يبقى التساؤل الاهم هل النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية قادر على جعل القوة والديمقراطية جزءًا من معادلة خطية متسقة واحدة تضمن توازنًا ديناميكيًا بين التركيز والتنفيذ اللذان يعنيان (القوة والمشاركة)، والمساواة التي تعني (الديمقراطية) في آن واحد...
أ- تمهيد:
كيشور محبوباني (Kishore Mahbubani) هو مفكر ودبلوماسي سنغافوري بارز من أصول هندية. وُلد في سنغافورة في العام 1948 لعائلة هندية هاجرت من جنوب آسيا، كان والده مهاجرًا من ولاية تاميل نادو في الهند، وهو ما يفسر أصوله التاميلية. شغل محبوباني مناصب دبلوماسية عديدة وأصبح لاحقًا كاتبًا ومحللًا مؤثرًا في العلاقات الدولية والسياسات العالمية، مركزاً بشكل خاص على صعود آسيا وتأثيرها في العالم.
وفي احدى محاضراته تناول محبوباني صعود الامة الامريكية، ليترك لنا تفسير هبوط ديمقراطيتها على توماس بيكتي استاذ الاقتصاد المتخصص في دراسة التفاوت الاقتصادي وتوزيع الثروة والدخل عبر التاريخ، حيث وُلد بيكتي في 7 آيار 1971 في فرنسا، وهو معروف بأبحاثه الأكاديمية التي تجمع بين التحليل الاقتصادي والتاريخي، خاصة في مجال الرأسمالية وعدم المساواة. وان من ابرز قوانينه الاقتصادية هي ان معدل العائد على نمو راس المال يفوق معدل النمو الاقتصادي، بسبب تفاوت الدخل العالمي لمصلحة الطبقات الاحتكارية والقوى الريعية في العالم.
ب- السعادة: بين تنامي القوة وهبوط الديمقراطية .
اولاً- لاشك في ان الجدل القائم ينصب حول تساؤل مهم، هل ان الولايات المتحدة هي اقوى بلد في العالم ؟الجواب نعم، فقبل اكثر من خمسة عقود انزلت إنساناً على القمر، وبلا منازع فقد حصد علماءها معظم جوائز نوبل وحتى الوقت الحاضر. ولكن يبقى الجدل القائم أيضاً هل ان أميركا دولة فاشلة في ديمقراطيتها الان …؟ الجواب نعم.
فمن كان يزور الولايات المتحدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يجد طعماً من السعادة حقا، ولكن تلك السعادة تجدها مفقودة في الوقت الراهن.
اذ يرى محبوباني ان ثمة ثلاث اسئلة يقتضي الحال الاجابة عليها بشان الديمقراطية الامريكية، اولها، كيف فشلت الديمقراطية الامريكية .
وثانيها، لماذا فشلت تلك الديمقراطية وثالثها، هل ثمة حل لهذا الفشل الديمقراطي؟
وازاء ماتقدم، يرى محبوباني في اجابة التساؤل الاول لماذا فشلت الديمقراطية؟؟ فالديمقراطية بالمعنى الاساسي البسيط، كما هو معلوم هي حكومة الشعب ومن الشعب والى الشعب…!! ولكن عندما نختبر تلك الديمقراطية هل استطاعت من رفع شأن الشعب لتحقيق غاياته في بناء سعادته ؟ نجد ان الولايات المتحدة قد رفعت حقاً من قدرات الشعب لفترة طويلة في تطور سعادته في تلك الحقب ولكن معطيات اليوم تقرأ شيئاً آخر بعد ان توقفت تلك السعادة..!
كان مصدر محبوباني للاجابة على ذلك التوقف، هو عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكتي Thomas
Piketty الذي ناقش توزيع الدخل والثروة في العالم و الولايات المتحدة وغيرها بشكل موسّع في كتابه “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” (Capital in the Twenty-First Century) الصادر في العام 2013 وكتاباته الاخرى في العام 2018 وما بعدها بالطبع، وعد الكتاب اعلاه أحد أكثر الكتب تأثيرًا في الاقتصاد الحديث، اذ يناقش الكاتب تاريخ توزيع الثروة والدخل منذ القرن الثامن عشر، ويبرز كيف أن التفاوت الاقتصادي يتزايد مع الزمن،حيث يعرض بيكتي تحليلاً تاريخياً ومعمقاً لتزايد التفاوت الاقتصادي ويركز على العوامل التي أدت إلى تركّز الثروة في أيدي قلة صغيرة .
