ستضعف شوكة تيارات وتنتعش تيارات أخرى، بناء على هذا المتغير إن وقع، وستصاب الصحوة السنيّة، ومعها مدراس من الإسلام السياسي السنّي بانتكاسة بعد انتعاش، وستتوفر للسوريين، من خارج مدرسة الحكم الجديد، فرصة إعلاء الصوت، والمطالبة بمكان لائق تحت شمس سوريا الجديدة، وسيمتد ذلك إلى عواصم عربية أخرى، تشهد سجالات...

لعل السؤال الأبرز الذي واجهني به كثيرون، بعد اندلاع الاحتجاجات في إسطنبول وغيرها من الحواضر التركية، على خلفية ما بات يعرف بـ"قضية أكرم إمام أوغلو"، هو كيف ستنعكس الأحداث التركية على المشهد السوري بملفاته المختلفة... قلة فقط، اهتمت بسؤال المظلوم والظالم، وندرة تساءلت حول مستقبل الديمقراطية الناشئة في تركيا، في ضوء المعطيات المتناقضة التي لابست القضية.

هو أمرٌ طبيعي من وجهة نظري، فسوريا بعد الثامن من ديسمبر، مركز جذب رئيس لاهتمام دول المنطقة وشعوبها وقواها السياسية والاجتماعية، ينافس الأحداث الكارثية المتلاحقة على ساحتي غزة ولبنان... وسوريا في ظل إدارة الشرع الانتقالية، تثير انقساماً بين تيارات الفكر والسياسة، تماماً مثلما ظلت تفعل منذ دخولها في ازمة ممتدة منذ أربعة عشر عاماً، حملت للبعض عنوان "الثورة"، وللبعض الآخر عنوان "المؤامرة"، ولقلة من المراقبين، حملت العنوانين معاً.

وهو ردّ فعل طبيعي كذلك، في ضوء النفوذ المتزايد لأنقرة في مختلف الملفات السورية، بعد التغيير الذي أطاح بحكم أسرة ممتد لأكثر من نصف قرن، لكأن لسان حال جمهرة السائلين والمتسائلين، يقول: إن أردت أن تعرف ما يجري في دمشق، فعليك أن تعرف ما يدور في ساحات إسطنبول ومحاكمها، وخلف كواليس مؤسسات صنع القرار في الدولة والمجتمع هناك.

هو الانقسام ذاته، وإن كان معكوساً، تستحدثه سوريا، بين إسلاميي المنطقة على اختلاف مدارسهم، وعلمانيييها من يساريين وقوميين وليبراليين... من قبل كانت جمهرة العلمانيين، تؤيد النظام وتنطق بلغة "المؤامرة"، وتعلي من شأن المقاومة والممانعة، على حساب مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، حتى وهي تدّعي الالتزام بها واستلهامها... أما جمهرة الإسلاميين، فقد غادروا مبكراً مربع الإشادة بـ"سوريا الأسد"، ما أن اندلعت شرارات "الثورة" وتبدّى للقوم، أن نظرائهم من إسلاميي سوريا والشتات، إنما يتموضعون في موقع القلب، والقيادة، منها... اليوم، يقف الإسلاميون إلى جانب النظام الجديد، ويقف مجادلوهم من العلمانيين في المنقلب الآخر من المعادلة السورية.

مبعث الأسئلة والتساؤلات، ينبع من القلق على مستقبل النظام الحاكم في تركيا، إن لم يكن على المدى الفوري والمباشر، فعلى مدى السنوات الثلاث الفاصلة حتى موعد الاستحقاق الرئاسية... خشي المتسائلون أو تمنوا، أن تنتهي مسألة أكرم أوغلو بتغيير النظام، وهو استنتاج متسرع في أحسن تقدير، ومتطير أو رغائبي في أسوئه.

لكن، وبصرف النظر عمّا إذا كانوا متعجلين في تطيرهم أو في البوح عن مكنونات رغائبهم، فإن أسئلتهم وتساؤلاتهم، تستثير العقل والمخيال، وتغري على رسم سيناريوهات والإدلاء بتقديرات وتوقعات، فيما لو حصل ما ليس في الحسبان، وغادر "العدالة والتنمية" مقاعد الحكم في الموعد المقرر، أو قبل ذلك بتبكير الانتخابات، وإليكم بعضاً ما دار في خلدنا.

