آراء وافكار - مقالات الكتاب

اليوجينيا وانحلال الغرب

فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي- آرثر هيرمان

«اليوجينيا» تفحص المشكلة من الجانب الآخر، حيث تبحث ضرورةَ تغيير الإمكانيات البيولوجية للإنسان؛ لكي يتمكَّن من الحياة ومن الازدهار في المجتمع الحديث، لكن اليوجينيا مدينة بجزء كبير من سُمْعتها السيئة لارتباطها بالنازية؛ إذ بفضل الحل النهائي عند هتلر، أصبح لمصطلح الصحة العرقية صدًى رهيبٌ، ولكن حركة اليوجينيا بدأت...

اليوجينيا (علم تحسين النسل )٧١⋆ والدولة

«اليوجينيا» ستكون أحدَ تلك الحلول. علماء اجتماع ما بعد الليبرالية، وعلماء الاقتصاد والفلسفة مثل «دوركايم» في فرنسا، و«جوستاف فون شموللر» Gustav von Schmoller في ألمانيا، و«توماس هل» جرين Thomas Hill Green في إنجلترا، أعادوا فحصَ ذلك التداخل والتقاطع بين المجتمع الحديث والإنسان الحديث من جانب التطوُّر الاجتماعي في المعادلة، وحاولوا هم ونظراؤهم أن يبيِّنوا كيف أنَّ الظروف الاجتماعية للإنسان يمكن أن تؤدِّيَ إلى تغيُّر أساسي في جميع أعضاء المجتمع، بل ويمكن أن تُنقذ الحضارة من نفسها، «اليوجينيا» تفحص المشكلة من الجانب الآخر، حيث تبحث ضرورةَ تغيير الإمكانيات البيولوجية للإنسان؛ لكي يتمكَّن من الحياة ومن الازدهار في المجتمع الحديث، لكن «اليوجينيا» مدينة بجزء كبير من سُمْعتها السيئة لارتباطها بالنازية؛ إذ بفضل «الحل النهائي» عند «هتلر»، أصبح لمصطلح «الصحة العرقية» صدًى رهيبٌ، ولكن حركة «اليوجينيا» بدأت معتدلةً كمحاولة تصحيحية وتقدُّمية لما كان يُعتقد أنه التدهور الفسيولوجي الذي يتهدَّد أوروبا وأمريكا، وكانت جزءًا من جهد كبير لإقامة ما كان يُطلق عليه الليبراليون التقدميون في ستينيات القرن التاسع عشر «الاقتصاد الاجتماعي»، أي مجتمع منسجم يمكن أن يقضيَ على التفاوت وعدم التكافؤ الناشئ عن الرأسمالية الحديثة.

 حركة الإصلاح الاجتماعي كلها في أوروبا والولايات المتحدة، بدءًا من الصحة العامة وإزالة الأحياء الحقيرة، إلى الاعتدال وعدم التطرُّف وتحرير المرأة، كانت دائمًا وثيقةَ الصلة باليوجينيا، وقائمة على نفس افتراضات ما بعد الليبرالية،٧٢ أما موطن ميلاد حركة «اليوجينيا» فكان إنجلترا «دارون»، وأسرة «دارون» نفسها، ابن عمه «فرانسیس جالتون» Francis Galton هو الذي سكَّ المصطلح في عام ١٨٨٣م، كإشارة إلى علم استيلاد الأطفال الجيدين. كان «جالتون» يُصرُّ دائمًا على أنَّ اليوجينيا ليست سوى الجانب العملي للدارونية النظرية.

وإلى جانب دارونيِّين آخرين، مثل «توماس هكسلي» Thomas Huxley كان «جالتون» قلقًا بخصوص الجانب «الارتدادي» المظلم في عملية التطوُّر، ولكن مخاوفه كانت محدودةً وذات أساس اجتماعي.

كان يُقلقه أنَّ المواهب العقلية والقدرات التي تعمل على تقدُّم الحضارة ليست موزَّعةً بالعدل في المجتمع الحديث، وواقعة تحت تهديد دائم بسبب النموِّ السكاني المتزايد في مدن إنجلترا.

إنَّ نشأة «الإنسان العام»، الذي كان «بوركهارت» يراه انتصارًا للمتوسطية الثقافية Cultural Mediocrity، كان يبدو بالنسبة ﻟ «جالتون» ضمانًا للمتوسطية البيولوجية Biological Mediocrity كذلك، ولكي يوضح توزُّع الذكاء بين جمهور السكان، قدَّم «جالتون» رسمًا تخطيطًا مستخدِمًا منحنًى يُشبه الجرس، في طرف من المنحنى توجد العبقرية الوراثية، وفي الطرف الآخر البلاهة الوراثية، واستنتج أنَّ هناك شخصًا واحدًا بين كل أربعة آلاف شخص، يمتلك المواهب الضرورية لتقدُّم الحضارة.

