منهجَ الإمامِ الجوادِ في نشرِ العلمِ ومواجهةِ الفكرِ المعارضِ كانَ منهجًا يتسمُ بالحكمةِ والعمقِ والقدرةِ على التفاعلِ مع مختلفِ التياراتِ الفكريةِ والاجتماعيةِ. لقد أرسى الإمامُ قواعدَ علميةً راسخةً أظهرتْ عظمةَ فكرِ أهلِ البيتِ ودورهم في توجيهِ الأمةِ نحوَ الحقِّ، وأمام كل تلك المواقف التي واجهها استطاعَ الإمامُ أن يبني...

عندما نتحدَّث عن شخصية الإمامِ محمَّد الجواد (عليه السلام)، فإنَّ الحديثَ لا يمكنُ أن يكونَ على نفسِ مستوى الحديثِ عن أيِّ قائد أو عالم آخر؛ إذ إنَّ الحديث هنا ليس مجردَ سردٍ للأحداثِ والوقائع التي مرَّتْ على شخصه، كما قد يُحكى عن غيرِهِ من الأشخاصِ؛ بل إنَّ الحديثَ هنا يتطلَّبُ أن يكونَ بمقدارِ عظمَتِهِ ورفعةِ شأنِهِ؛ لأنَّ هذه الشخصيةَ تمثِّلُ الإنسانَ الكاملَ الذي تجسَّدَ فيه ما كانت تطمحُ إليه الرسالاتُ السماويَّةُ، والواقعُ إنَّ الحديثَ عنه هو في الواقعِ دعوةٌ للعودةِ إلى الهدى الإلهيِّ، الذي لا يمكنُ أن يضلَّ من سلكهُ، ولا يمكنُ أن يعكِّرَ صفوَ حياتِهِ.

إنَّ تراثَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) يمثِّلُ مدرسةً عظيمةً غنيةً بكلِّ أنواعِ المعرفةِ الإسلاميةِ، ضمَّتْ بين طيَّاتها أسمى القيمِ والعلومِ التي تهدفُ إلى توجيهِ الإنسانِ نحو الكمالِ الروحيّ والعقليّ، ولقد استطاعتْ هذه المدرسةُ العريقةُ أن تحفظَ هذا التراثَ من الضياعِ، وتؤثِّرَ في العديدِ من التوجهات والمذاهب الفكرية على مرِّ العصور؛ لأنَّه كانَ منهجًا كاملاً يعالجُ قضايا الحياةِ بشكلٍ شامل وعميقٍ، بدءً من المعرفةِ باللهِ (تعالى)، وصولًا إلى أساليبِ تربيةِ النفوسِ وتزكيتها، ولم تقتصرْ تأثيراتُ هذه المدرسة على الحاضرة الإسلامية فحسب، بل امتدت إلى الفكر الإسلامي خارج نطاقها؛ وقد كانت، وما زالت، وستبقى نبراسًا يضيء للآخرين كلَّ مجالات حياتهم.

عاصرَ الإمامُ (عليه السلام) خليفتينِ عباسيينِ هما المأمونُ (193-218هـ) والمعتصمُ (218-227هـ)، وشهدَ في خلافةِ المأمونِ الأحداثَ الجسامَ التي تمثَّلتْ بتوليةِ والدهِ الإمامِ الرضا (عليه السلام) ولايةَ العهدِ من قبلِ المأمونِ وغدرِ الأخيرِ بالإمامِ الرضا (عليه السلام) واغتيالِه وما رافقَ ذلك من قيامِ الإمامِ الجوادِ (عليه السلام) بمسؤوليةِ قيادةِ الأمةِ بالرغمِ من صغرِ سنِّه مما ألفت إليه أنظار السلطة العباسية التي رأتْ فيه امتدادًا لإمامةِ آبائهِ وأجدادِه (عليهم السلام) فحرصتْ على أن يبقى تحتَ أنظارِها ومراقبتِها.