وهنا يوضح محبوباني (تفاوت الدخول) بالاستناد على افكار بيكتي ولاسيما الفئة الراكدة في القاع من الشعب مبيناً ان 50% من الشعب الامريكي ممن هم في قاع الركود قد (انخفضت) حصتهم في الدخل الاجمالي للبلاد من 21% قبل الضريبة في سبعينيات القرن الماضي الى 13% في العام 2014 .
في حين (ارتفعت ) حصة 1% من الطبقة الغنية العليا في الدخل الاجمالي للبلاد من 9% في السبعينات من القرن الماضي لتبلغ 20% في العام 2014 , اي للمدة نفسها .
وعلى مستوى الثروة العائلية ظل التفاوت في الثروة أقل حدة، اذ كان أغنى 10% من سكان اميركا يمتلكون حوالي 60-65% من إجمالي الثروة في مطلع السبعينات .اما اليوم وفي مطلع العقود الاولى من القرن الحادي والعشرين، بات أغنى 10% من السكان يمتلكون حوالي 70-75% من الثروة،
ومع تزايد نصيب الثروة لأعلى 1% من السكان فقد اخذت ثرواتهم تقترب من 40% من إجمالي الثروة .
وقدر تعلق الامر بالطبقة الوسطى وحصتها من الثروة …ففي سبعينيات القرن الماضي كانت الطبقة الوسطى التي تمثل (من السكان 62%) تمتلك حوالي 35% من الثروة العائلية، انخفضت حالياً تلك الحصة من الثروة الى أقل من 25%. فضلاً عن ان الفجوة في الدخل بين المديرين التنفيذيين ذوي الياقات البيضاء white collar والعمال من ذوي الياقات الزرقاء blue collar قد اختلت هي الاخرى كثيراً .
ففي السبعينيات كان دخل المدير التنفيذي في الشركات الكبرى يعادل حوالي 20 إلى 30 مرة من دخل العامل العادي، ارتفعت هذه النسبة في الوقت الحاضر لتصل إلى أكثر من 200 إلى 300 مرة من دخل العامل العادي.
ويعزي محبوباني مستندا ً الى بيكتي الأسباب التي قادت الى هبوط الديمقراطية الامريكية الى تفاوتات الدخل والثروة في اعلاه والتي اهمها جاءت في التغيرات في السياسات الضريبية، اذ ادى تقليل الضرائب على الدخل المرتفع والثروة منذ الثمانينيات، خاصة خلال رئاسة ريغان، وكذلك شيوع العولمة التي اظهرت حسب قانون بيكتي (ان زيادة النمو في عوائد رأس المال) نتيجة الأسواق العالمية وتعاظم الريع والاحتكار في اقتصاد العالم وبما (يفوق النمو الاقتصادي).
فضلاً عن ضعف النقابات العمالية مما قلّل من قوة التفاوض لدى الطبقة العاملة.
كما ان تركّز الثروة الوراثية قد عظم من تزايد الاعتماد على الثروة الموروثة بدلاً من الثروة المكتسبة.
اذ يرى بيكتي أن هذا التحول التاريخي يعكس عودة نمط التفاوت الذي كان سائداً قبل الحرب العالمية الأولى، عندما كانت الثروة مركزة بشكل كبير لدى النخب، ويشدد على أهمية اتخاذ إجراءات قوية لتقليل الفجوة الاقتصادية. ما يعني ان عموم الشعب الامريكي لم ينتفع من ديمقراطيته خلال نصف قرن من الزمن
2- مظاهر معجلة في هبوط الديمقراطية الامريكية.