الأغلبية الكبيرة أظهرت ذكاءً متوسطًا. أما إذا كان أعضاء تلك المجموعة الأكثر موهبة: (القضاة، رجال الدولة، رؤساء الحكومات، رجال الدين، ضباط الجيش، العلماء، الأكاديميون، الكُتَّاب، الموسيقيون و- للغرابة - المصارعون وأبطال التجديف) قد فشلوا في التكاثر بأعداد كافية، فإن النتيجة ستكون الكارثة الاجتماعية.٧٣ هذه الفجوة الوشيكة في الموهبة كانت مرتبطةً بمخاوف «جالتون» من الآثار المدمِّرة للمجتمع الحديث، مستبقًا مخاوفَ «دوركايم» من الحضارة المفرطة، كان «جالتون» قلقًا لأن بريطانيا الصناعية كانت تتسع بسرعة شديدة، وتصبح أكثر تعقيدًا لدرجةٍ تفوق قدرةَ البشر على مجاراتها. «المواطن العادي أقل من أن يقوم بالأعمال اليومية في الحضارة الحديثة.»٧٤ 

كانت البيئة الاجتماعية الحديثة تُسبب إرهاقًا شديدًا للقوى الحاملة لمادة التطوُّر البشري وبأكثر مما تحتمل، وكان كل شيء يدل على أنَّ مَن هم أفضل لا يجدون أنفسهم، بينما المتوسطون والأسوأ متحققون. وبالنسبة ﻟ «جالتون» وآخرين من علماء اليوجينيا، كان النموُّ السكاني العادي قد أصبح شكلًا للانتخاب الطبيعي السلبي،٧٥ وقد شرح عالم «داروني» آخر متأثِّرًا بنفس المخاوف، وهو «إدوين لانكستر» Edwin Lankester كيف أنَّ المجتمع يتهدَّده «التكاثر المتزايد للأفراد المهملين، واليائسين، والأشد فقرًا، والأقل مقدرة وغير المرغوب فيهم من المجتمع»، الطبقات الدنيا ستُصبح «عامة» طفيلية، طبقة دنيا دائمة من «الدراكيولا البروليتارية تأكل النسيج الاجتماعي للمجتمع الصناعي»،٧٦ 

وكان الحل في اليوجينيا، أما الخطة فكانت بسيطة جدًّا. «إذا تزوَّج رجال موهوبون بنساء موهوبات … جيلًا بعد جيل … يمكن أن نُنتجَ جنسًا أفضل»، ونقضي على خطر الارتداد أو العودة إلى نموذج السلف البدائي. وكان لليوجينيا ميزة لا تُقدَّر، لتصحيح انحلال الغرب بطريقة علمية وإنسانية. وهكذا أعلن «جالتون» أنَّ «اليوجينيا تتعاون مع أفعال الطبيعة لتضمن أنَّ الإنسانية سوف تمثِّلها دائمًا الأجناس الأصلح»، «ما تفعله الطبيعة على نحوٍ أعمى وببطء وبطريقة قاسية، يمكن أن يفعله الإنسان بتدبُّر وبسرعة وبشفقة.»٧٧

ولكن ليس كيفما اتفق؛ فقد طوَّر «جالتون» نظامًا معقَّدًا لتحديد الناس الأكثر موهبةً بين السكان البريطانيِّين، وكذلك الأقل موهبة - «المعتوهين والبلهاء» - بناء على مواصفات يمكن ملاحظتها ودراستها وقياسها ومقارنتها وحفظها. بحماس شديد، أدخل نفسه في فسيولوجيا دماغية بنفس طريقة «لومبروزو»، مسلِّحًا نفسَه بجهاز لإنتاج صور مركَّبة للنماذج البشرية المثالية أو «الأنماط» التي تمثِّل الجريمة، الموهبة، الغباء. بالإضافة إلى اليهودية، حاول أن يرسم «خريطة جمال» لبريطانيا عن طريق حساب الملامح المحبوبة في السكان (لندن أعلى نسبة وابردين الأقل) كما حاول - حتى - أن يضع دليلًا كميًّا لقياس السأم، وكما يقول أحد الدارسين المحدثين: «إنَّ بحث «جالتون» دفع التفسير الفيزيقي للثقافة إلى حدِّه الأقصى.»٧٨

