ترامب يصدم العالم بتمرده على نسق سياسات بلاده ونسق العلاقات الدولية، بكسر الاسيجة القانونية والاخلاقية، كسر النموذج الذي رسمته أمريكا لنفسها في أعين العالم، بكونها زعيمة العالم الحر، عالم الديمقراطية الليبرالية والاسواق الحرة والانتقال السلس للمعارف والعلوم والتكنولوجيا وحقوق الانسان والحريات الدينية...

يصف عالم السياسة الامريكي الشهير فرانسيس فوكاياما في مقال له، السياسات التي يتبعها الرئيس الامريكي دونالد ترامب بانها؛ عودة إلى العصر الكلاسيكي للامبريالية، في نفس الاتجاه يصف الصحفي الامريكي ذائع الصيت توماس فريدمان سياسات ترامب بخصوص غزة بأنها الأكثر غباء في انعكاساتها على صورة ودور الولايات المتحدة في العالم !!.

التوصيفان جاءا من شخصين يمثلان اتجاهات النخبة الامريكية الحديثة، النخبة التي تجد نفسها أمام اختبار وتحد، اختبار لتراثها الذي يوصف بالعلموية والعقلانية والاخلاقية، فلطالما افتخر الامريكان بأن المؤسسة السياسية لديهم قادرة على دمج المعرفة والفلسفة السياسية والبراغماتية والقيم الليبرالية لإنتاج أجيال من السياسيين والمشتغلين بالسياسة والداعمين لهم من الاستراتيجيين والاقتصاديين والاعلاميين والاكاديميين. ثم جاء ترامب من خارج المؤسسة وخارج سياقاتها وسقوفها وخطوطها الحمراء والصفراء، فصارت النخبة مكشوفة لا تدري ماذا تفعل، سوى التحذير والنذير بين يدي عهد جديد، عنوانه، الصلافة والقوة وأفكار وسياسات خارج صندوق السياسة المعتادة. اخفاق النخبة على عدم القدرة على التأثير بما يكفي لجعل الامريكان لا ينساقون مع الشعبوية.

ترامب يصدم العالم بتمرده على نسق سياسات بلاده ونسق العلاقات الدولية، بكسر الاسيجة القانونية والاخلاقية، كسر النموذج الذي رسمته أمريكا لنفسها في أعين العالم، بكونها زعيمة العالم الحر، عالم الديمقراطية الليبرالية والاسواق الحرة والانتقال السلس للمعارف والعلوم والتكنولوجيا وحقوق الانسان والحريات الدينية.

ترامب الذي أمضى الشهر الاول في ولايته الجديدة يوقع أوامره التنفيذية بسرعة كبيرة متوخيا تحقيق رؤيته لما ينبغي عليه ان تكون امريكا، (امريكا العظيمة مجددا)، لكن هذه العظمة ترتدي ثياب الامبريالية القوية في عهدها الكلاسيكي (المتجدد) كما يقول فوكوياما، بقيادة زعيم لا يعرف الخجل ولا المستحيل كما يصف فريدمان، فكل شيء عنده قابل للمساومة في صفقة يسميها عادلة. نموذج الصفقات العادلة، هذا يمكن التأكد منه، في صفقة عرضها على ايران ووعد بها أن يعود الايرانيون إلى العالم من عزلتهم الراهنة، كأمة عظيمة وبلد رائع كما يقول بشرط أن ينصاعوا لمطالبه في ألا يمتلكوا أسلحة نووية، وأن يتفاوضوا على صواريخهم وسياساتهم الإقليمية، العدل هنا يتجسد عند ترامب في أن يبادل هو الإيرانيون عن تنازلاتهم بألا يفكر بقصفهم وتدميرهم.

نموذج آخر لعدالة ترامب التي يتحدث عنها وزير دفاعه بيت هيغسث (القوة لفرض السلام )هو تهجير فلسطينيي غزة، بزعم تخليصهم من البؤس والقتل والحرب، وتحويل أراضيهم إلى منتجع كبير للأثرياء (ريفيرا)، يشاهدونه من بعد ولا يحق لهم الرجوع اليه، ولا يعودون مالكين له، بل الملكية ستكون امريكية.

يساورني القلق، بأن يتفرغ ترامب للاهداف الموضوعة على القائمة الثانية بعدما ينتهي من القائمة الاولى، في سياق رؤيته للسلام العالمي المتبني على القوة والتهديد بها والابتزاز المستمر، لا فرق بين حليف ولا صديق. قائمة اهدافه الثانية ستشمل العراق حتما، فالعراق ليس من أهداف الدرجة الاولى، لكن قضاياه جزء من خطة ادارة ترامب في فرض (السلام والاستقرار بالقوة )، والسياسة ازاء العراق مرتبطة إلى حد كبير بالموقف من ايران ونفوذها ودورها الاقليمي، والامر التنفيذي الذي وقعه ترامب بإعادة سياسة الضغط الاقصى على ايران، يتضمن مراقبة ومنع استفادة ايران من النظام المالي العراقي، ومنع ايران من تحريك (أذرعها) ووكلائها كما يردد دائما من خلال تقليص قدراتها المالية إلى الحد الادنى (جعل ايران مفلسة)، وتشديد العقوبات على من يساعدها في الالتفاف على العقوبات المفروضة على قطاعها النفطي.

أولى نتائج التشدد الترامبي سيكون إلغاء الاستثناء الممنوح للعراق لاستيراد الغاز والكهرباء من ايران بما يعرض العراقيين إلى ازمة طاقة ستتدحرج إلى ازمات اخطر كما تعودنا، وثاني خطوات التشدد، سيكون الرقابة المشددة على (الدولار) العراقي لكي لا يذهب شرقا أو جنوبا، تحت مسمى تغطية مستوردات (مبالغ فيها طبعا)، وثالث الخطوات سيكون اسكات الاصوات الفصائلية المسلحة، وفرض احتكار الدولة للسلاح وتوحيد الخطاب السياسي العراقي الخارجي، ورابع الخطوات سيكون اعادة هندسة العملية السياسية في العراق، لا سيما والانتخابات القادمة على الابواب.

هذه الهندسة ستتم عن طريق الضغوط والاشتراطات المالية والاقتصادية واستثمار المزاج الشعبي، وأي اضطرابات في المنظومة الاقتصادية العراقية ستكون لها انعكاسات امنية وسياسية، التعامل مع الادارة الامريكية الترامبية يحتاج إلى قاعدتين ذهبيتين، الاولى فهم سيكولوجية ترامب وحكومته وادارة التعامل معه برؤية مدروسة يضعها الخبراء ليتفادى العراق الاسوأ، ولا يضعها سياسيون واعلاميون يرتجلون المواقف ارتجالا بلا تقدير للمصالح ولا فهم للحكم الشرعي (دفع الافسد بالفاسد)، وهي الحكمة العملية التي افتقدناها كثيرا. 

اما الثانية فهي تحديد الامكانات والممكنات والبدائل بما يوفر على العراق الانسياق مع من يريد له أن يكون كبش فداء في مشروع التضحيات المفتوح، التضحية الاعظم ستكون حماية امن العراق وسلمه الاهلي واقتصاده ورفاه شعبه، فمنطقتنا شهدت طوال مئة عام من السياسات، نماذج من الفهلوة السياسية، انتهت إلى لا شيء، سوى التطرف الديني والسياسي والاحلام الكابوسية وخراب العمران. ولا يحتاج العراق إلى مزيد من الفهلوات.

اضف تعليق