هناك عدد من المطالب الواضحة لترامب من منطقتنا. فعلى الصعيد الاقتصادي يريد ترامب سحب البساط من تحت أقدام منظمة أوبك بحيث لا تتحكم بأسعار النفط وتفرضها على أمريكا. كما أنه يريد تحصيل أكبر ما يمكن من الصفقات الاقتصادية سواء من دول الخليج الغنية أو من أعمار غزة وبقية المناطق التي دمرتها الحروب...

يمثل قرار ترامب يوم أمس بتعليق- وقف مؤقت- قرار فرض رسوم جمركية كبيرة على كندا والمكسيك أنموذج حي وقياسي لسياسة ترامب القادمة مع كل دول العالم وفي مختلف القضايا السياسية والاقتصادية التي ستتصدى لها أجندته للأعوام الأربعة المقبلة. فكندا والمكسيك ستضطر مثلاً لضخ مئات ملايين الدولارات لتحسين مراقبتها لحدودها ووقف التهريب بمختلف انواعه وهو ما يريده ترامب فعلاً وليس وقف التجارة مع كندا والمكسيك لان ذلك يضر الاقتصاد الأمريكي أيضاً. وخلال مدة تعليق قرارات ترامب برفع الرسوم على البضائع والمنتجات المكسيكية والكندية ستفكر الدولتان بحلول جديدة وتقدمان تنازلات كبيرة لتجنب حرب تجارية مع الولايات المتحدة والتي تمثل شريكهما التجاري المهم.

يقوم أنموذج ترامب على أربع خطوات قياسية يمكن أن تجد ما يفسرها في أي دليل -براغماتي- للتفاوض الناجح، كما يمكن سماع أصدائها واضحة في كتاب ترامب فن الصفقة The Art of the Deal . الخطوتان الأولتان تندرجان ضمن ما يسمى بالتلاعب بالمشاعر Emotional Manipulation أما الخطوة الثالثة فتقع ضمن ما يسمى بتأطير Framing التفاوض والرابعة هي الإنهاء Deal closing:

حملة اعلامية

1. التهديد. أطلاق حملة إعلامية ترافقها تصريحات نارية، سواء منه أو من المقربين، تدعو الى عقوبات أو تلوّح بحرب-تجارية أو عسكرية- ما لم يتم تحقيق ما تريده إدارة ترامب.

2. الصدمة. إذا لم تؤدِ الخطوة الأولى لرد فعل مقبول فيتم أخذ خطوات جدية على الأرض، مثل فرض رسوم جمركية كبيرة أو عقوبات شديدة أو تحريك قوات فعلية أو سوى ذلك من الخطوات التي تُحدِث فعل الصدمة وترسل رسالة جدية بأن ترامب ماضي في هذا التصعيد للنهاية. ونظراً للإمكانات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية الهائلة التي تمتلكها أمريكا فأن فعل الصدمة هذا سيؤدي الى زعزعة ثقة الطرف المقابل في إمكاناته على احتواء هذا التهديد المصيري ويجعله مهيئاً نفسياً لتقديم تنازلات جدية.

3. التنفيس. إتخاذ خطوات تخفيفية مثل تعليق العقوبات أو الوقف المؤقت للقرارات أو إرسال رسائل تطمينية أو غير ذلك من الأساليب التي توحي أن ترامب يرغب في التفاوض ولا يرغب بالحرب وأنه يمكن تجنب خسائر أكبر لو تم تقديم تنازلات ومكاسب مغرية لإدارته. كما تستهدف هذه الخطوة وضع إطار مسبق لحدود ومديات التفاوض أو ما يسمى بتأطير التفاوض. أي جعل التفاوض يدور حول ترتيبات وصفقات يريدها ترامب -وليس الطرف المقابل- وتحقق مكاسب له ثم الوصول لاتفاق جديد مفيد.

4. عقد الصفقة. أي أنهاء الصفقة وفقاً لشروط أفضل يرغب بها ترامب.

قياساً على ما سبق فأن على جميع خصوم ومنافسي، بل وحتى اصدقاء امريكا توقع تحركات مشابهة لما حصل مع المكسيك وكندا. ووفقاً لاستراتيجيتين مهمتين ذكرهما ترامب في كتابه (فن الصفقة) فأن البدء بكندا والمكسيك لم يأتِ إعتباطاً. يحث ترامب قراءه على ما يسميه بالتضخيم الصادق أي المبالغة في إمكاناتك كي تحدث أثراً نفسياً في الآخرين، كما يحثهم على التلاعب بالرأي العام للتلاعب بالمشاعر وهذا ما حصل فعلاً نتيجة قراره بالرفع الكبير للرسوم الجمركية على أقرب أصدقاء أمريكا، فما بالك بأعدائها!! تدل الخبرة بإدارة ترامب الأولى أنه لم يشعل أي حرب،وهو كما يبدو رجل أعمال يميل للسلم لا للحرب على الرغم من أنه مستعد للتلويح بها. وأن إظهار نفسه بمظهر المتهور وغير السياسي الذي يمكن أن يفعل كل شيء هو تكتيك مقصود لرفع مستوى توقعات الآخرين عنه. ويبقى السؤال هو ما الذي يمكن توقعه من أمريكا في الأشهر القادمة بناءً على أنموذج ترامب القياسي؟

سحب بساط

هناك عدد من المطالب الواضحة لترامب من منطقتنا. فعلى الصعيد الاقتصادي يريد ترامب سحب البساط من تحت أقدام منظمة أوبك بحيث لا تتحكم بأسعار النفط وتفرضها على أمريكا. كما أنه يريد تحصيل أكبر ما يمكن من الصفقات الاقتصادية سواء من دول الخليج الغنية أو من أعمار غزة وبقية المناطق التي دمرتها الحروب. 