في البداية، في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، لم يلقَ بحثُ «جالتون» أيَّ صدًى، وفيما بعد، ساعدَت المخاوف من الانحلال على ظهور دعم قوي ليوجينيا «جالتون» بين الراديكاليِّين والاشتراكيِّين، بمن فيهم «برنارد شو» Dernard Shaw، و«ﻫ. ج. ويلز» H. G. Wells، «سیدني»، و«بياتريس ویب» Sidney & Beatrice Webb من الجمعية الفابية، وعالم الجنس «هافيلوك إيليس» Havelock Ellis، والداعية النسوية «مارجريت سانجر» Margaret Sanger، أما المعارضة العنيفة وأشد نقَّاد «جالتون» فكانوا من المحافظين الدينيِّين والكاثوليك. الرسالة المسيحية التقليدية: «كن مثمرًا وتكاثر» بدَت قديمةً ولا أمل منها بالنسبة ﻟ «جالتون» وغيره من علماء اليوجينيا وربما خطرة، في عالمٍ يتهدَّده الانحلال. ومثل تنظيم النسل فيما بعد، كان من المفترض أن تُقدِّم «اليوجينيا» مقابلًا مضادًّا للمفاهيم القديمة والضالة عن التكاثر البشري.٧٩

جزء من دعوة «جالتون» الراديكالية، كان أنه لم يعرف الأكثرَ موهبةً بأنهم الأفضل مولدًا، وإنما على العكس استبعدهم تحديدًا من الطبقات الاجتماعية. يقول أحد زملائه: «الطبقة والثروة الموروثتان بلا جهد وفي أمان ودَعَة، تُفضيان إلى إنتاج ذرية واهنة وغير ذكية.»٨٠

«اليوجینيا «جالتون»، مثل الشعبية الذكورية، عند «نوردو» حوَّلت جميع الأرستقراطيِّين إلى متحلِّلين في حالة كمون (في فترة حضانة أو تفريخ)، قد لا يصبحون مثل الكونت «دراكيولا» بالضبط، ولكن من المؤكَّد أنهم سوف يناسبون نموذجَ «أوسكار وايلد»: بشر مولودون للكسل، بكثير من التشوُّهات العصبية المختلفة والأذواق الجمالية المنحلَّة. بعد ذلك بوقت ما، سيتحوَّلون إلى جماعة من «برتي ودوستر» Bertie Wooster، بعقول بليدة، وأكتاف ضيفة وذقون مدفونة، وعلماء اليوجينيا بشكل عام متفقون على أنَّ الطبقة الحاكمة الأوروبية، كانت بالوراثة، نتاج إفلاس جيني، تمامًا مثل المتخلِّفين عقليًّا أو «البلهاء المنغوليِّين» أو الأيرلنديِّين.»٨١

أحدثت «اليوجينيا» تحوُّلاتٍ أخرى غير عادية خلال أَوْجِها القصير؛ حيث اهتدى إليها كثيرون،٨٢⋆ كما حقَّقت كذلك بعض «النجاحات» في مجالات مثل التعقيم الإجباري للمتخلِّفين عقليًّا، والمرضى العقليِّين في كلٍّ من إنجلترا والولايات المتحدة قبل أن يبدأ الحماس والدعم العلمي في الانحسار، إلا أنَّ الضربة القاصمة لليوجينيا جاءت فقط مع اكتشافِ كذبِ كلِّ النظريات العِرقية كأساسٍ يعتمد عليه العلم الاجتماعي.٨٣

وبحلول الحرب العالمية الثانية، كانت «اليوجينيا» قد فقدَت كلَّ زخارفها التقدمية والعلمية والسياسية في العالم الناطق بالإنجليزية، واستوعبَتها تشاؤمية «جوبينو» العِرقية.


التحوُّل نفسه حدث قبل ذلك في القارة؛ حيث امتزجَت «اليوجینیا» بمؤثِّرات متنوِّعة، مختلفة تمامًا عن المؤثِّرات الليبرالية الوضعية التي كان لها أثرٌ على «جالتون». وإذا كان علماء «اليوجينيا» البريطانيِّين والأمريكيِّين قد انجذبوا نحو الجانب البسيط منها - تشجيع الحكومة على الإنجاب الانتقائي - فإن أقرانهم في القارة الأوروبية كانوا وراء الجانب «الصعب»، والذي يتضمَّن الإجهاض والتعقيم والقتل الرحيم، Euthanasia٨٤⋆ وقتل الأطفال،٨٥ كان «كريتيان فاشر دولابوج» Chrétien Vacher de Lapouge عالم الأنثروبولوجيا السويسري والمتأثِّر بآراء «جوبينو» العرقية، عضوًا بارزًا في الجمعية الفرنسية لليوجينيا، ومؤلِّف كتاب «الانتقاء الاجتماعي» ١٨٩٦م الذي دعم رؤية متصلِّبة عن الانتقاء الطبيعي تتضمَّن القتل الرحيم، وقتل الأطفال.٨٦ أما «لودفيج فولتمان» Ludwig Woltmann فكان ماركسيًّا بالعقيدة، ولكن حماسه ﻟ «دارون» حوَّله في النهاية إلى يوجينيا عرقية يؤدِّي فيها الانتقاء الطبيعي الذي تنظِّمه الدولة إلى العدالة الاجتماعية، وإلى إعادة تأكيد تفوُّق الجنس الآري. كلاهما - «وولتمان» و«لابوج» - كان قلقًا جدًّا بخصوص الاضمحلال الثقافي الغربي وكذلك الانحلال. وكلاهما كان متحمِّسًا شديد الحماس لاشتراكية الدولة، أو أفضل شكل للحكومة وأقدره على اتخاذ الخطوات التصحيحية الضرورية لبرنامجٍ جادٍّ لتحسين النسل. وكلاهما أيضًا وضع اليهود الأوروبيِّين كهدفٍ مهمٍّ لبرنامجٍ مضادٍّ للانحلال كهذا.

