تحت ضغط ابداء اهتمام اكبر بالخير العام قياسا بما يشعر به حقا. الضغط المتواصل يدفع للنفاق، لهذه الاسباب كان سمث اقل قناعة بقيمة السياسة للأخلاق قياسا بأسلافه القدماء –افلاطون، ارسطو- او معاصريه امثال Hutcheson وروسو. هو كان حقا مشككا في امكانية ان يكون السياسيون بالذات اناس خيرين، او ان الناس الخيرين ينجذبون للحياة السياسية.
يتبع هذا وفق عقيدة سمث بقدرة الناس العاديين في ادارة معظم شؤونهم بانفسهم، هو ان الحكومات تستطيع بل يجب ان تلعب دورا اصغر مما يتصوره المفكرون السياسيون. ايمان سمث بمقدرة الناس هو الذي قاده نحو التحررية.
ذلك لا يعني ان الوعي العام للناس هو غير قابل للتغيير، او ان الطريقة التي يعيش بها الناس يجب ان تتم كليا دون تدخّل من الحكومة. اعتقد سمث ان الناس العاديين يعرضون قوة عملهم في ظل افضليات وخرافات معينة حول الاخلاق والاقتصاد. الانحياز العام ضد التجار هو مثال على ذلك، هو خصص جزءا مهما من عمله لكشف المغالطات الكامنة في هذه المعتقدات. لكنه اعتقد ان الطريقة في التصدي للوعي العام الفاسد او الملتبس هي بوجود وعي عام اكثر وضوحا وهدفيةً: هو انتقد طريقتنا العادية في التفكير "من الداخل". هو اعتقد ايضا ان نكون واضحين –الجزء الصحيح من الوعي العام– بان كل المجتمعات تحتاج للحكومة لتنفيذ بعض الوظائف التي لا يستطيع الافراد القيام بها بأنفسهم. من بين هذه الدفاع وادارة القضاء، وكذلك ما نسميه اليوم "الخدمات العامة": مثل التعليم الذي يعود بالمنفعة الكبرى للمجتمع ككل.
هذا التصور لدور الحكومة يترك مجالا اكبر للناس الذين في اليسار (ليبراليو الرفاهية) بالإضافة الى فريق اليمين (التحرريون) للادّعاء بانهم ورثة سمث، رغم ان سمث يعارض اشتراكية الدولة، وربما يرى هذه الحركات المضادة للعولمة تعاني من سوء فهم عميق. تصوّر سمث لمحددات الوعي العام ايضا يترك مجالا واسعا للعلوم الاجتماعية بمختلف الانواع، رغم ان سمث سيقاوم مرة اخرى بعض المشاريع الاكثر طموحا لعلماء الاجتماع، مثل محاولاتهم الخطيرة في اعادة كتابة جزء مهم مما نعتقد به في الحياة العادية.
بالنظر لكل من السياسة والعلوم، كان ميراث سمث العظيم درسا في التواضع. رؤية سمث للممارسات اليومية للسياسة كانت متشائمة، وترفض الاعتقاد السائد بان طبقة عليا متنورة من البشر ستقودنا يوما ما الى عالم افضل. العلوم الاجتماعية لسمث كانت صُممت لتوضح لنا كيف انه حتى الناس العاديين يفهمون الظروف الاقتصادية التي حولهم مباشرة بطريقة جيدة بينما الخبراء لا يستطيعون معرفة جميع تفاصيل الاقتصاديات الوطنية من حيث القوة والضعف. في كلا المجالين، يجادل سمث بضرورة تكييف انفسنا لنواقصنا، وترك الامل في جعل عالمنا الاجتماعي تحت سيطرتنا الصارمة. تلك الرسالة الخطيرة هي بنفس اهمية اي شيء آخر اراد سمث تعليمنا اياه.
اضف تعليق