سيناريو متخيّل

يشترك الطيف السياسي التركي، في الحكم والمعارضة، بموقف يكاد موحداً من "المسألة الكردية"، التي اندلعت وتفاقمت كما هو معلوم تاريخياً، زمن الحكومات العلمانية والعسكرية في تركيا الحديثة، وكان لحزب الشعب الجمهوري وحلفائه وبيئته الحاضنة، دوراً في إذكائها وتغذيتها، كانوا جزءاً من المشكلة، ولم يكونوا جزءا من الحل، وليس ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن "المسألة الكردية" في سوريا، سوف تكون في حال أفضل، إن تبدل الحكم وتغيرت قواعد اللعبة الداخلية في تركيا.

لكن شيئاً جوهرياً سيطرأ مع ذلك، سيكون له انعكاساته على سوريا بعامة، وأكرادها بصفة خاصة...تركيا تحت حكم العلمانيين والمعارضة، لن تكون سنداً لما يسمى "جيش سوريا الوطني" والفصائل المحسوبة على الإسلام السياسي، الجهادي بخاصة، وهذا بحد ذاته، سيقلب المعادلات والموازين الداخلية، رأساً على عقب.

تركيا المتحررة من إرث "العثمانية الجديدة"، ستكون أبعد عن دمشق في ظل نظامها الجديد، وعلمانيو تركيا كانوا أقرب لنظام الأسد الابن، من أي فريق تركي آخر، تدفعهم إلى ذلك نظرتهم لتركيا في محيطها الجيوسياسي والجيو-استراتيجي، من دون تقليل أو تهوين من أثر العامل "الهويّاتي" في تشكيل سياسة المعارضة التركية، وهو العامل الذي أشار إليه رجب طيب أردوغان في معرض نقده للحزب الجمهوري، وغمزه ولمزه من البعد المذهبي –العلوي- في تقرير مواقفه وتوجيه سياساته.

لن يكون هناك نموذجاً تركياً لـ"الإسلام السياسي"، تستحضره القيادة السورية الجديدة، أو تستلهم بعضاً من فصوله، بعد سنوات طوال من عمليات "إعادة التأهيل" التي تعرضت لها زمن الإمارة في إدلب، ولن تكون هناك رعاية تركية لهذا النظام، تصل حد التفكير والتخطيط لشراكة استراتيجية - طويل الأمد، مدعّمة بمروحة واسعة من المعاهدات والاتفاقات، وفي شتى الميادين.

لن تدير تركيا ظهرها لسوريا بالطبع، فهذا ترف لا تمتلكه السلطة ولا المعارضة في أنقرة، سيما بوجود ما يربو عن الـ 900 كم من الحدود، وملايين ثلاثة أو أزيد قليلاً من اللاجئين السوريين على الأرض التركية، إلى جانب جملة المصالح في حقول التجارة والطاقة والترانزيت والأمن والاستقرار التي ترفع كلفة إدارة الظهر لسوريا، لكن قواعد اللعبة بين البلدين، ستتغير مع أي تغيير سيطرأ على بنية الحكم والسلطة في أنقرة.

ستضعف شوكة تيارات وتنتعش تيارات أخرى، بناء على هذا "المتغير" إن وقع، وستصاب "الصحوة السنيّة"، ومعها مدراس من الإسلام السياسي السنّي بانتكاسة بعد انتعاش، وستتوفر للسوريين، من خارج مدرسة الحكم الجديد، فرصة إعلاء الصوت، والمطالبة بمكان لائق تحت شمس سوريا الجديدة، وسيمتد ذلك إلى عواصم عربية أخرى، تشهد سجالات محتدمة بين إسلامييها وعلمانييها، تفاقمت على وقع احتجاجات الشوارع والميادين، زمن ما كان "ربيعاً عربياً".

بهذا المعنى، يصبح السؤال التركي، سؤالاً محلياً بامتياز، في معظم إن لم نقل جميع، الدول العربية... وتصبح معه المخاوف مبررة والأماني مفهومة، ويصبح القلق بشأن "مظلومية" إمام أوغلو لغواً فائضاً عن الحاجة عن مناصري الإسلام السياسي، وشمّاعة يعلق عليها علمانيو بلادنا، كل آمالهم ورهاناتهم، وأحياناً خيباتهم.