يوضح محبوباني ان العالم اجمع بما في ذلك البلدان النامية اخذت فيه معدلات الحياة ترتفع في حين ان اميركا صاحبة اقوى اقتصاد في العالم ديناميكيةً اخذت توقعات الحياة فيها بالانخفاض، مستندا الى مقال في صحيفة الفاينانشيال تايمز، جراء فشل النظام الصحي.
وياخذنا محبوباني بين فشل الديمقراطية الامريكية بفشل نظام الاتحاد السوفيتي السابق مستندا على المؤشرات الاجتماعية التي ساقها المؤرخ البريطاني Niall Ferguson في كتاباته بهذا الشان، والتي يرى فيها ان عموم الناس تذهب الى صناديق الاقتراع في الديمقراطية وهي منزوعة من خياراتها choices على نوع الحكومة القادرة على تغيير معادلة السلطة والثروة لكون الحكومة معتقلة على الدوام captured لمصلحتها، حيث يستند محبوباني في ذلك على المعطيات حول فشل الديمقراطية الاميركية التي قدمها استاذان من جامعة برنستون وهما مارتن غيلينز (Martin Gilens) وبنجامين آي. بيج (Benjamin I. Page) وهما باحثان أمريكيان بارزان في العلوم السياسية. قاموا بدراسة وتحليل العلاقة بين تفضيلات الناخبين الأمريكيين وسياسات الحكومة الأمريكية، خاصة من منظور تأثير المال والنفوذ في السياسة.
ففي دراستهم الشهيرة المنشورة عام 2014 بعنوان:
“Testing Theories of American Politics: Elites, Interest Groups, and Average Citizens”
وضحا أن تفضيلات متوسط الناخب الأمريكي العادي (average citizen) غالبًا لا يكون لها تأثير كبير على السياسات العامة، وتوصلا الى ان النفوذ القوي للنخب الاقتصادية هو الاهم .
فالسياسات الأمريكية تُظهر استجابة واضحة لتفضيلات الأثرياء وأصحاب النفوذ السياسي، أكثر من استجابتها لتفضيلات الناخبين العاديين. فضلاً عن محدودية تأثير المواطن العادي . فعلى الرغم من أن النظام الديمقراطي يُفترض أنه يعكس إرادة الأغلبية، إلا أن دراستهما قد أظهرت أن التأثير الفعلي للناخبين العاديين على السياسات العامة محدود للغاية. وهناك جماعات المصالح والتنظيمات، اذ تميل السياسات إلى التوافق مع مصالح جماعات الضغط والمنظمات القوية بدلًا من الأفراد . والنتيجة ان دراستهما أثارت نقاشًا واسعًا حول مدى ديمقراطية النظام السياسي الأمريكي، اذ وُصِف هذا النموذج بأنه أقرب إلى “حكم القلة الالغارشية ” (Oligarchy) منه إلى الديمقراطية التمثيلية الحقيقية. و هكذا توصل الكاتبان الى ان تفضيلات متوسط الناخب الامريكي preferences لا ترسم شي في صنع السياسة العامة للولايات المتحدة الأميركية وهي اغلبية الناخبين والتي تقارب الصفر مقارنة بتفضيلات النخب الغنية صاحبة الثروة التي تمثل القلة القليلة من الناخبين .
ويسترشد محبوباني بقول لرئيس الاحتياطي الفيدرالي الاسبق بول فولكر Paul Volker .. ان اميركا بلد لايصنع الديمقراطية بل يصنع حكم يتراوح بين البروتقراطية (Brutocracy) و هو مصطلحًا ليس شائعًا أو مستعملًا بشكل واسع، ولكنه يمكن أن يُفسَّر بناءً على جذوره اللغوية. إذا يقصد به نظام حكم يعتمد على القوة والعنف (من كلمة “brute” التي تعني التوحش أو القوة الغاشمة)
والذي يُفهم أنه يشير إلى نظام استبدادي يعتمد على العنف المادي أو النفسي لفرض السيطرة، او من ناحية أخرى وبشكل مهذب انه حكم طبقة البلوتوقراطية (Plutocracy) ويعني نظام الحكم الذي تكون فيه السلطة السياسية في يد الطبقة الغنية أو النخبة التي تمتلك الثروة. وفي هذا النظام، يتأثر اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية بمصالح الأثرياء فقط، دون اعتبار كافٍ لحقوق بقية أفراد المجتمع.
