أحاطت المكان تلال رمادية بدت كأهرامات بعيدة. أُمِر الجميع بالجلوس بسيل من الشتائم والسباب وتوزع المسلحون على مسافات متباعدة، وهم يطوقون المكان بإحكام. انبرى شخص متوسط القامة يرتدي بدلة عسكرية خضراء داكنة ويحمل شارات على كتفه. عيونه الغائرة مستديرة كعيون جرذ برّي ماكر، وأنفه مستطيل على غير تناسق...
كربلاء مطلع آذار 1991.. علي، شاب في السادسة عشرة من عمره، نحيل البنية، ذو سحنة سمراء، وشعره الأسود الكثيف يتدلى على حاجبيه. لكن عينيه الحادتين تحكيان طيات من العذاب والتحدي، كما لو كانتا كتابًا يروي قصة أليمة.
أُجلِسَ علي في سيارة مكشوفة، كانت واحدة من بين ثلاث سيارات محملة برجال من مختلف الأعمار، بينهم كهول ويافعون لم يبلغوا أشدهم بعد. اختطفهم رجال غلاظ من داخل حرم الإمام الحسين بعد اقتحام حرس صدام لمدينة كربلاء وقمع ثورتها.
السيارات تنهب الطريق الترابي نحو الصحراء مبتعدة عن المدينة، محاطة بعجلات تحمل رجالاً غلاظًا، غرباء عن المكان، ولا يعطفون على من فيه.
أثارت سرعتها الغبار الذي لفّ وجوه المخطوفين، فأغمضوا عيونهم اتقاءً للغبار. في تلك اللحظة، انثالت الذكريات على مخيلة علي، كأنها تخفف عنه وطأة المجهول الذي ينتظره.
إنه هناك، بين البساتين وفي الطرقات الملتوية التي تتخلل منازل جيرانه، يلهو مع أقرانه في عصر ضاحك.
وهو بين أخوته ووالدته، في ليلة عائلية آمنة، يستمع إلى أبيه وهو يروي قصة كربلاء؛ القصة التي بدأت برفض الإمام الحسين مبايعة الحاكم الظالم، وقبول التضحية بكل شيء في سبيل دينه وقيم الله.
والدهُ رجل في الستين من عمره، كان قارئا لقصة واقعة الطف في منطقته، قبل أن يمنع البعثيون الشعائر الحسينية.
لطالما تجمع الناس حوله يروي لهم كيف وقف الحسين وحيدًا في مواجهة الظلم. منعوه، فجعل من بيته مجلسًا حسينيًا يروي القصة الأليمة لأسرته.
كانت والدة علي تبكي بحرقة، وتطرق برأسها كلما وصف والده موقف الحسين وهو محاط بالأعداء ويطلب النصرة فلا ينصره أحد.
كم تمنى علي لو كان حاضرًا في كربلاء، ليقف بجانب الإمام ويدافع عنه. لكنه الآن، في هذه الصحراء، يشعر بالوحشة وقلة الناصر ويحيط به أنصار الحاكم الظالم مدججون بالسلاح والحقد الطائفي.
فجأة، ارتطم جسده النحيف بالجدار الحديدي للسيارة التي اهتزت بعد أن غارت إطاراتها في مطب عميق. توقفت للحظة، ثم واصلت سيرها في الصحراء المترامية، محفوفة بالتساؤلات التي لا إجابة لها.
أطرق علي مرة أخرى، واضعًا رأسه على ركبتيه، ويداه المقيدتان إلى الخلف تشدان حركته. بجانبه، جلس رجل كهل، تروي تجاعيده قصصًا من سنوات بعيدة، ولحيته البيضاء المنسدلة تذكر علي بوالده.
لم يتوقف الرجل عن ترديد الاستغفار والآيات القرآنية طوال الطريق، كأنه يبحث عن عزاء في كلمات الله وسط هذا الرعب. من وقت لآخر كان أحد الغلاظ ينهره محاولا إسكاته طالبًا منه التوقف عن الاستغفار والذكر.