أسئلة "إمام أوغلو" دفعت بالجميع، إسلاميين وعلمانيين، للكفّ عن بحث الأثر الذي استحدثته تحولات عبد الله أوجلان في سجن إمرالي، وهي تداعيات أرخت بسدولها على المشهدين التركي والسوري على حد سواء، وطاولت تأثيراتها، المشهدين العراقي والإيراني كذلك... تحولات وتداعيات، صبّت القمح صافياً في طاحونة "العدالة والتنمية"، وستحفر عميقاً في المشهد التركي، حين تتظهّر في قادمات الأيام، ولقد رأينا أولى إرهاصاتها في التقارب بين القامشلي ودمشق.

بالنسبة لكاتب هذه السطور، فإن قراءة المشهد التركي، باتت تكتسب أهميتها الأولى، من انعكاساتها على التطورات الجارية في فلسطين أولاً، وفي سوريا بالدرجة الثانية...لم تعد قراءة المشهد من منظر "التحول الديمقراطي ومعاييره" هي القضية الأَوْلى بالرعاية، في زمنٍ انهارت فيه قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، مع أول صاروخ أمريكي أسقطته الطائرات الإسرائيلية على رؤوس أطفال غزة ونسائها، وتعرّت خلاله المنظومات القيمية والأخلاقية في "موطنها الأصلي" على حد زعم دعاة "المركزية الأوروبية" العابرة للأطلسي... هذا ترف لا نتوفر عليه في زمن الأبارتيد والإبادة والتطهير العرقي، قبله كان يمكن لنا أن نحمل مبضع الجرّاح، ونشرع في تفكيك الحدث التركي، وفقاً لقواعد ويستمينستر ومبادئ ويلسون والميثاق وجنيف وكوبنهاجن الصارمة.

من هذا المنظور، ومنه فحسب، أحسب أن تركيا في ظلال العدالة والتنمية، وبزعامة رجب طيب أردوغان، هي أفضل لفلسطين، وقضيتها ومقاومة شعبها، من قوى علمانية في مظهرها، أطلسية في جوهرها... صحيح أن تركيا تحت أردوغان لم تغادر الأطلسي، بيد أنها كانت الأبعد عن مواقفه في كثير من المواقف والمواقع الخاصة بفلسطين والقضايا العربية... صحيح أنها "ما شالت الزير من البير"، بيد أن الصحيح كذلك، أن إسطنبول من بين مدن وعواصم قلائل، ما زال الفلسطيني يجد فيها متنفساً، حتى لا نقول موطئ قدم، في زمن ضاقت فيه الجغرافيا العربية بالفلسطينيين ومشروعهم ومقاومتهم.

ولست على يقين من أن التغيير في تركيا، إن حصل، سيدفع نحو تغيير للأمام في سوريا... لست فرحاً بالشرع ولا بإدارته الجديدة، بيد أنني لست على يقين، من أن انفلات المشهد في تركيا، سوف يقود إلى تغيير إيجابي في سوريا، يعزز وحدتها واستقلالها وسيادتها ويضمن رفاه أبنائها وبناتها... فالفوضى والانقسام والتقسيم، قد تكون حصيلة انفلات القواعد الناظمة لسوريا، إن صحت نظرية "تلازم المسارين" السوري والتركي، أو صدقت فرضية "وحدة الساحات" التي تجمع الطرفين بقوى وفصائل وأحزاب و"قوات رديفة"، تملأ الفضاء والساحات في سوريا والمشرق، ولست هنا لأنتقص من صواب النظرية والفرضية، حتى الآن على الأقل.

أياً يكن من أمر، وبصرف النظر عمّا يجري في تركيا، فهو متروك لأهلها يقررون بصدده ما يشاؤون وكيفما يشاؤون، أرى أن على سوريا في عهدها الجديد، اشتقاق طريقها الخاص للانتقال نحو شواطئ الأمان، بما يضمن وحدتها وسيادتها واستقلالها، ويدرأ عنها كيد المتربصين في تل أبيب، أصحاب مشاريع التقسيم والفيدراليات وحلف الأقليات، في ظل دولة قوية وعادلة، تقف على مسافة واحدة، من أبنائها وبناتها، من كياناتها ومكوناتها، فليس سوى السوريين من أهم أحق وأجدر ببناء بلدهم، وليس لغيرهم أن يملي عليهم، نموذجه الخاص، فهم أهل علم ومعرفة، ودراية وتصميم، وإبداع وابتكار.

اضف تعليق