الإصلاح الاجتماعي ضرورة حياتية لابد من إقامتها في المجتمعات اسلامية وغير إسلامية فالمجتمع الذي يسعى للمثالية عليه أن يحقق الإصلاح الاجتماعي على جميع الأصعدة. التعاون بين الأفراد يُساعد على تحقيق الإصلاح، وإلى جانبه يجب نبذ التباغض والعداء والتحاسد. لم يكن الدستور الإلهي بمنأى عن الإصلاح الاجتماعي، وقد حمل...

يتطلَّع الإنسان بطبيعته الفطرية التي جبله الله تعالى عليها إلى الإصلاح، فالإصلاح غريزة فطرية غرسها الله تعالى في ذات الإنسان؛ فصار ينشدها ويحثُّ عليها ويسعى في الوصول إليها، ومن جهته هو اجتماعيٌّ بطبعه؛ إذ يشعر بحاجته إلى المجتمع وهمُّه أن يكون مؤثراً فيه، فانسجامه في المجتمع يتطلب منه أن يرتبط بالآخرين، وكذلك يفتح مسامات وأخاديد لارتباط الآخرين به، وكذلك يكون الجميع تحت أُطر القانون العام الذي يخضعون له، لأنَّهم من دون قانون سيعيشون تحت نير الفوضى وتأخذهم أمواج الفتن فتنحلُّ عُرى تواصلهم وتواشج أواصرهم.

والإصلاح الاجتماعي يقع على عاتق صاحب المسؤولية، وقد وضع الإسلام الحنيف المسؤولية على الجميع، فقد جاء ذلك على لسان خاتم الأنبياء وسيدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قوله: "كلُّكُم راعٍ وَكُلُّكُم مسْؤولٌ عَنْ رعيَّتهِ"، فوُضِعت المسؤولية على الجميع، فكان الإصلاح الاجتماعي مسؤولية تضامنية يأخذ بحجزتها الجميع، وفي ذلك يقول السيد محمد الشيرازي (قدس سره): "الاجتماع الذي يحتاج إليه الإنسان، يضم جهتين: التعاون: حيث كل واحد من أفراد الإنسان يحتاج إلى غيره في مأكله ومسكنه ومشربه، وسائر شؤونه.

 وأيضاً جهة دفع التباغض والتحاسد والعداء: حيث إنَّ الاجتماع بحاجة إلى قوانين تدفع مشكلاته، وبما إنَّ الإنسان بكل أصنافه؛ أي الشعب والنخبة، والدكتاتور، لا يتمكن من وضع القوانين الصحيحة والمتكاملة، فلابدَّ أن يكون الواضع للقوانين بهذه المواصفات الكاملة، هو الله سبحانه وتعالى، وبذلك يتمكن الإنسان من أن يعيش حياة سعيدة" فينطلق السيد الشيرازي من التواشج المجتمعي لبيان تفاعلات الترابط بين أواصره التي بها لا يمكن للقوى الخارجية أن تفرض عليه سيطرتها ما دام متكتِّلاً ويشدُّ بعضه بعضاً.

 فأشار -سماحته- إلى ضرورة التعاون بين قوام المجتمع ابتداءً من التعاون بين الافراد إلى الأسرة إلى الجماعات إلى المؤسسات إلى الدولة إلى المحيط الدولي إلى القارة إلى العالم، وبما إنَّ الإنسان خُلق محتاجاً لغيره؛ فكان عليه إبداء التعاون مع الآخرين، لأنَّ التعاون يُبرز الوجه المشرق للمجتمع وتتبد فيه التناحرات.

 وكذلك أشار -سماحته- إلى الجهة الثانية التي بها يزداد فتل العضد في الأمَّة وفي المجتمع، وهي: دفع التباغض والتحاسد والعداء، إذ كل مجتمع مهما علا طولاً أو هبط أفقاً يُشتته التباغض والحسد والعداء، وبالتالي يسهل السيطرة عليه ونفث السموم بين أفراده.

 وهذه الرؤية هي رؤية قرآنية، فقد ذكر القرآن الكريم مواضع عدَّة للإصلاح، وجاءت كلمة الإصلاح قرينة لمفاهيم أخرى في القرآن الكريم وجعل كلمة الإصلاح قوام تنفيذ الأخرى، منها:

1-التوبة مع الإصلاح: 

جاء الصلح قرين التوبة واشترط الله تعالى بلزوم الإصلاح للتوبة، ومن دونه لا تُقبل، وهذا ما جاء في قوله تعالى: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(المائدة/39)، وقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(الأنعام/54)، فالتوبة من الظلم تستلزم إصلاحاً لتقويم ما اعوجَّ بسبب ظلمهم. وهذه الآية فيها من الرؤى المعاصرة الكثير، لأنَّها جاءت في سبيل الاطلاق في سياق الشرطيَّة، وجاء جواب الشرط بالـــ(فاء +إنَّ) التوكيدية لبيان شدَّة الأمر وثقل التوبة، فاحتاجت إلى إصلاح لتخفيف الوطء.