بعد عام ١٨٨٠م، وخاصة بعد محاكمة «درایفوس» في عام ١٨٩٣م، كان اليهود يُعرفون، على نحو متزايد، بأنهم في مقدمة المنحلِّين في أوروبا، تحت مجهر نظريات مرض الانحلال، أظهر اليهود ميلًا وراثيًّا نحو كل أمراض الحياة الحديثة مثل الهيستريا، والاضطرابات العصبية والزُّهْري، وكان بعض المنظِّرين يرى أنَّ اليهود - بالفعل - زنوجُ أوروبا.٨٧ وكانت الاتهامات منتشرة لدرجة أنَّ «سيزار لومبروزو» الذي كان يهوديًّا اضطُرَّ لدحضها قائلًا إنَّ معاداة السامية ذاتها، كانت شكلًا من أشكال الانحلال.٨٨ ولسوء الحظ فإن هذا الجدل لم يُقنع أحدًا، وبدأت الأحزاب المعادية للسامية تقوى في فرنسا، وألمانيا، والنمسا،٨٩⋆ ولكي يقاوموا تلك الادعاءات والمخاوف، قام «رادولف فيركو» Rudolf Virchow عالم البيولوجي الألماني الشهير والعضو المؤسِّس لجمعية الأنثروبولوجيا الألمانية بإجراء دراسة واسعة على جماجم أطفال المدارس الألمانية لكي يرى أيها كان من أصل يهودي وأيها لم يكن. وقد أظهرت النتائج التي نُشِرت في عام ١٨٨٦م (بعد ١٥ سنة)، وبشكل قاطع، أنه لم يكن هناك فرقٌ فسيولوجي بين اليهود وغير اليهود، وأنَّ النمط العِرقي «التيوتوني» - الشعر الأشقر والعيون الزرق - كان يمثِّل أقل من ثلث سكان الإمبراطورية الألمانية، التي كانت بالفعل تضمُّ يهودًا كثيرين.

كان «فيركو» وهو ليبرالي كلاسيكي، يعتقد أنه قد وضع نهايةً لأسطورة العرق الآري أو التيوتوني إلى الأبد، ولكن دراسته كانت عرضةً لعاصفة من الهجوم الرافض، بما في ذلك اتهامه بأنه كان يهوديًّا، (ولم يكن). على أية حال، فإن آراء «فیركو» المعارِضة للعِرقية فقدَت أرضيتها في الدوائر الأنثربوبولوجية والبيولوجية الألمانية مع اقتراب نهاية القرن. وبدلًا من ذلك، أصبح خصم «فیركو» الرئيسي، وهو «إرنست هایكل» Ernst Haeckel الشخصية القيادية في كلٍّ من اليوجينيا الألمانية والبيولوجية العِرقية. كان من مواليد ١٨٣٤م، عالم حيوان في جامعة «جينا» حيث جاء بنظريات «دارون» إلى ألمانيا للمرة الأولى. وكانت أبحاثه في العرق تحمل ملامحَ الجو الفكري ﻟ «لومبروزو» والمختبر، أكثر مما كانت تعبِّر عن «الجوبينوويين» الجدد. يقول في كتابه الأكثر تأثيرًا «لغز الكون» ١٨٩٩م: إنَّ الحضارة الحديثة بما صنعَته من تقدُّم علمي وتكنولوجي واسع، قد اكتسبَت شخصيةً تطوُّرية تمامًا، إلا أنها لم تُحقِّق - في الوقت نفسه - أيَّ تقدُّم في المبادئ الاجتماعية والأخلاقية، وإنَّ المؤسسات والافتراضات القديمة نفسها كانت كما هي في مكانها وخاصة الدين - الذي كان «هایكل» يُكِنُّ له امتعاضًا خاصًّا - والأخلاق الفردية والمحظورات التقليدية المتعلقة بالجنس.