إنَّ أحدَ الجوانبِ البارزةِ في حياةِ أئمتِنا (عليهم السلام) هو الجانبُ العلميُّ، حيث كانَ لكلِّ إمامٍ دورٌ كبيرٌ في نشرِ العلمِ وتربيةِ الأجيالِ وفقَ منهجِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، ولقد كانتْ مدرستُهم العلميةُ بمثابةِ مشعلٍ يهدي الباحثينَ عن الحقِّ والنورِ، حيث كانَ الأئمةُ (عليهم السلام) يربونَ شخصياتٍ علميةً رفيعةً ويبعثونَ في المجتمعِ العلومَ والمعارفَ التي تبني الفكرَ الإسلاميَّ الصحيحَ، ومع ذلك، كانَ لكلِّ إمامٍ ظروفُه الاجتماعيةُ والسياسيةُ الخاصةُ التي أثَّرتْ في مستوى نشاطِه العلميِّ؛ ففي عهدِ الإمامِ الباقرِ (عليه السلام) والإمامِ الصادقِ (عليه السلام)، كانتْ الظروفُ السياسيةُ والاجتماعيةُ أكثرَ استقرارًا نسبيًا مقارنةً بفتراتٍ أخرى، مما أتاحَ لهما مساحةً كبيرةً لنشرِ العلمِ وتعليمِ تلاميذِهم؛ بل إنَّ الإمامَ الصادقَ (عليه السلام) كانَ له عددٌ كبيرٌ من التلامذة بلغَ أربعةَ آلافِ شخصٍ، وقد تميزتْ هذه المرحلةُ بانتشارِ علومِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) بشكلٍ واسعٍ، ولكن بعدَ ذلك تقلصتْ الأنشطةُ العلميةُ بشكلٍ كبيرٍ في العهودِ التاليةِ، خاصةً في عهدِ الإمامِ الجوادِ (عليه السلام) والإمامِ العسكريِّ (عليه السلام)، بسببِ الضغوطِ السياسيةِ والرقابةِ المشددةِ من قبلِ الحكوماتِ الحاكمةِ؛ فقد كانَ الإمامُ الجوادُ (عليه السلام) محاطًا برقابةٍ شديدةٍ على جميعِ أعمالِه، مما أثرَّ في عددِ تلاميذِه الذين بلغوا حوالي مائة وعشرة، مقارنةً بالعهدِ السابقِ، ومع وجودِ هذه الصعوباتِ، فقد استمرَّ الإمام الجواد (عليه السلام) في أداء رسالتِه العلميةِ غير مُكترث بالقيودِ التي فرضها العصرُ الذي عاشَ فيه.

لقد كانتْ حياةُ الإمامِ الجوادِ (عليه السلام) مليئةً بالمشاكل السياسيةِ والاجتماعيةِ التي جعلتْ من مهمَّتِه صعبةً للغايةِ، ومع مرورِ الزمنِ، ثبتَ للجميعِ أنَّ العلمَ الذي بثَّهُ في الأمةِ كانَ حجرَ الزاويةِ في بناءِ الفكرِ الإسلاميِّ الصحيحِ الذي حافظَ على جذورِ علمِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) عبرَ الأجيالِ، ولقد ساهمَ الإمامُ الجوادُ (عليه السلام) طيلةَ فترةِ إمامتهِ في إغناءِ مدرسةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) العلميةِ وحفظِ تراثِها الثمينِ، وتركيزِ جهوده لنقلِ معارفِها وتوسيعِها عبر أجيال الأمة الإسلامية، وقد تميزتْ المدرسةُ الجواديةُ باتباع منهج علمي قائم على النُّصوصِ والرواياتِ المأخوذة عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيتهِ الأطهار الطَّاهرينَ (عليهم السلام)، مما جعلَها صامدة أمامَ التحريفِ والتغييرِ الذي قد يطالُ المعارفَ الإسلاميةَ. 