2-الإيمان مع الإصلاح:

 يطلب الإنسان الرقي في حياته ليصل إلى أسمى درجة في المجتمع، وهذا شامل لكل مناحي الحياة الإنسانية، فالعقيدة تبدأ بالإسلام، ولمَّا يترقى الإنسان بالتزاماته وتأديته لفروض الله وطاعته والتسليم المطلق لله تعالى ويتمسَّك بما جاء به الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يرقى إلى درجة الإيمان، ولكنَّ الله تعالى أشار إلى شرط لا بدَّ من وجوده لتحقق ماهيَّة الإيمان، وذلك في قوله: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(الأنعام/48)، فالإيمان بلا إصلاح يكون أجوفاً وربما لم تتحقق درجته، فاللّازمية والملزومية بين الإيمان والإصلاح كالروح مع الجسد؛ ما إن ينفك أحدهما عن الآخر يموتان كلاهما، حيث تنماز الأولى بالتجردية وعدم القدرة على الماديات، وينماز الآخر بالماديَّة وعدم القدرة على الماورائيات والمجردات، فالارتباط بينهما لابدّ منه.

3-التقوى مع الإصلاح: 

لو تدبرنا بتسلسل الآيات المباركات لوجدنا فيها من المراقي والسلالم التي يتدرج بها الإنسان ليصل إلى الأفضلية، فمن التوبة إلى الإيمان إلى التقوى، وكل شِقٍ من هذه المراقي يتصل الإصلاح بها اتصالا يكاد يكون مباشراً باشتراطه معها، فالتقوى إيضاً اشترط الله تعالى معها الإصلاح، فلا تقوى لمن لا يسعى ويعمل على إصلاح المجتمع، وجاءت التقوى مع الإصلاح في قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(الأعراف/35)، (تابَ وأصلح)، (آمن وأصلح)، (اتقى وأصلح) والواو بين اللفظين تفيد الترتيب والتشريك والبيان، فقد قدَّم الله تعالى الأهم على المهم، ولكن أشار إليه باللزومية التي لا تتحقق الأولى إلى بوجود الثانية، وهذه الآية المباركة وجهت النداء إلى (بني آدم) فكل بني البشر يقعون تحت طائلة الخطاب، فالتقوى لا تقتصر على الدين وإنَّما التقوى بالعدل التقوى بالاحسان، التقوى بالقسط، التقوى من الظلم، التقوى من الحيف،....إلى آخره.

4-الخلافة والإصلاح:

 وهذه مرتبة أرقى من سابقاتها، فالذي يتوب ويؤمن ويتقي يحصل على التأهيل للوصول إلى الخلافة السلطوية، وهذه (الخلافة) هي الأخرى يلزم بتلابيبها الإصلاح، فمتى ما انفكَّ عنها الإصلاح سقطت الأهلية عن الخليفة، وجاءت الخلافة مع الإصلاح في قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(الأعراف/142)، فنبي الله هارون (عليه السلام) وصل إلى مرتبة الأهلية، ومع ذلك يوصيه النبي موسى (عليه السلام) بالإصلاح لما للإصلاح من أهميَّة كبيرة، ولعلَّ وصيته لأخيه هارون (عليهما السلام) من باب (إيَّاكِ أعني واسمعي يا جارة) لأنَّ النبي هارون لا يحتاج إلى الوصية.

5- العفو مع الإصلاح:

 إذا وصل الإنسان إلى درجة التأهل للخلافة؛ بهذا سيقع على عاتقه تحمُّل المسؤولية، وسيكون بيده سلطة، فعليه أن يعفو عن المسيء مع إصلاحه، وإلى ذلك أشار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده الشريف لمالك الأشتر (رضوان الله عليه): "وأشعِر قَلْبَكَ الرَّحمةَ للرَّعيَّة واللُّطْفَ بِهِم" لأنَّ الناس تحت يد السلطان سيكونون ضعفاء؛ فعليه أن يقدِّم العفو والصفح قبل العقوبة، وقد جاء العفو مع الإصلاح في قوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (الشورى/40)، فالإصلاح يجب ان يُرافق العفو والصفح، لأنَّ العفو من دون اصلاح سيؤدي إلى التمادي بالأخطاء وتكرار الظلم.

نستنتج مما سبق:

1-الإصلاح الاجتماعي ضرورة حياتية لابد من إقامتها في المجتمعات -اسلامية وغير إسلامية- فالمجتمع الذي يسعى للمثالية عليه أن يحقق الإصلاح الاجتماعي على جميع الأصعدة.

2-التعاون بين الأفراد يُساعد على تحقيق الإصلاح، وإلى جانبه يجب نبذ التباغض والعداء والتحاسد.

3-لم يكن الدستور الإلهي بمنأى عن الإصلاح الاجتماعي، وقد حمل رؤى إصلاحية صالحة للتنفيذ في كل زمان ومكان.

4-السُّلَّم التكاملي للإصلاح يبدأ من الفرد الذي يقلع عن الذنوب بالتوبة ثمّ يترقى إلى الإيمان بفكرة الإصلاح ثمَّ يترقى ليصل إلى دفع الأضرار بالتقوى ثمَّ يترقَّى إلى الوصول للأهلية التكاملية التي تؤهله للحصول على المسؤولية السلطوية.

5- الإصلاح لازم لكل المناحي الحياتية للإنسان وهو مغروس بفطرته وينشده في كل زمان ومكان.

6-كل التطورات التي حصلت عليها الشعوب بدأت بالإصلاح الاجتماعي والثورة على الطائفية والتنابز والتناحر إلى التعايش وقبول الآخر تحت شعار: (الوطن للجميع).

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق