إن الفوضى التي تعصف بواقعنا اليوم أساسها أخلاقي كما ذكر مزالي، وما زال أخلاقيا وسيبقى، ما دام هناك من لم يفكر بمصلحة شعبه، ولم يدرك مدى خطورة ما يقوم به على مستقبل بلاده.. انتبهوا أيها السادة، فمركب السياسة يحتاج باستمرار إلى قباطنة محترفين وبالتأكيد إلى أصحاب بصر وبصيرة...

مطلع ثمانينيات القرن الماضي، نشرت مجلة (الوطن العربي) حوارا مع رئيس وزراء تونس الاسبق محمد مزالي، وقد تصدر الغلاف إلى جانب صورته، عنوان رئيس ما زال في ذاكرتي، لاسيما بعد أن قرأت الحوار كاملا وعرفت بالضبط ماذا كان يقصد.. والعنوان كما أتذكر يقول؛ هناك أزمة أخلاق في واقعنا العربي .. وقد فصّل مزالي قوله هذا في الحوار بأن مشكلة العرب تكمن في ان كل زعيم أو رئيس فيهم، وانقل هنا بالمعنى وليس بالنص، يريد أن يكون هو زعيم الأمة! 

وبعد أن تقدم بي العمر والوعي صرت ادرك عمق طرح المزالي هذا، والذي أكدته الوقائع بشكل يصعب تجاوزه، فالخلافات بين الحكام العرب، كان أغلبها ينطلق من اتهام بعضهم البعض الآخر بانه ضد الأمة ويعمل لغير مصلحتها وأنه يجب أن يتغير! 

الأمر الذي أبعدهم عن السعي لتوحيد نسبي للبلدان العربية، على المستوى الاقتصادي والأمني والسياسي ولو بحدود معينة، ودفعهم للسعي للإطاحة ببعضهم البعض، وهكذا انشغلت اجهزة مخابراتهم وتبددت الجهود والأموال من اجل قضايا يمكن وصفها بالتافهة، لأنها لا تعني الشعوب ولا تحقق لها أي شيء، بل إن بعضهم اصطدم بالبعض الآخر عسكريا أو جعلوا بلدانهم تعيش مناخ العداء، ونتيجة لذلك وجدوا أنفسهم لاحقا لقما سائغة لمن كان يتربص ببلدانهم ويسيطر عليها، ولعلنا اليوم نشهد نتيجة هذه الخلافات المدمرة، التي كان مصدرها الرئيس خللا أخلاقيا، كما قال محمد مزالي في حواره الذي أشرنا إليه.

اليوم وبعد ان باتت أراضي البلدان العربية مستباحة بشكل مهين ومخجل، كنتيجة لتلك السياسات التي لم تراع مصالح الشعوب، أخذت بعض الدول الاقليمية الدور القديم الذي لعبه الحكام العرب، وصرنا نسمع شعارات وطروحات تصدرها تلك الأنظمة فحواها أن كل واحد منها هو الممثل الشرعي والوحيد للمنطقة وهو المدافع عن حقوق شعوبها وصون استقلالها! 

وعلى وقع هذه الطروحات صرنا نشهد صراعات مدمرة بين تلك البلدان على أراضينا، وبأبنائنا وأموالنا وتحت شعارات عفا عليها الزمن، بينما بلداننا تتمزق وتتعادى وتتراجع إلى الوراء ونسيجها المجتمعي يتعرض لأبشع عملية تدمير ممنهج، بسبب تغالب وتكالب تلك الدول الطامعة في السيطرة عليها باسم العقائد الدينية والعلاقات العرقية، التي تربطها ببعض الجماعات فيها، ونقصد البلدان العربية.

لكن علينا ألا نصب غضبنا على تلك الدول وحدها، فنحن ايضا نتحمل المسؤولية، بدءا بما ذكرنا من خلافات بين الحكام العرب سابقا وما آلت إليه الأمور، وانتهاء بما نعيشه اليوم من استجابة البعض منّا لتلك الطروحات وتبنيها بدفع من رغبة هؤلاء في أن يكونوا في المشهد السياسي أو لتحقيق أهداف وأغراض جهوية ضيقة أو شخصية. 

لذا فإن الفوضى التي تعصف بواقعنا اليوم أساسها أخلاقي كما ذكر مزالي، وما زال أخلاقيا وسيبقى، ما دام هناك من لم يفكر بمصلحة شعبه، ولم يدرك مدى خطورة ما يقوم به على مستقبل بلاده.. انتبهوا أيها السادة، فمركب السياسة يحتاج باستمرار إلى قباطنة محترفين وبالتأكيد إلى أصحاب بصر وبصيرة لا سيما حين يكون الإبحار فيه وسط ليل الأطماع الإقليمية والدولية المرعبة التي نعيش مخاطرها اليوم! 

اضف تعليق