اعتمدَ الإمامُ الجوادُ (عليه السلام) في منهجِه العلميِّ على عدةِ أساليبَ، ومن أبرزِ هذه الأساليب:

1. إعداد نخبة من العلماء:

 كانَ الإمامُ الجوادُ (عليه السلام) يولي اهتمامًا خاصًا لتعليمِ وتدريبِ العلماءِ والفقهاءِ، فكانَ لديه تلامذةٌ ينقلونَ علومَه وتفسيراتهِ، وبالرغمِ من الظروفِ السياسيةِ التي كانتْ تحيطُ به، فقد استطاعَ أن يُخرجَ أجيالًا من العلماءِ الذين كانوا يحملونَ علمَه ويعملونَ على نشرهِ؛ وكانَ كلُّ واحدٍ منهم يملكُ مكانةً رفيعةً في دائرةِ الفقهِ والعلمِ؛ ومن أبرزِ هؤلاءِ الرواةِ: عليُّ بنُ مهزيارِ، وزكريا بنُ آدمَ، والحسينُ بنُ سعيدٍ الأهوازيِّ، وغيرهم الكثيرِ، وكانَ جميعُ هؤلاءِ العلماء يتمتعونَ بمكانة علمية مرموقة، حيث تميزوا بقدرتهم على نقلِ وتفسيرِ الأحاديثِ بدقةٍ، وحرصهم على نشرِ العلمِ وتوضيحِ معانيهِ، بكلماتهم ومؤلفاتهم.

2. أسلوب المناظرة والحوار:

 كانَ من أبرز الأساليب التي انتهجَها الإمامُ الجوادُ (عليه السلام) لتفعيلِ دورِه العلمي والدِّيني؛ وقد اعتمد هذا الأسلوب بشكل رئيسي نتيجة الظروف السياسية والفكرية التي أحاطت به، فقد كانتْ إمامتهُ (عليه السلام) محلَّ شكٍّ لبعضِ الشيعةِ بسببِ حداثةِ سنِّه، حيث اعتقدَ البعضُ أنَّ عمرهُ لا يؤهلهُ لتوليِّ هذا المقامِ الرفيعِ؛ ولهذا السببِ، طلبَ هؤلاءِ بالإضافة للسلطة الحاكمة في ذلك الوقت عقدَ مجالس ومناظرات علميةٍ مع الإمامِ الجوادِ (عليه السلام)، ليطلعوا على ما يحملُ من علمٍ إلهيٍّ راسخٍ، وليكونَ ذلكَ اختبارًا يطمئنُهم حولَ صحةِ إمامتهِ وقدرتهِ على تحملِ أعباءِ هذا المنصبِ من ناحيةٍ أخرى، يضاف إلى ذلك أنَّ تلك الفترة كانتْ تشهدُ توسُّعًا ملحوظًا في نفوذِ المعتزلةِ، وهي إحدى المدارسِ الفكريةِ التي ازدهرتْ في تلكَ الحقبةِ، وكانتْ المعتزلةُ تعتمدُ على العقلِ في تفسيرِ الدينِ وطرحِ الآراءِ الفلسفيةِ التي أحيانًا تتعارضُ مع بعضِ المبادئِ الأساسيةِ للدِّين الإسلاميِّ، وكانَ الجهازُ الحاكمُ في تلكَ الفترةِ يدعمُ هذه المدرسةَ الفكريةَ، مما جعلَها قوةً فكريةً مسيطرةً ومؤثرةً في الساحةِ الفكريةِ والسياسيةِ،

وبناءً على هذه الظروفِ كانَ الإمامُ الجوادُ (عليه السلام) يواجهُ تحديات علميةً وفكريةً كبيرةً، وقد خاضَ العديدَ من المناظراتِ مع مختلفِ الفرقِ الفكريةِ، بما فيها المعتزلة، لإثباتِ علمهِ وقوةِ حجتِه، وأيضًا لإظهارِ المكانةِ الإلهيةِ التي منحها اللهُ (تعالى) له كإمامٍ معصومٍ، وهذه المناظراتُ كانتْ فرصةً للإمامِ ليؤكدَ للناسِ بطلانَ الشكوكِ التي كانتْ تحومُ حولَ إمامتهِ بسبب صغر سنه، ويبرهنُ على علمهِ الغزيرِ الذي فاقَ كلَّ التوقعاتِ.