والنتيجة أنَّ «الخرافة والجهل يسودان بدلًا من الصواب والعقل»، وقد لاحظ «هايكل» أنَّ «إحساسًا غير مريح من التمزُّق والزيف» كان يخيِّم على أوروبا في آخر سنوات القرن، مطلِقًا المخاوفَ «من كارثة عظمى في عالم السياسة والاجتماع»،٩٠ كما كان يقول إنَّ جذور هذا القلق كانت هي نفسها جذورَ جميع الأخطاء التي تتخلَّل الثقافة الأوروبية التقليدية: النظرة المركزية-البشرية anthropocentric التي ترى أنَّ الإنسان كيانٌ خاصٌّ ومنفصل إلى حدٍّ ما عن بقية الطبيعة.

«زعمُ الإنسان المغرور اللامحدود ضلَّله، وجعله يعتبر نفسَه «صورةً لله»، وأنه يستحق حياةً أبدية، ويتصور أنه يمتلك حريةَ إرادة لا نهايةَ لها، «الإنسان الحديث لا بد أن يتخلَّص من هذا «الوهم المستحيل»، إذا كان يريد أن يحقِّق مصيره الحقيقي. إنسان «هايكل» الجديد هو «واحد» تمامًا مع الطبيعة ومع الإيكولوجيا».»٩١⋆ (مصطلح من اختراعه)، وتاريخ الحضارة الغربية عنده بكامله، هو جزء واحد من «تاريخ سلالة الفقاريات» الذي وضعه في ٢٦ مرحلة تطوُّرية من تكوُّن الجزيئات الكربونية إلى الإنسان المنتصب القامة Homo erectus. كان «تشارلز دارون» قد جعل التطوُّر البيولوجي وظيفةً للانتقاء الطبيعي، والذي كان يعتبر الميكانيزم الحقيقي للتغيُّر في الطبيعة. أما في فلسفة «هايكل»، فإن العكس هو الذي يحدث تمامًا، الانتقاء الطبيعي، صراع الحياة والموت على السيادة والقوة يصبح وظيفةً للتطوُّر ونظامًا واحدًا للنموِّ العضوي يتخلَّل الطبيعة كلها، وهو ما كان يُطلِق عليه «هایكل» مصطلح اﻟ: Monism الأحدية٩٢⋆ وبالرغم من أنَّ «هايكل» كان يسخر من الصيغ الرومانسية القديمة للمذهب الحيوي، إلا أنَّ نظرته الأحدية للطبيعة والمجتمع كانت مشبعةً بها، كانت «الأحدية» حيوية٩٣⋆ عميقة الحتمية، تتحرَّك فيها كلُّ القوى نحو «كل» واحد، يضمُّ أيضًا المجتمع الإنساني بداخله. كتاب «لغز الكون» بِيعَ منه مائة ألف نسخة في العام الأول لصدوره، وبنهاية الحرب العالمية الأولى كانت قد صدرَت منه عشر طبعات وتُرجِم إلى خمس وعشرين لغة.

وأسَّس «هایكل»: «الرابطة الأحدية» التي نشرَت رسالةَ التطوُّر والانتقاء الطبيعي بين الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى والطبقة العاملة الألمانيَّتَين، كما أصبح «هايكل» متحدِّثًا رسميًّا عن «الیوجینیا» كمفتاح نحو إنسانية جديدة متَّحدة ولائقة بيولوجيًّا. الإنجاب الانتقائي العلمي، القتل الرحيم،٩٤ التحصُّن ضد عناصر الانحلال٩٥- مثل الزنوج واليهود - أصبحت دوافعَ اجتماعيةً لا بد أن تتجه إليها الدولة لإنقاذ الحضارة.٩٦ أما الخصوم الليبراليون مثل «فيركو» فقد اتَّهموا اليوجينيا الحيوية الحتمية عند «هيكل» بأنها ترسم الطريق نحو الدكتاتورية الاشتراكية، وقد أنكر «هایكل» ذلك بشدة، فلم تكن آراؤه - بأي معنًى - بدايةً للشمولية أو حتى للنازية. ورفض - باحتقار - آراءَ كُتَّاب مثل «هوستون تشمبرلين» الذي ظهر كتابُه «أسس القرن التاسع عشر» في العام نفسه الذي ظهر فيه «لغز الكون»٩٧⋆ لكن عندما رعى قطب التسليح الألماني العظيم «ألفرد كروب» Alfred Krupp مسابقةً لكتابة مقال في عام ١٩٠٠م، موضوعه: «ماذا يمكن أن نتعلَّم من مبادئ الدارونية لتطبيقه على التطوُّر السياسي المحلي»، نجد أنَّ جميع المتسابقين تقريبًا يؤكِّدون على أهمية توسيعِ دور الحكومة من أجل تحويل المصير الفيزيقي للجنس الألماني، وإلا فإننا «سنُصبح جميعًا مثل اليهود» … كما أشار أحدُ المتسابقين.

