ما من حرب كبيرة تضع أوزارها، حتى تعقبها حرب من نوع اخر، انها حرب الافكار والاسئلة والسجالات الفكرية والسياسية. اسئلة عن دوافع الحرب واهدافها وجدواها. سيتجادل القادة والزعماء والباحثون والكتاب ورجال الدين والناس العاديون عن ما حققته الحرب وما لم تحققه...

ما من حرب كبيرة تضع أوزارها، حتى تعقبها حرب من نوع اخر، انها حرب الافكار والاسئلة والسجالات الفكرية والسياسية. اسئلة عن دوافع الحرب واهدافها وجدواها. سيتجادل القادة والزعماء والباحثون والكتاب ورجال الدين والناس العاديون عن ما حققته الحرب وما لم تحققه. عن النجاح والاخفاق في التقديرات والخطط. عن المشروعية وعدم المشروعية.

عن النتائج المباشرة وغير المباشرة. ليس صعبا أن تعلن الحرب وتدخلها بكامل الاستعدادات، لكن الاصعب منها كيف تنهيها لصالحك وتخرج منها وقد حققت اهدافك الكبيرة والصغيرة، وحافظت على جبهتك الداخلية من التصدع، واقتصادك من الانهيار، ومشروعك الفكري والسياسي من الانكسار.

حروبنا الشرق الاوسطية كانت باهظة الكلف والنتائج، تفعل في النفوس ما لم تفعله تراكمات دهور وأزمان، ونتائجها في الغالب اندحارات وتضحيات جسام، وانهيارات سياسية وتراجعات فكرية. بعد حرب عام 1967 التي خسر فيها العرب سيناء والضفة الغربية والجولان وتحطم من جرائها المشروع القومي العربي، واهتزت الثقة بالأنظمة وتحالفاتها الخارجية، انطلق نقد واسع جريء من اتجاهين فكريين كانا يمارسان الجدل الفكري والسياسي، التيار اليساري العلماني العربي، الذي راح يحفر في الخطاب التعبوي والمنهج الفكري والبنية السياسية للأنظمة العربية، توغل بعدها في بنية التفكير والثقافة لينتهي إلى نتائج تنتصر لمنهجه (العلموي) في نقد الفكر الديني وتحميل الدين والخرافة الاجتماعية والأسطورة مسؤولية الهزيمة، ربما كان اشهر هذه (المحاكمات الفكرية) حينها، كتاب المفكر السوري صادق جلال العظم (في نقد الفكر الديني)، لم تكن المراجعة وقتها سوى تصفية حساب بين التيارات اليسارية والعلمانية العربية، وبين الانظمة والجمهور، الذي كان يصفق لها بغير وعي ولا عقل ناضج مستفيد من التجارب التاريخية ومتعلم من الواقع الموضوعي. في قبال الهجمة العلمانية، رد التيار الاسلامي على ما أسماه فشل الانظمة العربية وانهزامها امام العدو الصهيوني عازيا سبب الهزيمة إلى التبعية للاستعمار والانفصال عن العمق الديني والحضاري الاسلامي، والانسياق وراء الفكر (الغربي) المادي الذي انشأ الدول والانظمة السياسية التي لا تحكم بما انزل الله، وسأمت شعوبها القهر والاذلال، ولم تتمكن من انهاض المجتمعات والسير بها في طريق العلم والتنمية والاخلاقية الدينية القادرة على التعبئة والصمود والتضحية وتحقيق الانجاز في قبال (العصابات) الصهيونية، التي قاتلت بدعم غربي وعصبية دينية وخطاب فكري متماه مع الغرب الاستعماري فانتصرت على العرب، ربما كان اشهر كتاب لخص منطوق هذا الفكر منهجيا (الحلول المستوردة وكيف جنت على امتنا ) للشيخ يوسف القرضاوي، كان السجال معركة أيديولوجية بين تيارين، كلاهما يرى في الاخر سببا للنكوص والتخلف والهزيمة والضعف. وعلى هامش صراعهما كانت الانقلابات العسكرية وتبديل الأنظمة بأخرى غيرها، إلى جانب نشوء منظمات واحزاب سرية وعلنية كلها تدعو إلى التغيير والرد على الهزيمة والنكسة وإصلاح الحال المأزوم.

خمسة واربعون عاما هي الفترة التي اقتضتها مرحلة نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي منذ عام 1945 إلى انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، صادف ذلك اقليميا توقف الحرب العراقية الايرانية، ثم غزو صدام للكويت 1990 ونشوء مرحلة عربية - اسلامية مختلفة في تداعياتها ومآلاتها فكريا وسياسيا وعمليا.اليوم توقفت حرب غزة، أطول الحروب العربية الاسرائيلية بكلفة بشرية ومادية هي الأكبر والأضخم، وبتغيير استراتيجي في موازين القوى والتركيبة السياسية في المنطقة، مشروع المقاومة الاسلامي الذي انطلق عام 1979، وأكمل 45 عاما دخل مرحلة فقدان الوهج والجاذبية، حرب غزة ليست محطة نهاية فحسب، بل هي إعادة ترسيم لموازين القوى المحلية والاقليمية لكل اجزاء وحلقات هذا المشروع، حرب غزة هي آخر الحروب الكبرى في المنطقة، الأسئلة التي ستنطلق بعد هذا الحدث الكبير، لن تكون اقل من أسئلة ما بعد 1967، فقد أثبت النظام الدولي الذي يحتضن الكيان الاسرائيلي ويحميه بفضاضة، أنه مستعد لكسر متبنياته وشعاراته (الاخلاقية والحقوقية)، وأنه ماض في تحطيم وكسر أي مشروع لا يريد أن يعمل من داخل هذا النظام وشروطه، حل قضية الشعب الفلسطيني وتمكينه من حقوقه ممكن عبر آليات اشتغال النظام الدولي، وليس من خارجه، استعمال القوة لكسر هذا هذه القواعد التي يصنعها المتفوقون الكبار ليس من مسؤولية منظمات واحزاب وتيارات، في ظل ميزان قوى مختل اختلالا فاحشا، تستطيع الشعوب أن تصمد وتقاوم لكنها مضطرة إلى التعامل، وفق قواعد واليات هذا النظام لتعيش وتبنى نفسها وتلملم جراحها.أسئلة التفكير الجاد والمراجعة تنطلق بالتوازي مع بدء اعمال جرد التضحيات والخسائر وقراءة نتائج ما حصل، حقبة الدولة والمقاومة واجهت رفضا شرسا من النظام الإقليمي والدولي على حد سواء، المقاومة مكانها في اللا دولة، والدولة القائمة مهما كانت هشة وضعيفة لا تحتمل مقاومة ومنظمات تريد محاربة النظام الدولي، دولة المقاومة (المركز) لا تستطيع أن تستمر في اللعب على هامش قواعد المنظومة الدولية، فهذه قادرة أن تعيد الخارجين عليها والمهددين لها بأنيابها الحادة وقوانينها وعقوباتها وحصاراتها، عالم لا يعمل بالأخلاق، بل يعمل بالمصالح، فلا يجتمع المثال الأخلاقي بالواقع غير الأخلاقي، الأسئلة تبدأ من موقع الأخلاق والقوة والحق والمصلحة في عالم لا يتعامل الا بمنطق القوة. سنكون في بداية مرحلة فكرية-سياسية سيشتد فيها السجال بناء على تمخضات مفهومين ومصطلحين تولدا بعد مسار تجريبي طويل، المفهوم الأول ما بعد العلمانية والمفهوم الثاني ما بعد الإسلاموية، وسيكونان مدار التفكير والتنظير والجدل.

اضف تعليق