تذكره علي! إنه الرجل الكهل نفسه الذي التحق بالشباب المدافعين عن الحرم، وأصر على البقاء معهم، ليدافع عنه، وكان يصرخ فيهم "كربلاء مدينة الحسين تحيطها ذئاب صدام المفترسة، فدافعوا عنها".
فيزيد الشباب حماسا وثورة. لكن معظمهم سقط وهو يدافع عن الحرم حين أطلقت الدبابات قذائفها نحوهم، وأُلقي القبض على من تبقى منهم بعد أن نفدت ذخيرتهم.
تناثرت جثثهم حول المنائر والقباب، كأوراق خريفية نثرتها الرياح قرب جذوع الأشجار اليابسة.
ويستمر شريط الذكريات يستعرض نفسه في مخيلته قبل أن يقطعه صراخ أحد الغلاظ طالبًا منه الترجل من السيارة.
وجد علي نفسه في أرض رملية جرداء صامتة لا يعكر هدوءها الموحش إلا صوت الريح تلهو ببعض الحشائش الخاوية.
أحاطت المكان تلال رمادية بدت كأهرامات بعيدة. أُمِر الجميع بالجلوس بسيل من الشتائم والسباب وتوزع المسلحون على مسافات متباعدة، وهم يطوقون المكان بإحكام.
انبرى شخص متوسط القامة يرتدي بدلة عسكرية خضراء داكنة ويحمل شارات على كتفه. عيونه الغائرة مستديرة كعيون جرذ برّي ماكر، وأنفه مستطيل على غير تناسق.
صُفَّ المختطفون أمامه، فصاح فيهم بتحدٍّ وازدراء "تدافعون عن الحسين، صحيح؟ حسنا، أنا حسين كامل وهو حسين ابن علي، هل رأيتم كيف انتصرت عليه؟! من منكم مع الرئيس صدام، ومن منكم مع الحسين؟".
حسين كامل كان صهرا لصدام، واحد أبناء عمومته، رقّاه من نائب عريف شبه أمي الى رتبة جنرال في الجيش، ثم وزيرا للتصنيع العسكري، كان طائفيا الى درجة الجنون لا يعرف إلا لغة الكراهية والتعصب.
"من منكم مع الحسين" كررّ حسين كامل السؤال ثانية، فشعر علي وكأن السؤال موجه له دون غيره، بَرقت في ذهنه صورة واقعة الطف.
كأن الحسين يصيح بالقوم "ألا من ناصر ينصرنا، ألا من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟" فنهض بقوة وانتصب مثل سيف خرج من غمده، واقفًا صارخًا بوجه الجميع "أنا مع الحسين".
ذُهل حسين كامل من شجاعة الصبي، فطالما ظن أن المختطفين الضعفاء المحاطين بأنصاره وسط صحراء قاحلة سيتوسلون إليه ويطلبون منه الصفح ويعلنون ولاءهم لصدام.
لكنه فوجئ بصبي لم يبلغ أشده يتحداه ويعلن انضمامه لقافلة الحسين، فأمسك حسين كامل سلاحه بجنون وصوبه نحوه فأرداه قتيلاً.
وبقسوة ممزوجة بالقلق، يتوجه حسين كامل مرة أخرى نحو المخطوفين قائلاً "هل ما زال فيكم من يريد الالتحاق بالحسين؟"
كان يخشى من تحدٍ آخر يمرّغ جبروته بالوحل ويظهر عجزه أمام صبية عُزّل إلا من عشقهم التضحية في سبيل ما آمنوا به.
فوقف شاب آخر يقارب عليًّا في العمر وقال بتحدٍّ" أنا مع الحسين". وبينما هو يمشي باتجاه جثة عليّ، أرداه حسين كامل قتيلًا برصاصات من بندقيته.
أردى حسين كامل ضحاياه. لكنه لم يشعر بالنصر، بل أكلت الهزيمة أحشاءه، وغادر المكان كما لو كان مهزوما، كما خرج صدام من الكويت قبل أيام من تلك الواقعة في هزيمة مدوية.
غادر المكان وترك الجثث محاطة بمساء قاتم، عارية وسط صحراء شهدت عبر التاريخ أحداثًا مماثلة.
اضف تعليق