3- الاستنتاجات
أ-بناء على ما تقدم، يسترسل محبوباني مستنتجاً، ان الاغلبية من شعب الولايات المتحدة لا تحكم اطلاقا، لكون صوتها الانتخابي او تفضيلاتها preferences كاغلبية لا تسهم في رسم السياسات العامة وصنع القرار طالما ان مصالح المواطن الامريكي الاعتيادي لا تتوافق مع المصالح الاقتصادية للنخبة elite او القوى الاقتصادية المنظمة صاحبة المصلحة في الثروة وهذا امر لا يظهر في العلن، ومثله مثل عرض الازياء في السر كما يقول محبوباني . فعندما تتحدث عن الديمقراطية في الولايات المتحدة فانك تتحدث عن قضية خطيرة جداً. فكيف نسميها ديمقراطية والاغلبية ليس لها دور في رسم السياسات العامة…؟
انها قضية هيكلية او بنوية تقتضي حلاً بنيويا ًحقاً..!!بل يجب التوافق حولها وتقوم على حل الاشكالية التي قدمها جون رولز (John Rawls) (2002-1921) وهو فيلسوف أمريكي بارز و يُعد أحد أهم الفلاسفة السياسيين في القرن العشرين. اذ اشتهر بتطويره لنظرية العدالة القائمة على مبادئ المساواة والحرية، والتي كان لها تأثير عميق على الفلسفة السياسية والفكر الليبرالي الحديث، اذ يقول رولز في كتابة نظرية العدالة The theory of Justice وهو ينظر الى التناقض بين الحرية والمساواة مبيناً ان ((اذ تريد ان تبرر او تسوغ الزيادة في الدخل للطبقة المترفة ستجد ان 10% من قاع الشعب الامريكي وهم نسبة 50% في القاع ستنتفع فحسب من تلك الزيادة)) .
وهنا يذهب محبوباني بالقول انه ليس بالشيء الجديد لدى راولز، فالكثير من مفكري مدرسة اوكسفورد في القرن الثامن عشر قد تناولوا الاسس الموضوعية التي تؤمن بين الحرية والمساواة للجميع، ولاسيما من المفكرين البريطانيين من المهتمين بقضايا الحرية والمساواة، خصوصًا في سياق الحركات الفلسفية والسياسية التي أثرت في عصر التنوير والثورة الصناعية امثال جون لوك وادم سميث وجيريمي بينثام، اذ يعد جون رولز امتداداً لهم في القرن العشرين .
ب- ويضيف محبوباني انه مالم تنعم نسبة 50% من مواطني الولايات المتحدة الأمريكية التي هي في القاع الاجتماعي، بالمساواة في الدخل فلا قيمة لمباديء الحرية او الديمقراطية التي تستند عليها.
و ينهي الدبلوماسي المذكور قوله، انه حان الوقت الذي ينبغي فيه ان تستيقظ الامة الامريكية لاعادة ترتيب اوضاعها في التغيير نحو الديمقراطية والمساواة معاً، ليصبح هناك معنى لصعود القوة والديمقراطية على معادلة خطية واحدة.
اي ان الجمع بين صعود القوة والديمقراطية على معادلة خطية واحدة يعني محاولة فهم العلاقة بين هذين المفهومين ضمن إطار متوازن يضمن تماسك النظام السياسي والاجتماعي.
ج -ختاماً، و لتحقيق هذا التوازن، يمكن استخدام نموذج فكري يجمع بين القوة (التي تمثل السلطة أو القدرة التنفيذية) مع الديمقراطية (التي تمثل مشاركة الشعب في الحكم والقرار). ولكن يبقى التساؤل هل النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية قادر على جعل القوة والديمقراطية جزءًا من معادلة خطية متسقة واحدة تضمن توازنًا ديناميكيًا بين التركيز والتنفيذ اللذان يعنيان (القوة والمشاركة)، والمساواة التي تعني (الديمقراطية) … في آن واحد !!!.
اضف تعليق