كأن عيون أمي امتلأت دموعا كالنار، وصمتُ أبي كأنه صراخ احتبس في صدره. أخوتي الصغار كانوا يرتجفون، عيونهم مليئة بالرعب والأسئلة: لماذا يأخذونه؟ لماذا لا نستطيع إنقاذه؟ كانت لحظة شعرت فيها أن العالم كله قد توقف، وأن الكون كله لم يعد آمناً. كل نظرة منهم كانت تقول: لا تذهب...
"بتصرف عن قصة الأستاذ جميل الفارس "مقابر بلا قبور"
في ظهيرة حارة من شهر أيار (مايو) عام 1981، كنت أسير بين أزقة قريتي "مزيرعة"*، محاولًا التظاهر باللامبالاة، لكن القلق كان يجتاحني.
الأيام الماضية كانت ثقيلة، إذ اختفى أصدقائي واحدًا تلو الآخر. كانت سيارة الأمن الغامضة، بركابها المجهولين، تظهر فجأة وتختطفهم دون سابق إنذار. كل يوم كان يجلب معه خوفًا جديدًا، وكل ليلة كانت تحمل معها أسئلة بلا إجابات: من سيكون التالي؟ ولماذا يحدث كل هذا؟
كنت أحاول أن أبدو طبيعيًا، كأن شيئًا لم يتغير، أتعمد السير في طرقات القرية وأختلط بالجيران الطيبين. لكن العزلة كانت تكبر حولي.
أزقة القرية والمزارع المحيطة بها بدت موحشة، مع أن الجميع كانوا هناك. كنت أعلم أنني لست بمأمن، لكنني لم أكن أعرف ماذا أفعل غير الاستمرار في المشي، محاولًا إقناع نفسي بأنني سأكون بخير.
كنت صغيرا قياسا بالهمّ الذي وقع على كاهلي، فأنا ما زلت طالبا في المرحلة الإعدادية، أفكر بوالدي ووالدتي وأسرتي.
ماذا سيحل بهم، وكيف يمكن أن تنتزعني كفّ الرعب من حضن أسرتي الدافئ وأنا أشعر انني لم أرتوِ بعد من أهلي وأحبتي، وماذا سيحل بي في أقبية السجون؟
تساؤلات تؤرقني ليل نهار فتزيد من قلقي ولا أجد طريقا للخلاص منها سوى انتظار الحدث القادم!
فكل خطوة كنت أخطوها كانت تحمل معها خطر الاختفاء، وكل نظرة خاطفة نحو السيارة الغامضة كانت تذكرني بأنني قد أكون التالي.
لم أكن أتصور أن لحظة اعتقالي ستكون بهذه الوحشية. في ليلة قاتمة اقتحم رجال الأمن بيتي تحت جنح الظلام، كأنهم زلزال هدم سقف الأمان فوق رأسي. صرخ أحدهم:
- أنت مطلوب! لا تحاول المقاومة!
كأن عيون أمي امتلأت دموعا كالنار، وصمتُ أبي كأنه صراخ احتبس في صدره. أخوتي الصغار كانوا يرتجفون، عيونهم مليئة بالرعب والأسئلة: لماذا يأخذونه؟ لماذا لا نستطيع إنقاذه؟ كانت لحظة شعرت فيها أن العالم كله قد توقف، وأن الكون كله لم يعد آمناً.
كل نظرة منهم كانت تقول: "لا تذهب، لكن القوة الغاشمة كانت تسحبني بعيدًا، وكأنني أغرق في ظلام لا قاع له، وهم يقفون عاجزين عن إنقاذي."
قبل أن أتمكن من النطق بحرف، انهالت عليّ قبضاتهم، سحبوني من يدي كأنني جثة هامدة، وألقوني في صندوق سيارة، بين العتمة والرائحة الكريهة التي كادت تخنق أنفاسي.
