كل هذه التطورات تتطلب مناقشةً عراقيةً بحتة، بواقعيةٍ وموضوعية، للخروج حتى بأدنى حدٍّ ممكن من الحلول لمواجهة التهديدات الأمنية والاقتصادية. يجب تحديد معايير واضحة لتعريف العدو والصديق، وإلا فإن الأمر سينتهي إلى المزيد من البيانات والتصريحات المعسولة التي لا تثمر شيئًا على أرض الواقع...

ما بين نموذج التهديد بأقصى ما يمكن تنفيذه وبين التراجع، يحاول الرئيس ترامب تطبيق نموذج جديد من إدارة الأزمات بعقلية كاوبوي أمريكي متجانس مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي!

لست بصدد تحليل وقائع هذا النموذج بقدر ما أحاول تقديم تحليل لمصالح الأطراف العراقية في الخروج من عين العاصفة لهذا النموذج، من خلال:

أولًا: هل هناك مواقف مستجدة للمرجعية الدينية العليا؟

حتى على سبيل النصح والإرشاد، هل يمكن أن تتخذ المرجعية موقفًا لمواجهة مثل هذه التهديدات؟ وهل تُعد تهديدًا لكيان الإسلام والمسلمين في عراق اليوم، حيث أصبح العراق ساحةً ساخنةً لتصفية الحسابات بين واشنطن وطهران؟

فعليًا، توقفت المرجعية الدينية العليا عن التصريح بالنصح والإرشاد عند ثوابت بيانها بعد اللقاء مع ممثل الأمم المتحدة، وهو البيان الذي نال ترحيب معظم الأحزاب دون أي التزام فعلي به!

فهل سيكون للمرجعية موقفٌ مغاير، أم أنها ستستمر في التزام الصمت تجاه مفاسد المحاصصة وهيمنة أمراء الأحزاب السياسية، في مواجهة سياسات ترامب لعزل إيران، سواء كدولة أو كثورة، عن موارد العراق المالية وأحزاب الفصائل؟

ثانيًا: هل سنشهد موقفًا عراقيًا موحدًا؟

هل يمكن أن تتخذ الأحزاب المتصدية للسلطة، من زاخو إلى الفاو، موقفًا موحدًا للتعامل مع نموذج ترامب الجديد؟ خاصةً فيما يتعلق بالخروج من عين العاصفة في حربٍ قد تؤثر على معيشة المواطن العراقي بوضوح.

ثالثًا: ما مصفوفة الحلول المناسبة للخروج من عين العاصفة؟

أبرز المؤثرات على المشهد الحالي والتي لا بد من مناقشتها تشمل:

1. استكمال مشاريع الطاقة البديلة:

الانتقال السريع لاستكمال الربط الكهربائي مع السعودية والأردن.

تطبيق خطة طوارئ لاستيراد الغاز من السعودية وقطر لتأمين الحد الأدنى من إنتاج الطاقة الكهربائية، خصوصًا في الصيف المقبل.

تشجيع المواطنين على شراء منظومات الطاقة الشمسية بقروضٍ بلا فوائد، مع إطلاق حملة توعية كبيرة بهذا الاتجاه.

2. إصلاحات القطاع المصرفي:

ما صدر عن إصلاحات القطاع المصرفي، وفق بيان مكتب رئيس الوزراء بعد اجتماعه مع محافظ البنك المركزي، لن يغيّر حقيقة أن الدولار الأمريكي ما زال يُهرّب إلى إيران المعاقَبة.

أغلب الاستيراد من إيران يُدفع اليوم بالدينار العراقي مقابل الدولار، مما سيؤدي خلال الأسابيع المقبلة إلى شحّة الدولار في الأسواق العراقية وارتفاع قيمته مقابل الدينار العراقي.

الاستيراد العشوائي من دول الجوار، الذي لا يزال خارج معايير الجودة الشاملة، يزيد من تفاقم الأزمة.

من المتوقع أن يصل سعر صرف الدولار إلى أكثر من 250,000 دينار لكل 100 دولار أمريكي، مما يعيدنا إلى مقولة السيد عمار الحكيم حول العودة لحمل العملة العراقية في "الكواني"، كما كان الحال في أيام العقوبات الدولية والحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي.

هذا يعني سقوط الدولة تحت العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، فقط لأن الأحزاب المتصدية للسلطة غير قادرة على فصل مصالح العراق عن مصالح إيران.

3. الدعوات المتزايدة ل (الأقاليم):

ستتكرر الدعوات إلى تشكيل أقاليم داخل العراق، خاصةً من قبل حركة "تقدّم" ومن يتحالف معها ضمن ما يُعرف بالمحافظات الست، تحت شعار الخلاص من واقع العقوبات الأمريكية.

في إقليم كردستان، ستظهر مواقف أكثر وضوحًا بعد تشكيل حكومته المقبلة، ربما تصل إلى الفصل الكامل بين التحالف المباشر مع السياسات الأمريكية الجديدة وما يجري في بغداد.

4. العودة إلى المربع الأول:

قد نشهد سيناريو مشابهًا لما حدث في مؤتمر لندن بين أحزاب المعارضة العراقية والإدارة الأمريكية، عندما تعاملت واشنطن مع الدكتور أحمد الجلبي لإسقاط الدولة العراقية ونظامها السابق وتشكيل نظام المحاصصة الفاسد.

يدور حديث عن تغييرات مرتقبة، ولكن من السذاجة الاعتقاد بأنها ستكون بفعل أمريكي مباشر، بل ستكون نتيجةً للأخطاء المتراكمة التي ستُستغل في هذا التغيير، خاصةً مع اقتراب الانتخابات المقبلة في نهاية العام الجاري، الذي سيكون الأصعب والأكثر قسوةً على العراقيين.

فيما سترواغ أحزاب الإطار التنسيقي بين المصالح الأمريكية والإيرانية، وربما تحاول تقديم نفسها كوسيط بين واشنطن وطهران. لكن يبدو أن هذه الفرصة قد تلاشت نتيجة سياسات ترامب الأخيرة، مما يترك المجال مفتوحًا لاحتمالات التصعيد والمحاسبة على الأعمال التي قامت بها بعض الفصائل ضد القواعد الأمريكية خلال الأعوام الماضية.

كل هذه التطورات تتطلب مناقشةً عراقيةً بحتة، بواقعيةٍ وموضوعية، للخروج حتى بأدنى حدٍّ ممكن من الحلول لمواجهة التهديدات الأمنية والاقتصادية. يجب تحديد معايير واضحة لتعريف العدو والصديق، وإلا فإن الأمر سينتهي إلى المزيد من البيانات والتصريحات المعسولة التي لا تثمر شيئًا على أرض الواقع.

ويبقى من القول: لله في خلقه شؤون!!!

اضف تعليق