العالم يتغير بسرعة من حولنا، والاستجابة لهذه المتغيرات، لم تعد خيارا يمكن قبوله أو رفضه، بل هي متطلبات عاجلة لإدارة الدولة عبر تشكيلات حزبية حديثة ذات أهداف تنموية قبل الأهداف الفكرية والأيديولوجية. الحزب الحديث شرط لدولة حديثة ديمقراطية. والحزب الناجح هو الحزب الذي يولد بمتطلبات مجتمعية محلية وليس صدى واستنساخاً لأفكار الخارج...

(تكمن الأزمة تحديداً في أن القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد. وفي ظل هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية غاية في التنوع). تنتسب هذه المقولة إلى المفكر الماركسي الايطالي انطونيو غرامشي ( 1891 -1937)، الذي اشتهر بتحليلاته العميقة للأزمة التي عانت منها ايطاليا، بل كل أوروبا في مرحلة ما بين الحربين العالميتين. الأزمة في حينها كانت تتجسد في حالة الكساد الاقتصادي وصعود احزاب اليمين لاسيما، الفاشية الايطالية والنازية الالمانية، واتجاه الاحزاب الشيوعية إلى مزيد من التطرف اليساري للرد على تطرف اليمين القومي. وبين اليسار المتشدد واليمين المتطرف، ظهرت اعراض مرضية (والتسمية لغرامشي) في سياق التخبط والضياع الذي كان مهيمنا على سلوك السياسيين والناشطين، بسبب غلبة ردود الافعال والمساعي الرامية للخلاص من الاستقطاب الخطير.

حالة أوروبا ما قبل الحرب العالمية الثانية، وحالة البلدان العربية بعد تلك الحرب، تعيد تذكيرنا بما نعيشه هذه الأيام. فالأحزاب والأفكار القديمة صارت عقيمة، انفض عنها الجمهور وفقد ثقته بها، والدولة تعاني مشكلات وازمات مزمنة، تعيد الطبقة السياسية تدويرها وترحيلها، والأجيال الجديدة ضائعة. لا تأثير لفكر أو أيديولوجيا سياسية عليها، حيث يسهم الفضاء الالكتروني بتشكيل وعيها بكل ما يكتنف ذلك من اضطراب مفاهيمي وخلط تاريخي واختزال وتشويه وعدم دقة، لكن الأصعب من ذلك هو الخشية على الدولة ومجتمع هذه الدولة من الانكسارات والازمات، التي تثير المخاوف والقلق، وتقتضي تغيرا لتصحيح المسارات.

أحوال العراق الراهنة- رغم كل الجهود المبذولة لتحسين الاداء وتفكيك المشكلات - تشي بالحاجة إلى حراكات نخبوية، حسب مطالبات بيان المرجعية الدينية بعد لقاء المرجع السيستاني مع ممثل الأمم المتحدة محمد الحسان، لإنعاش الحياة السياسية وتجديد الطواقم الحكومية والادارية، ووضع البلاد على طريق التنمية الشاملة، التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية. القوى السياسية الراهنة، بشيوخها وشبابها، بأجيالها المتعددة، وأحزابها القديمة والجديدة، وزعاماتها التقليدية توقفت عن صناعة بدائل مقبولة للوضع القائم، الانتخابات التي تكرر نفسها ما أفقدها القدرة على اقناع الجمهور ببرامجها وشعاراتها وأفكارها.

ثمة حراكات صامتة تجري في احشاء المجتمع العراقي، تقوم بها نخب مختلفة، لبناء تصورات وتأسيس بنيات لعملية العبور من القديم السياسي القائم إلى الجديد الضروري، والحقيقة أن القديم يحتضر فعلا كما يقول غرامشي لكن حتى يولد الجديد لا بد من تجاوز العقل السياسي القديم، بالقطيعة مع متبنياته وخطوطه الحمر ومعاركه التاريخية وخصوماته السياسية. الحراكات الجديدة مطالبة بأن تكون متوافقة مع ما يحتاجه المجتمع من أفكار وقيم وأخلاقيات سياسية، وأن تستجيب لمتطلبات ادارة دولة حديثة ترتكن إلى القانون والمؤسسات، وقادرة على تنفيذ اصلاحات أو تغييرات جريئة، فالعراق في عين عاصفة التغييرات والاستحقاقات السياسية، والاستجابة لهذه التحديات منوطة بعقل جديد راكم فهما لما يجري في الاقليم والعالم من متغيرات، ويمتلك حدسا قويا بما ستحدثه الموجة الراهنة من الشعبوية واليمينية واللا متوقع من تفاعلات النظم السياسية والتحديات الاقتصادية.

العالم يتغير بسرعة من حولنا، والاستجابة لهذه المتغيرات، لم تعد خيارا يمكن قبوله أو رفضه، بل هي متطلبات عاجلة لإدارة الدولة عبر تشكيلات حزبية حديثة ذات أهداف تنموية قبل الأهداف الفكرية والأيديولوجية. الحزب الحديث شرط لدولة حديثة ديمقراطية. والحزب الناجح هو الحزب الذي يولد بمتطلبات مجتمعية محلية وليس صدى واستنساخاً لأفكار الخارج.

اضف تعليق