عندما توقفت السيارة في مخابرات القرنة، سمعت صوتًا مألوفًا، كان صديقي حيال غضبان سهيم يسحبونه الى الخارج بعنف. وقد جاءوا به قبلي.
لم نمكث طويلاً في أقبية سجن المخابرات في القرنة. سرعان ما نقلونا معصوبي الأعين وموثوقي الأيدي إلى حيث لا نعرف. أركبونا في سيارة مكشوفة، ووضعوا فوقنا قطعة قماش تستخدم كغطاء للسيارات، ثم وضعوا فوقنا إطارًا حتى لا نبدو من الخارج.
انطلقت بنا السيارة، وكنت أشعر بالاختناق مع كل حركة. الإطار كان يقفز فوق جسدي كلما وقعت السيارة في مطب، ويستقر على ظهري كصخرة عظيمة حين تستقر السيارة في مشيها، ولم أستطع دفعه عني.
تساءلت: ما مقدار الوحشية التي يملكها هؤلاء؟ وما هو الدافع لكل هذا الحقد الذي يمنحهم كل هذه القسوة؟ عرفت لاحقًا أنها الطائفية المقيتة، التي حولت قلوبهم إلى حجارة.
خمّنت أن السيارة انطلقت بنا ساعة تقريبا قبل ان تتوقف. كان جسدي النحيف يؤلمني بشدة، فقد تعرضت لكدمات قاسية جرّاء الإطار الذي وضعوه على جسدي.
حين توقفت السيارة وازالوا العصابة عن عيوننا أدركت انني في مديرية أمن البصرة، المبنى بدا كقلعة حصينة، لكنه كان في الحقيقة مسلخًا للبشر.
صراخ السجناء في غرف التحقيق يملأ قاعات الاعتقال، وكأن السجانين يتعمدون إسماعه للجميع لإثارة الرعب في نفوسهم وإضعاف معنوياتهم.
جاء دوري، فأدخلوني احدى غرف مخصصة للتحقيق. وقف أمامي ضابط يحدّق بي بعينين خاليتين من الرحمة.
- أخبرنا دون لفٍّ او دوران عن علاقتك بحزب الدعوة حتى لا نضطر الى ان نعاملك كما الآخرين.
كنت بالكاد أستطيع الوقوف، جسدي كله يصرخ من الألم، لكنني تمسّكت بالصمت. كان الضابط يراقبني كصيّاد يترقّب ضعف فريسته.
حين شعر بأنني لم اكّترث للتهديد وليس لدي ما أبوح به، أمر رجاله بتعليقي على الكنارة، وهي حديدة مثبتة في السقف، تعلق بها الأجساد حتى تنهار من الألم. عندما رُفعت عن الأرض، شعرت كأن أضلاعي تتمزق.
- اعترف وسأطلق سراحك.
هكذا همس الضابط، لكني عرفت أنها خدعة توريط لكسب الاعتراف دون جهد، فبقيت صامتا.
بعد ساعات من العذاب قضيتها معلقا في الكنارة، انهار جسدي، وغبت عن الوعي. ولم اشعر الا بعد ساعات حيث القوني في احدى قاعات الاعتقال.
بعد أيام نقلونا الى بغداد في سجون متنقلة. كانت سيارة مصممة لتكون على شكل زنزانات حديدية مرعبة يعاني فيها السجين من الاختناق والتعب.
وهناك تكررت حفلات التعذيب عدة مرات وبعد أيام أسابيع من العذاب، أُخذت إلى زنزانة تحت الأرض. كانت الغرفة ضيقة، بالكاد تتسع لمن فيها. أكثر من تسعين معتقلًا محشورين مثل قطع اللحم داخل قبر جماعي. كانت الجدران تتنفس الرطوبة، والروائح لا تطاق.
عند الزاوية، رأيت وجهًا مألوفًا. كان طالب عبد السادة مؤنس، أحد أصدقائي القدامى. اقتربت منه، لكن صوته كان بالكاد مسموعًا.
