تراكم فشل الإدارة السياسية بالقفز مرة إلى أفكار خارجية قومية او إسلامية او ماركسية او الانكفاء على تمايز طبقي في العدالة والانصاف لتوزيع الثروة الوطنية، او الاستغراق في مفاسد المحاصصة وامراء عوائل الأحزاب السياسية كما يحصل في عراق اليوم، أدى وسيؤدي الى عوامل ضعف في معايير قياس كفاءة إدارة السلطة...
تتفق تعريفات الموسوعات الاكاديمية لمفهوم الدولة بأركانها المعروفة، شعب يعيش على رقعة من الأرض بحدود سيادية معترف بها في نظام سياسي يعترف به الشعب لإدارة مصالحه.
وقد تنقل هذا المفهوم عبر التاريخ من دولة المدينة البابلية القديمة في قوانين حمورابي لتنظيم الري والريع والأمان المجتمعي، ثم في تداول مفهوم السياسة في العهود الاغريقية عند افلاطون وسقراط وظهور نموذج الإمبراطورية في غزوات الاسكندر الكبير، وصولا الى الحضارة الإسلامية التي أسست مفهوم الحكم بالخلافة وفق تفسيرات متعددة ما بين حاكمية الدين على الحكم الدنيوي والذي تطور الى نموذج مفهومي البيعة والتقليد لأحزاب الإسلام السياسي.
ومر هذا المفهوم بتطبيقات فكرية متعددة ما بين الفكر القومي ما بعد اتفاقية ويتسفاليا الأوروبية في القرون الوسطى ثم الأممية الشيوعية مترادفة مع الليبرالية الرأسمالية، وتضارب تطبيقات مصالح الدول وفق هذه الأفكار أدت كما يقول الجنرال البروسي كارل فون فلايتوفيتز في كتابه الوجيز في الحرب، الى فشل السياسة في إيجاد تلك الحلول الناجعة فانتهت الى هدر الدماء في حروب سرعان ما تعود ذات المصالح للظهور على طاولة المفاوضات لإنهاء ذات الحروب.
هكذا انتهى عالم "المنتصرون" ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية الى تأسيس مفهوم دولي لسيادة الدول والاعتراف المتبادل بحدودها لاسيما في ميثاق الأمم المتحدة الذي نص في المادة الأولى على إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام والعمل على تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء.
هذا النموذج من الاعتراف المتبادل بالمصالح "المشتركة" وتعزيز السلم المجتمعي وفق نموذج احترام حقوق الانسان، واجه عدة منعطفات لعل أولها في ظهور إسرائيل باعتراف " المنتصرون" في الأمم المتحدة، ناهيك عن احداث متعاقبة في مراحل حقبة الحرب الباردة بين القطبين الدوليين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية حتى سقوط جدار برلين والانفراد الأمريكي بالهيمنة الدولية حتى وصفت سياسات واشنطن بكونها مثل " النمر في مخزن خزف صيني".!!
كان لابد من هذه المقدمة قبل طرح التساؤلات الأساسية لفرضية هذا المقال، ما فلسفة الدولة العراقية ما بعد 2003؟؟ ولماذا لم تطبق تلك الحلول المستدامة لبناء عراق جديد كان الاغلب الاعم من العراقيين ينتظرون ان يكون ذلك هو التغيير المنشود؟؟ وهل القفز على الواقع السيادي بعنوان مقاومة العدوان الصهيوني وفق نظرية "الفيل والنملة" الفيتنامي حالة ممكنة التطبيق عراقيا؟؟
فرضيات سيادة دولة
في سياق ما تقدم، هناك خصوصية في الإجابات عما يمكن ان يكون في دولة "عراق واحد وطن الجميع" مقابل تشتيت جغرافية العراق البشرية وموارده الاقتصادية لتنتهي عند تضارب المصالح في تعريف العدو والصديق حتى تطابق توصيف استاذنا في العلوم السياسية الدكتور عامر حسن فياض الذي يكرر ان العراق بعد عقدين من التغيير لم يكن غير "دولة اشباح"!! وترى الدكتورة وصال العزاوي إنَ مناقشة فرضيات التأسيس التوافقي العراقي انما تعامل مع "الفرضية الرمزية" وتتمثل بهوية الوطن والمواطن، و" الفرضية المؤسسية" التي تتمثل بالبناء المؤسسي للمؤسسات الدستورية والقانونية والسياسية ووحدة القرار السياسي وصناعة السياسات الحكومية، و "الفرضية المجتمعية" المتمثلة باحترام حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع الأهلي والمدني، و "الفرضية النظمية" وتتمثل بتوصيف النظام السياسي العراقي: الديمقراطية التوافقية والفيدرالية. وتشير العزاوي الى ان الفرضية الأولى عجزت عن بناء الاستقطاب المجتمعي العمودي ورسخت الخطاب السياسي المحدد بشريحة اجتماعية معينة، وهذا خلق حالة من التمزق العاطفي، بعبارة أدق تسيس الهويات الفرعية الاجتماعية (الطائفية والمحلية والاثنية) على حساب الهوية الأم الجامعة والمعبرة عن المستوى الوطني الجمعي.
