على القيادة السورية الجديدة ان لا تكون فوضوية او مؤدلجة وعاطفية في قراراتها ومواقفها، وان لا تتصور ان دعمها الخارجي الذي تراه اليوم بلا ثمن، بل عليها تقديم تنازلات كثيرة حول تصورها لنظام الحكم السوري القادم، وطريقة تعاطيها مع المصالح الخارجية المتقاطعة فوق الأرض السورية، كما أن عليها...
شهدت العاصمة السعودية الرياض يوم الاحد 12 كانون الثاني-يناير الجاري قمة وزارية استثنائية حول سوريا حضرها ممثلون عن دول مجلس التعاون الخليجي وسوريا والعراق ومصر ولبنان والاردن وتركيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة الامريكية واسبانيا، والاتحاد الأوروبي، إضافة الى غير بيدرسون المبعوث الاممي الخاص بسوريا ومحمد جاسم البديوي امين عام مجلس التعاون الخليجي واحمد أبو الغيط امين عام جامعة الدول العربية.
ولا تبرز أهمية هذه القمة من خلال دلالات عقدها فقط، وانما -أيضا- من خلال الرسائل التي كشفتها كلمات الوفود المشاركة؛ اذ عكست طبيعة اهتماماتها ومخاوفها بشأن تطورات الوضع السوري، وما يتوقعه كل طرف من القيادة السورية الجديدة.
ففي الوقت الذي اتفقت جميع الأطراف على مجموعة مشتركات بشأن سوريا مثل: ضرورة حماية وحدتها وسلامتها واستقلالها، ورفض الاعتداء على سيادتها او التجاوز على اراضيها، ومساعدة شعبها في إعادة اعمار بلاده والحد من الاثار القاسية الناجمة عن العقوبات الدولية والاحادية المفروضة عليه، وتحمله مسؤولية تقرير مصيره في المرحلة القادمة، الا ان هذه المشتركات لا تخفي حقيقة ان الدعم الإقليمي والدولي لسوريا الجديدة ليس بلا شروط، فهناك مخاوف ومصالح على القيادة السورية الجديدة مراعاتها واخذها بعين الاعتبار اذا ما ارادت الإبقاء على هذا الدعم الى النهاية.
فتركيا -اللاعب الأبرز في سوريا بعد سقوط الأسد- أظهرت من خلال كلمة وزير خارجيتها هاكان فيدان اهتمامها الواضح بأنشاء "آلية مشتركة لتنسيق الجهود من اجل مساعدة سوريا في إعادة الاعمار"، ولكنها بالمقابل شددت على ضرورة حل "قوات سوريا الديمقراطية -قسد" والتعاون مع البلدان العربية في تعزيز " قدرة السلطات السورية الجديدة على مكافحة تنظيم داعش"، مما يعني ان ملفي الاكراد والإرهاب سيكونان مطروحين بقوة على طاولة الحوار بين انقرة ودمشق في المستقبل، بل وسيحكمان على طبيعة ومستوى العلاقة بين الطرفين.
اما مصر ففي الوقت الذي أكد وزير خارجيتها بدر عبد العاطي على المشتركات المذكورة أعلاه، تجده ربط دعم بلاده بعدم تحول سوريا الى "مصدر لتهديد الاستقرار في المنطقة او مركز للجماعات الإرهابية"، ولذا دعا الى "أهمية تعاون كافة الأطراف الإقليمية والدولية في مكافحة الإرهاب، بحيث لا يتم إيواء أي عناصر إرهابية على الأرض السورية، بما قد يمثل تهديدا او استفزازا لأي من دول المنطقة".
هذا الخطاب المصري يعكس مخاوف القاهرة من تحول النظام في دمشق الى نظام إسلامي يحكمه الاخوان المسلمون على الطراز التركي او تحكمه الجماعات المتطرفة على طراز طالبان او داعش، وهي مخاوف بلا شك تتشاركها مع القاهرة بقية الدول العربية؛ لاعتقادها بان مثل هذا الامر في حال حصوله سيهدد أمن واستقرار حكوماتها، كما يهدد تماسكها الاجتماعي الداخلي. وعليه، ليس امام القيادة السورية الجديدة الا اخذ هذه المخاوف بالحسبان للحفاظ على الدعم العربي وتجنب التعرض الى عزلة ومقاطعة عربية تلحق بها اضرارا باهظة.
الاتحاد الأوربي من جانبه كانت مخاوفه حاضرة -أيضا- في القمة، ففي الوقت الذي دعت كايا كالاس الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي الى النظر في كيفية تخفيف العقوبات عن دمشق، فإنها ربطت ذلك بـ " تحقيق تقدم ملموس في عملية الانتقال السياسي التي تعكس سوريا بكل تنوعها"، مما يعني ان دمشق في مرحلتها الانتقالية عليها ان تضع في حسابها شمولية العملية السياسية لكافة الأطراف السورية، وصياغة دستور مدني يحافظ على حقوق وحريات جميع السوريين، بحيث تتجاوز أخطاء نظام الأسد والتنظيمات الإسلامية المتطرفة لتضمن دعم الغرب لها، ولهذا السبب لم تذهب أنالينا بيربوك وزيرة الخارجية الألمانية الى حد الدعوة الى رفع كامل العقوبات المفروضة على سوريا، بل طالبت بما اسمته " نهجا ذكيا" للعقوبات يضمن حصول " الشعب السوري على الإغاثة، وجني ثمار سريعة من انتقال السلطة".
إضافة الى ما تقدم، فان عدم حضور موسكو وطهران -اللاعبان الرئيسيان السابقان في سوريا الاسد- الى القمة يكشف طبيعة العلاقات القادمة التي ينبغي ان تركز عليها السلطة في دمشق، على مستوى التأثير والمصالح، اذ لن يكون مقبولا لا عربيا ولا دوليا عودة دمشق الى محور إيران-موسكو، فسوريا القادمة مطلوب منها ان تكون مختلفة في علاقاتها وارتباطاتها الإقليمية والدولية.
بكلمة أخيرة مختصرة: على القيادة السورية الجديدة ان لا تكون فوضوية او مؤدلجة وعاطفية في قراراتها ومواقفها، وان لا تتصور ان دعمها الخارجي الذي تراه اليوم بلا ثمن، بل عليها تقديم تنازلات كثيرة حول تصورها لنظام الحكم السوري القادم، وطريقة تعاطيها مع المصالح الخارجية المتقاطعة فوق الأرض السورية، كما أن عليها تهدئة مخاوف الأطراف الخارجية بإيجاد صيغة مناسبة للتوفيق بين مصالحها ومصالح هذه الأطراف، والا فان نشوتها بإسقاط الأسد قد تعقبها حسرة ومصاعب جمة وخطيرة في الأشهر والسنين القادمة.
اضف تعليق