- جميل… ماذا فعلوا بك؟
أردت أن أخبره أنني بخير، لكن الحقيقة كانت أبعد ما تكون عن ذلك.
في تلك الليالي، تعلمت أن الموت قد يكون أرحم من الحياة. كان المعتقلون يتساقطون واحدًا تلو الآخر، بعضهم بسبب الجروح غير المعالجة، والبعض الآخر لأن أجسادهم لم تعد قادرة على التحمل.
ذات ليلة، سمعت اسم حيال غضبان يُنادى. نُقل إلى التحقيق، لكن هذه المرة لم يعد. بعد ساعات، سمعنا صوت إطلاق نار بعيد. نظرنا لبعضنا البعض، وقرأنا في عيون بعضنا الحقيقة المؤلمة.
ذات يوم، اقتادوني إلى غرفة التحقيق مجددًا. كانت الجروح القديمة ما زالت تنزف، لكنهم لم يهتموا. أمامي كان الضابط نفسه، يحدّق بي بابتسامة خبيثة.
- جميل الفارس، لديك خياران: أن تعترف، أو أن نلقيك في بطن الحوت.
ضحك بصوت عالٍ، ووضع أمامي ورقة كتب عليها اعتراف بأني عضو في حزب الدعوة.
رفضت التوقيع، وفجأة، فُتح الباب، ودخل أحد أصدقائي. وجهه مشوهٌ من الضرب والتعذيب، وعيناه متورمتان بشكل غريب.
- أنا مسؤول جميل الفارس في التنظيم.
قال صديقي بصوت منهار، ويبدو أنه أُجبر على قول ذلك تحت التعذيب.
التفت إليّ الضابط قائلاً، وهو يضحك بشماتة:
- اعتراف صديقك سيجعلنا نرميك في بطن الحوت.
لم أعد أرى جدوى من الإنكار. لكنني لم أرغب في الاعتراف أيضًا. فجأة، انهالت عليّ الهراوات من كل صوب وشعرت بجسدي ينهار مجددًا.
لا أدري كيف يعيش هؤلاء الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا جلادين، وكيف يواجهون أنفسهم وأولادهم وزوجاتهم وكل دورهم في الحياة تعذيب الناس؟!
في النهاية، أمسك الضابط بيدي، وضع القلم بين أصابعي المتيبسة، وحركها فوق الورقة.
- ها أنت قد اعترفت بأنك عضو في حزب الدعوة.
قالها، ثم أمر بإعادتي إلى الزنزانة.
لم أكن مقتنعًا ولو للحظة واحدة أن الانتماء لحزب سياسي أو ديني يكون سببًا لكل ما شهدناه من تعذيب وكل حملات الإعدام التي جرت. فالدولة ليست ملكًا لصدام، ولا هي ملك لحزب البعث.
نحن أحرار في بلدنا، أليس من حقنا أن نمارس العمل السياسي ونؤسس أحزابًا؟ لماذا هذا الحق حكرٌ على صدام وممنوعٌ عن غيره؟
مرّت الأيام، وكنت أنتظر الإعدام فهو المصير المحتوم للتهمة الموجهة لي. ومن وقت لآخر كان يتم استدعاء معتقلين ينقلون فلا يعودون وفي إحدى الليالي، نادى الحارس اسمي.
مشيت في الممر الطويل، يداي مقيدتان، وجسدي يترنح. فتح الحارس القفل ببطء، وتوقعت أن تكون هذه هي النهاية.
لكن، على غير المتوقع، تم اقتيادي إلى زنزانة انفرادية. كان المكان معتمًا، لكنني أدركت أنني ما زلت على قيد الحياة. يبدو أن اسمي لم يكن على قائمة الإعدام… بعد.
بعد سنوات، وبسبب ظروف سياسية وأمنية استجدت في البلاد خرجت من السجن، لكن السجن لم يخرج مني. حملت معي جراحًا لا تلتئم، وذكريات لا تُمحى.
اضف تعليق