ولقد شكلتْ هذه المناظراتُ ميدانًا علميًا وفكريًا متقدمًا، حيث كانَ الإمامُ الجوادُ (عليه السلام) يقدِّمُ الحجج القاطعة التي تُسكتُ خصومَه وتثبتُ للجميعِ أنَّ علمَ الإمامِ ليس مرتبطًا بالعمرِ، بل هو علمٌ إلهيٌّ يُستمدُّ مباشرةً من اللهِ (تعالى)، وأنَّ مقامَ الإمامةِ هو تكليفٌ إلهيٌّ وليس متوقفًا على أيِّ معيارٍ بشريٍّ؛ ومما روي أنَّه" رَجَعَ ابْنُ أَبِي دُوَادٍ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ عِنْدِ المُعْتَصِمِ وَهُوَ مُغْتَمٌّ، فَقُلْتُ لَهُ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: لِمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْأَسْوَدِ (أي أبي جعفر الجواد عليه السلام) بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ.

 قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟ 

قَالَ: إِنَّ سَارِقاً أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ وَسَأَلَ الْخَلِيفَةَ تَطْهِيرَهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ لِذَلِكَ الْفُقَهَاءَ فِي مَجْلِسِهِ وَقَدْ أَحْضَرَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، فَسَأَلَنَا عَنِ الْقَطْعِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ يَجِبُ أَنْ يُقْطَعَ؟ 

قَالَ: فَقُلْتُ مِنَ الْكُرْسُوع (أي المفصل بين الكف والذراع).

قَالَ: قُلْتُ: لِأَنَّ الْيَدَ هِيَ الْأَصَابِعُ وَالْكَفُّ إِلَى الْكُرْسُوعِ لِقَوْلِ اللهِ فِي التَّيَمُّمِ:( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ).

وَاتَّفَقَ مَعِي عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ مِنَ الْمِرْفَقِ. 

قَالَ: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟ 

قَالُوا: لِأَنَّ اللهَ لَمَّا قَالَ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ فدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْيَدِ هُوَ الْمِرْفَقُ. 

فَالْتَفَتَ المعتصم إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا يَا أَبَا جَعْفَرٍ؟

فَقَالَ: قَدْ تَكَلَّمَ الْقَوْمُ فِيهِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.

 قَالَ: دَعْنِي مِمَّا تَكَلَّمُوا بِهِ، أَيُّ شَيْءٍ عِنْدَكَ؟

 قَالَ: أَعْفِنِي عَنْ هَذَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.

 قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِاللهِ لَمَّا أَخْبَرْتَ بِمَا عِنْدَكَ فِيهِ.

 فَقَالَ: أَمَّا إِذَا أَقْسَمْتَ عَلَيَّ بِاللهِ إِنِّي أَقُولُ: إِنَّهُمْ أَخْطَؤُوا فِيهِ السُّنَّةَ، فَإِنَّ الْقَطْعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَفْصِلِ أُصُولِ الْأَصَابِعِ فَيُتْرَكُ الْكَفُّ.

 قَالَ: وَمَا الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ؟

قَالَ: قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله:" السُّجُودُ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ"؛ فَإِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ مِنَ الْكُرْسُوعِ أَوِ الْمِرْفَقِ لَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ يَسْجُدُ عَلَيْهَا، وَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىّ: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)؛ يَعْنِي بِهِ هَذَا الْأَعْضَاءَ السَّبْعَةَ الَّتِي يُسْجَدُ عَلَيْهَا فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً وَمَا كَانَ للهِ لَمْ يُقْطَع.

قَالَ: فَأَعْجَبَ المُعْتَصِمَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ مَفْصِلِ الْأَصَابِعِ دُونَ الْكَفِّ.

(قَالَ ابْنُ أَبِي دُوَادٍ) قَامَتْ قِيَامَتِي وَتَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُ حَيًّا.