ثالثاً، لا يريد ترامب أن تتفوق الصين في منافستها لأمريكا على موارد المنطقة. رابعاً، ضمان أمن الطاقة والتدفقات الملاحية في المنطقة بخاصة في البحر الأحمر والخليج العربي. أما على الصعيد السياسي فضمان أمن (إسرائيل) يأتي في قمة أولوياته. هذا يعني تحجيم أو تحييد أو القضاء على كل التهديدات لأمن إسرائيل وفي مقدمة ذلك التهديد النووي وحتى التقليدي الإيراني لإسرائيل. ثانياً، ضمان أمن القواعد الأمريكية في المنطقة والتي تؤمن لأمريكا تفوقاً أستراتيجياً على منافسيها. 

ثالثاً، منع عودة داعش ومشتقاتها أو منع تهديداتهم. أما الهدف الأهم والنهائي فهو عقد صفقة القرن للوصول لاتفاق (سلام) بين أكبر عدد من بلدان المنطقة وبين (أسرائيل). لضمان تحقيق ما تقدم فستعمل أمريكا بقرب مع شركائها الأقليميين وفي مقدمتهم (أسرائيل). 

هنا يجب مراقبة ما ستسفر عنه اجتماعات واشنطن بين ترامب ونتنياهو. فإسرائيل ستسعى للحصول على الضوء الأخضر لضرب: 1)اليمن ،2) العراق،و3)إيران. في اليمن والتي هي أول الأهداف التي ستُضرب كما يبدو فأن الهدف هو تحجيم أو تقويض قدرات الحوثيين ليس فقط على تهديد الملاحة في البحر الأحمر، بل وزعزعة النظام لتتمكن القوات اليمنية المعادية للحوثيين للتحرك بطريقة مشابهة لما حصل في سوريا. ولا يبدو أن أمريكا ستعارض هذا التحرك الإسرائيلي، بل ستدعمه. 

أما في العراق فأن القصة تبدو مختلفة وترتبط بمدى استجابة العراق لطلبات الإدارة الأمريكية بحل الميليشيات أو السيطرة عليها من جهة، وبنتائج التفاوض مع إيران من جهة أخرى. فاذا قبلت إيران بالعرض الأمريكي المتضمن تفكيك برنامجها النووي فضلاً عن شبكة ميليشياتها في المنطقة فأن إيران وبالتالي العراق لن تتم مهاجمتهما. وسيتم حينئذٍ الوصول للنقطة الرابعة في الأنموذج القياسي أعلاه (الصفقة) بدون أي قتال. أما أذا لم يتم الوصول لأتفاق يرضي ترامب وإسرائيل فسيتم -في أغلب الظن- اللجوء للنقطة الثانية أعلاه بأصدار مزيد من عقوبات الضغط الأقصى فضلاً عن هجمات (إسرائيلية)-أمريكية محدودة لكن مؤثرة داخل إيران والعراق لإجبارهما على تنفيذ أجندة ترامب أعلاه. 

وسيكون هناك جدل ونقاش متوتر وحاد أحياناً بين إدارة ترامب التي لا تريد الوصول لمرحلة الحرب الشاملة والتورط فيها وبين حكومة نتنياهو التي لا تريد تفويت هذه الفرصة التاريخية للتخلص من التهديد الإيراني. المؤكد أن هناك كثير مما سيحصل على الصعيدَين السياسي والعسكري والاقتصادي في المنطقة، ولكن ضمن هذا الأنموذج القياسي الذي يريد بلوغ أقصى ما يمكن من الأهداف بأقل مجازفة ممكنة. أخيراً أريد أن أقتبس إحدى الاستراتيجيات المهمة التي تبناها ترامب في كتابه ونصح بها قراءه وهي ما يسميه بالإستعداد للانسحاب. 

بمعنى أن تكون مستعداً للانسحاب من الصفقة عندما لا تراها عادلة وهو ما حاولت كل من الأردن ومصر اللجوء له عندما طالبهما ترامب بإيواء فلسطينيي غزة. أن التلويح بهذا السلاح من قبل كل العراب الذين يهتم ترامب برأيهم-بخاصة دول الخليج العربي- يمكن أن يكون أحدى أهم الأسلحة لمواجهته وعدم الاستسلام لأجندته. وليحصل ذلك فأن إيران يجب أن تتفاهم مع جيرانها وتقدم لهم عربون ثقة يتمثل في سحب تهديدات أذرعها في كل الهلال الذي يمتد من اليمن للبنان.

اضف تعليق