اما الفرضية الثانية وتتمثل بهشاشة البناء المؤسسي، فعملية التوافق العراقي لم تبنَ على أساس الإيمان بالديمقراطية التوافقية وشروطها وآليات عملها وانما على أساس الصفقات والمساومات والاتفاقيات سواء المعلن منها أو غير المعلن ورسخت أسس المحاصصة بل عملت جاهدة على اعتبارها قواعد للاجتماع السياسي في العراق.
تناقض دستوري
عراقيا، اعتمدت فلسفة الدولة المعبر عنها في الدستور العراقي قاعدتين متناقضتين كليا، التي اعتبرت ان الاسـلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع وفق عبارة "لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام" مقابل عبارة "لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية" بل أضاف واضعي الدستور انه "لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور".
هذا التناقض النظري عندما تحول الى وقائع تطبيقية، تقدم التطبيق العملي للإسلام السياسي بمفهومي البيعة والتقليد مقابل فشل تطبيقات الأحزاب المدنية في الوصول الى اغلبية سياسية، فشلت الأحزاب العراقية في تامين بناء دولة تحترم سيادتها إقليميا ودوليا، بل هناك من يعتبر ان هذه الأحزاب قد ضيعت سيادة الدولة لصالح مفاهيم الاستقطاب العمودي للمجتمع سياسيا ولم تنجح تفاهمات مؤتمر لندن ومن ثم مجلس الحكم في صياغة مشروع "عقد اجتماعي" لدولة عراق واحد وطن الجميع، وهكذا برزت تطبيقات تقديم الهويات الفرعية على الهوية السيادية للدولة، ابرز مثال على ذلك، تقديم تطبيقات محور المقاومة الإسلامية على سيادة الدولة، في عمليات حركية داخل الدولة وفي صميم إدارة مؤسساتها، تقديم علاقات الاحزاب مع أي اطراف دولية وإقليمية على سيادة الدولة، عدم الاتفاق الوطني على تعريف العدو والصديق، وفي محاولة مقاربة كل هذه المعطيات مع نموذج تحليل النظم السياسية يبدو من الممكن القول :
أولا: في نموذج "لعبة الأمم" لابد من فهم أصول اللعبة لصالح استراتيجية دولة وليس لصالح أحزاب متضاربة المصالح، فأزمات تشكل الحكومات العراقية المتكررة في كل دورة برلمانية تنطلق من عدم تعامل الجميع مع هدف استراتيجي واحد يتمثل في ديمومة تعريف صريح للعدو والصديق في قواعد التعامل الدولي والإقليمي تلتزم به جميع الأطراف، وان تضاربت مصالحهم في نتائج انتخابات، فيما واقع الانتخابات العراقية انتج وربما يستمر في انتاج نموذج كتل برلمانية تتعامل مع قواعد قوى شعبية ليس بعناوين عراق واحد وطن الجميع بل بعناوين اثنية ومذهبية، مما يفقد الدولة قدرات التعامل الدولي لصالح استدامة الأهداف الاستراتيجية، والاكتفاء بردود الأفعال فقط وابسط مثال على ذلك الصراع الأمريكي الإيراني على الساحة العراقية ونتائجه السلبية على سيادة الدولة.
سلطة دولة ام محاصصة؟؟
ثانيا: رغم تعدد نماذج إدارة السلطة ما بين المطبخ الوزاري ونموذج مجلس الوزراء الموسع، او نموذج اجتماعات تحالف ادارة الدولة او الإطار التنسيقي، الا ان المأسسة في إدارة كل ذلك من خلال الجهاز التنفيذي في الدولة لاسيما الامني، تخالف نموذج إدارة السلطة في نظام المحاصصة لتوظيف جميع العناصر المتاحة في قواعد التعامل الدولي والإقليمي لصالح تلك المنظومات متضاربة المصالح في المحاصصة وتعظيم مواردها، حتى وان كانت في النتائج ضد المصالح السيادية للدولة العراقية.
ثالثا: في كل نماذج التحليل في فلسفة الدولة، هناك دائما رأس يمتلك كل مقومات الإدارة وفق معايير دقيقة غير متحزبة، كما ان تسمية الوزراء لا يخالف معايير الخبرة المتخصصة لاسيما في الوزارات القطاعية، هذا الحاجز الفاصل بين الانتماء الحزبي والعمل الوظيفي واضح في عمل المؤسسات الحكومية، فيما العكس هو صحيح في النموذج العراقي للمحاصصة ومظاهر الفساد السياسي والمجتمعي والإداري والمالي تكفي لتوضيح هذا التباين.