 بعد أربع سنوات، تأسَّست «جمعية الصحة العِرقية» ﺑ «ارنست هايكل» رئيس شرف لها. وفي عام ١٩٠٧م كان هناك أكثرُ من مائةِ فرعٍ لها في كل أنحاء ألمانيا. بعد الحرب العالمية الأولى، انضمَّ كثيرٌ من علماء اليوجينيا والبيولوجيا العرقية إلى الإجماع المتنامي على أنَّ مستقبل ألمانيا السياسي كان في حاجة إلى نوع من اشتراكية الدولة. وكانت إحدى أولويات تلك الدولة المستقبلية - كما زعموا - هو إيجاد سياسة تعتمد «اليوجينيا» و«الانتقاء» الخاضع للسيطرة، من أجل الحفاظ على الجنس الألماني.

لم يكن كلُّ علماء اليوجينيا الألمان معادين للسامية، «ألفرد بلویتز» Alfred Ploetz مثلًا، الذي أسَّس جمعية الصحة العرقية في عام ١٩٠٤م كان يقول إنَّ اليهود آریون، وكان من المعجبين ﺑ «فرانسيس جالتون»، وهو الذي سكَّ مصطلح «الانتقاء الخاضع للسيطرة»، مشيرًا إلى بديل أكثر إنسانية للانتخاب الطبيعي عند «دارون»؛ وذلك لكي يتمكَّن البشر في مجتمع متحضِّر من تكاثر النوع، دون خوف من كارثة «جينية»، بما في ذلك الانحلال.٩٨

لكن الدفعة الرئيسية للرأي السياسي كانت في اتجاهٍ أكثرَ راديكالية، مع النجاح العام لكتاب «تشمبرلین»: «الأسس»، والقوة السياسية للجماعات مثل رابطة «كل ألمانيا». ورغم أنَّ العلماء الذين كانوا قلقين بخصوص الانحلال الفيزيقي اليهودي حاولوا أن ينأَوا بأنفسهم عمَّا كانوا يُطلقون عليه «الدعاية العرقية الفجة»، إلا أنَّ أحد أعضاء «جمعية الصحة العرقية» البارزين وهو «إیوجین فیشر» Eugen Fischer أطرى بشدة على كتاب «لودفيج شيمان» عن نظريات «جوبينو»، العرقية عند ظهوره في عام ١٩١٠م، كما أنَّ «شیمان» نفسه أصبح عضوًا في جمعية الصحة العرقية، ومن أشد العلماء حماسًا لليوجينيا، وكوَّن عددًا من علماء اليوجينيا الألمان الآخرين جماعة Ring de Norda التي جمعَت بين الأصداء الصوفية في «بايريث» وترقية الصحة والرياضية لزرع أنواع فيزيقية تيوتونية، وأصبحت التكهُّنات العلمية حول المستقبل العرقي لألمانيا مشبَّعةً بتشاؤمية «جوبينو».

 وفي كتابه «أنثروبولوجيا» الصادر عام ١٩١٣م، كان «بلويتز» يقول: «اليوم اختفى الدم الجيرماني والعرق النوردي في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، … والنتيجة هي الانهيار القومي … ثم سيجيء الدور علينا … إذا سارت الأمور على نحو ما كانت، وكما تسير الآن.»٩٩ وبشكل حتمي، كان هناك تداخلٌ مثير بين القومية الشعبية وحيوية «جوبينو» الجديدة واليوجينيا العرقية، وظلَّت الصحة العرقية أمرًا مهمًّا في الصحة العامة من ناحية، وفي التعبير القوي عن الحيوية الثقافية والقوة من ناحية أخرى. كان سوفسطائيو الآرية Ariosophists جوبینوويين جددًا ظهروا على الساحة قبل الحرب العالمية الأولى بقليل وتبنَّوا قضيةَ اليوجينيا بحماس شديد. كتاب «ماكس شيبالت فون ويرث» Max Sebalt von Werth: «النشوء» بأجزائه المتعددة، والذي ظهر بين ١٨٩٨م و١٩٠٣م، جمع بين الدعوة إلى النقاء الآري العرقي والاهتمام بالإنجاب الجنسي اليوجیني، الذي ربما يكون إباحيًّا. وكان «جورج لانز فون ليبنفلز» Jorg Lanz von Liebenfels راهبًا بندكتیًّا سابقًا (وعالم استشراق) ومتحوِّلًا متعصبًا إلى دارونية «لودفيج فولتمان» الاجتماعية العرقية الراديكالية. كتابه Theozoology ١٩٠٥م، يقول إنَّ الشعب الحقيقي المختار في الإنجيل هم الآريون-التيوتون، وأصبح سقوط «آدم» بالنسبة ﻟ «ليبنفلز» حكايةً رمزية لتلوُّث الجنس الآري عن طريق تمازج الأجناس (بالتزاوج)، كما كان يؤكِّد أنَّ العهد القديم في جملته حكاية تحذيرية من اختلاط الأجناس؛ حيث إنَّ الشعوب السامية في كنعان وفلسطين قد تورَّطت في طقوس عربدة جنسية منحرفة مع «أقزام حب» أقل من مستوى البشر في منطقة بين النهرين، وكان «لیبنفلز» Liebenfels، يُدلِّل على أنَّ الإنسان الأوروبي الحديث هو السليل الهجين لتلك الاتصالات الجنسية البهيمية، إلا أنه عن طريق «اليوجينيا» الصارمة يمكن استعادة الإنسان الحديث (anthroposoa) إلى مرتبته الأصلية: الإله الإنسان (theoza) بقواه المتفوِّقة في البصر والسمع والتخاطر … وأيضًا السيطرة على الطاقة الكهربائية في الكون، ومهما بدَت تلك النظريات غريبةً وشاذة بالنسبة للعلماء المحترمين في ذلك الوقت، إلا أنَّ النظرة السوفسطائية-الآرية كان لها تأثيرها على «ألفرد روزنبرج» Alfred Rosenberg، فيلسوف الهيئة التشريعية النازية، كما كانت برامجها الخيالية لليوجينيا مصدرَ إلهام مباشر ﻟ «هاينرش هملر» Heinrich Himmler، بفكرة مزارع الاستيلاد الآرية Lebensborn بغرض إنجاب صفوة لقوات S.S.١٠٠ النازية. كانت الشخصيات الرئيسية في حركة اليوجينيا العلمية، وجمعية الصحة العرقية محايدةً في البداية بالنسبة للحزب النازي، ولكنهم أصبحوا مؤيدين له بعد ذلك. 

«ألفرد بلويتز» Alferd Ploetz الذي كان قد قال قبل ذلك إنَّ اليهود آریون، وإن معاداة السامية لا بد أن تختفيَ تحت وهج البحث العلمي. كان الآن يتعاون مع الحملات النازية المعادية لليهود وفرض قانون التعقيم القسري في عام ١٩٣٣م، «إیوجين فيشر» Eugen Fiseher، الذي كان يمتدح ذات يوم في كتاباته الاندماج العرقي، (وهو مثال جيد على صعوبة وجود إجماع على أيِّ قضية علمية في القرن التاسع عشر)، أصبح تحت قصف نيران النازية مديرًا لمعهد الإمبراطور ولهلم. وعندما اكتشف اتجاه الريح، ساعد على رعاية الأبحاث التي يقوم بها المعهد لإيجاد دليل علمي على أنَّ اليهود كانوا جنسًا وضيعًا مثل الزنوج والشرقيِّين١٠١ مصير «اليوجينيا» الألمانية وعلوم الأجناس يُثبت لنا كيف أنَّ الخوف من الانحلال، والدعوة إلى حلول جماعية رسمية من الدولة، يمكن أن يقود الممارسين التقدميِّين نحو الوقوع في قبضة أولئك الذين هم على استعداد لتنظيم وتوجيه سلطة الدولة «لإنقاذ» الحضارة مهما كان الثمن.١٠٢⋆ 

وبعد كلِّ شيء، فإن «اليوجينيا» ألقَت بمتطلَّبات كثيرة على كاهل الحكومة: تحديد ما هي الأنماط البشرية «العليا»، وما هي «الدنيا»، وانتقاء العينات المناسبة للاستيلاد، وتعقيم الضعاف والواهنين أو التخلُّص منهم، وكبح الذين يرفضون التعاون لتحقيق ذلك سواء لأسباب دينية أو أخلاقية. كانت تلك سلطات استعدت دولة المستقبل، ما بعد الليبرالية، لممارستها، وكانت مسئوليات استعدت دولة المستقبل - على الأقل في حالة ألمانيا النازية - لقبولها.

* مقتطف من كتاب (فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي) لمؤلفه آرثر هيرمان وترجمة طلعت الشايب-المصدر: مؤسسة هنداوي

.........................................