رابعا : استدامة نقل الأفكار الى التطبيق، يؤشر أهمية فهم الابعاد الفكرية لكل الشخصيات العراقية في نقل الاجندات الحزبية الى تطبيقات في قواعد العلاقات الإقليمية والدولية، لان تباين الأفكار أولا والتطبيقات ثانيا، والتعامل مع النتائج ثالثا، تؤدي الى محصلة واقعية تؤسس لفشل نموذج المحاصصة، كل مساعي إعادة النظر في قانون الانتخابات وفصاله على مقاسات الأحزاب لإنتاج مكاسب برلمانية يمكن توظيفها على قواعد التعامل الإقليمي والدولي، بأهداف تتجاوز سيادة الدولة الى تبني اهداف ايران او تركيا او السعودية ناهيك عن مواقف أمريكا وروسيا والصين والاتحاد الأوربي وكل منه يدافع عن مصالحه في الشرق الأوسط ومنه العراق. في هذا السياق، تظهر المقاربة في إدارة الموارد الاقتصادية ما بين اقتصاد المعرفة والاستثمار فيه، وبين إدارة الاقتصاد النفطي الريعي، وما فيه من معضلات انتهت الى هدر مليارات الدولارات في موازنات كبيرة على مدى عقدين من الزمن. من كل ما تقدم، يطرح السؤال الجوهري، من يريد محاربة إسرائيل والقضاء عليها وتحرير فلسطين، عليه ان يبدأ أولا في بناء دولته والحفاظ على سيادتها، والا فان جميع الأفكار، اختلفنا معها ام اتفقنا، تبقى مجرد أفكار يدور حولها مريدون وأصحاب مصالح حزبية، يمكن إدارة نشاطاتهم نحو صناديق انتخابات وفي التجمعات الشعبية خلال المناسبات السياسية ولكنها لا تنتج دولة عراق واحد وطن الجميع. ويمكن الاستنتاج بالقول:
أولا: تركت القوى المحتلة للعراق وراءها إرثًا من الصراعات الطائفية والعرقية "الملل والنحل" التي سيطرت على السلطة والأراضي. هذا النموذج القديم تحول اليوم إلى "إقطاع سياسي" يكرر ذات الصراعات لكن تحت عناوين جديدة تُقدسها بعض الأطراف التي تتبنى الإسلام السياسي.
ثانيا: يحتاج العراق إلى اتفاق سيادي واضح يُعرّف الأعداء والأصدقاء بشكل لا لبس فيه. هذا الاتفاق يجب أن يكون جزءًا من إعلان دستوري ينبثق عن مؤتمر مصالحة وطنية حقيقية، يُرسخ منهجية سياسية جديدة تقوم على مبدأ "عراق واحد وطن للجميع".
ثالثا: تراكم فشل الإدارة السياسية بالقفز مرة إلى أفكار خارجية قومية او إسلامية او ماركسية او الانكفاء على تمايز طبقي في العدالة والانصاف لتوزيع الثروة الوطنية، او الاستغراق في مفاسد المحاصصة وامراء عوائل الأحزاب السياسية كما يحصل في عراق اليوم، أدى وسيؤدي الى عوامل ضعف في معايير قياس كفاءة إدارة السلطة.
رابعا: الخيار الأكثر واقعية هو إعادة تشكيل العملية السياسية على أسس الإصلاح الشامل. هذه العملية يمكن أن تكون:
1. طوعًا: عبر توافق وطني شامل يعيد العراق إلى مساره الطبيعي كدولة موحدة ذات سيادة.
2. قسرًا: عبر تدخل خارجي، سواء كان تركيًا بدوافع استعادة الإرث العثماني، أو صهيونيًا مباشرًا بأدوات أمريكية أوروبية.
ثالثا: غياب نموذج "عراق واحد وطن للجميع" سيترك البلاد عرضةً لانتهاك جديدة، في ظل غياب رؤية استراتيجية موضوعية، لان “النملة والفيل" كاستراتيجية قتالية ضد المصالح الامريكية في فيتنام أواسط الحرب الباردة، ليست قابلة للتطبيق في عراق اليوم، ما دام الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا يسمح بذلك. مع كل هذا السعي خلف السلطة ومكاسب المحاصصة، فيما المقابل، يجب أن يتبنى العراق مشروعًا وطنيًا شاملًا يستند إلى الواقعية السياسية، الإصلاح الشامل، والتوافق الوطني، للخروج من هذا المستنقع عبر التاريخ.
اضف تعليق