٧١ ⋆ Eugenia علم تحسين النسل. (المترجم)

٧٢ G. Jones, Social Darwinism, p. 99; Kelly, Descent of Darwin; and Pickens, Eugenics and the Progressives.

٧٣ Galton, Hereditary Genius.

٧٤ Quoted in Forrest, Francis Galton, p. 235.

٧٥ See G. Jones, Social Darwinism, pp. 6–9, 102-03.

٧٦ Lankester, Degeneration, quoted in Pick, Faces of Degeneration, p. 218.

٧٧ Quoted in Pickens, Eugenics and the Progressives, p. 27, and Solway, Demography and Degeneration, p. 21.

٧٨ G. Jones, Social Darwinism, p. 106; Gould, Mismeasure of Man, pp. 75-76; Pick, Faces of Degeneration, p. 165.

٧٩ Cf. Kevles, In the Name of Eugenics.

٨٠ W. R. Greg, “On the Failure of Natural Selection in Man,” Fraser’s Magazine (1868), quoted in G. Jones, Social Darwinism, p. 102.

٨١ L. P. Curtis, Apes and Angels.

٨٢ ⋆كان أحدهم W. R. Inge رئيس كاتدرائية «سان بول» ومؤلف كتاب «التصوف المسيحي»، كما كان «ﻫ. ج. ويلز». وفي عام ١٩١٢م نظَّم «كارل بیرسون» تلميذ «جالتون» وخليفته (وكان اشتراكيًّا) «المؤتمر الدولي الأول لليوجينيا»، الذي ترأَّسه «ليونارد» ابن «تشارلز دارون» وحضره عددٌ كبير من الشخصيات الهامة، من بينهم عضو برلمان ليبرالي، شاب، كان اسمه «ونستون تشرشل».

٨٣ Barkan, Retreat of Scientific Racism.

٨٤ ⋆قَتْل مَن يشكو مرضًا عضالًا بطريقة خالية من الألم. (المترجم)

٨٥ L. Clark, Social Darwinism in France, pp. 154–58.

٨٦ Mosse, Toward the Final Solution, pp. 58–61.

٨٧ S. Gilman, Freud, Race, and Gender, pp. 20, 101.

٨٨ Lombroso, Antisemitism and the Jews (1893), discussed in S. Gilman, ibid, p. 101.

٨٩ ⋆اشتدَّت العاصفة في عام ١٩٠٣م عندما نشر «أوتو ويننجز» كتابه «الجنس والشخصية» أعلن «ويننجز» أن اليهود كانوا جنسًا منحلًّا متخنثًا، ينشر ضعفه الروحي في المجتمع الحديث. كان «ويننجز» نفسه يهوديًّا مما جعل آراءَه المعادية للسامية صادمةً للكثيرين ومقنعة للبعض.

٩٠ Haeckel, Riddle of the Universe, pp. 1-2, 8.

٩١ ⋆ Ecology التبيُّؤ أو «علم البيئة»، وأصبح الاسم يُطلق على فرع علم الأحياء الذي يدرس العلاقة بين الكائنات الحية وبيئتها. (المترجم)

٩٢ ⋆ Monism الأحدية، وهو القول بوجود كل عضوي واحد. (المترجم)

٩٣ ⋆ Vitalism الحيوية، مذهب يقول بأن الحياة مستمرة من مبدأ حيوي، وأنها لا تعتمد اعتمادًا كليًّا على العمليات الفيزيائية الكيميائية. (المترجم)

٩٤ Darwin, Evolution of Man (New York, 1896).

٩٥ Haeckel, Riddle of the Universe, pp. 350–52.

٩٦ Gasman, Scientific Origins of National Socialism. For a modified view of Haeckel’s connections to neo-Gobintan ideas, see Kelly, Descent of Darwin, Haeckel’s eugenics became enormously influential, even reaching as far as China. See Dikötter, Discourse of Race in Modern China, pp. 138–40.

٩٧ ⋆«الجوبينوويون الجدد» — بدورهم — تجاهلوا «دارون» و«الأحدية» في كتاباتهم.

٩٨ Proctor, Racial Hygiene, pp. 14-15; Mosse, Toward the Final Solution, pp. 80-81.

٩٩ A Ploetz, Social Anthropology (1913), quoted in Field, Evangelist of Race, p. 213.

١٠٠ Goodrick-Clarke, Occult Roots of Nazism, pp. 51, 90–96; Hillel and Henry, Of Pure Blood.

١٠١ Proctor, Racial Hygiene, pp. 41-42; Weindling, Health, Race and German Politics, p. 503.

١٠٢ ⋆ولم يكن ذلك في ألمانيا فقط. كارل «بیرسون»، خليفة «جالتون» كان معجبًا بالنازية، وعندما كان يعمل في مكتب سجلَّات اليوجينيا في الولايات المتحدة، الذي أُنشئ عام ١٩١٢م، كان على اتصال وثيق بالجمعية الألمانية للصحة العِرقية، وكان أحد الذين أوحَوا بقانون التعليم في ١٩٣٣م.

اضف تعليق