(قَالَ): ثم صِرْتُ إِلَى المُعْتَصِمِ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ نَصِيحَةَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيَّ وَاجِبَةٌ وَأَنَا أُكَلِّمُهُ بِمَا أَعْلَمُ أَنِّي أَدْخُلُ بِهِ النَّارَ.

 قَالَ: وَمَا هُوَ؟

 قُلْتُ: إِذَا جَمَعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ فِي مَجْلِسِهِ فُقَهَاءَ رَعِيَّتِهِ وَعُلَمَاءَهُمْ لِأَمْرٍ وَاقِعٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَسَأَلَهُمْ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ أَهْلُ بَيْتِهِ وَقُوَّادُهُ وَوُزَرَاؤُهُ وَكُتَّابُهُ، وَقَدْ تَسَامَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ مِنْ وَرَاءِ بَابِهِ، ثُمَّ يَتْرُكُ أَقَاوِيلَهُمْ كُلَّهُمْ لِقَوْلِ رَجُلٍ يَقُولُ شَطْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِإِمَامَتِهِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْهُ بِمَقَامِهِ ثُمَّ يَحْكُمُ بِحُكْمِهِ دُونَ حُكْمِ الْفُقَهَاءِ!! (قَالَ) فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَانْتَبَهَ لِمَا نَبَّهْتُهُ لَهُ وَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ عَنْ نَصِيحَتِكَ خَيْراً..."(1).

وهناكَ الكثيرُ مما لا يسعهُ هذا المقامُ من المناظراتِ التي أُحضِروا فيها مما لا يُنكرُ عليه علمُه ومعرفتُه إلَّا أنَّه لم يُثبتْ أمامَ سيلِ العلمِ والمعرفةِ الذي كان ينهالُ من الإمامِ الجوادِ (عليه السلام) (2).

3. تعيين الوكلاء ونشرهم:

 لقد كانَ الإمامُ واعيًا بأهميةِ وجودِ شبكةٍ من الوكلاءِ في مختلفِ المناطق الإسلاميةِ لتوصيلِ علومِ آلِ محمَّدٍ (صلوات الله عليهم) وتبليغِ أحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ للناسِ، كما كانَ (عليه السلام) يُرسلُ هؤلاءِ الوكلاءَ إلى العديدِ من المدنِ والأقاليمِ، حيث كانَ لهم دورٌ كبيرٌ في نشرِ الفكرِ الشيعيِّ وتعليمِ الناسِ معاني الإسلامِ بشكلٍ دقيقٍ ومستنيرٍ، وكانتْ للمراسلاتِ بينَ الإمامِ الجوادِ (عليه السلام) ووكلائِه أهميةٌ كبيرةٌ، إذ كانتْ تمثلُ رابطًا مباشرًا بينَ الإمامِ وأتباعِه في مختلفِ أنحاءِ العالمِ الإسلاميِّ، وهذه الوكالاتُ التي انتشرتْ في أماكنَ مثلَ الأهوازِ، وهمدانِ، وسيستانِ، والريِّ، والبصرةِ، وواسطٍ، وبغدادِ، والكوفةِ، وقمِّ، كانتْ تحملُ مسؤولياتٍ كبيرةً في نشرِ الوعيِ الفقهيِّ والعقائديِّ، ونقلِ علومِ الإمامِ الجوادِ (عليه السلام).

علاوة على ذلك نجدُ أنَّ الإمامَ الجوادَ (عليه السلام) كانَ يسمحُ لأتباعِه بالانخراطِ في الجهازِ الحاكمِ في تلكَ الفتراتِ، ويتقلدونَ المناصبَ الحساسةَ في مختلفِ المدنِ، وكانت هذه الخطوة تمثلُ جزءًا من استراتيجيةِ الإمامِ في تقويةِ نفوذِ الشيعةِ في مجتمعاتِهم، وكذلك تأكيدًا على قدرةِ أتباعِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) على القيامِ بأدوار قياديةٍ في الدولةِ الإسلاميةِ؛ ولعلَّ فلسفة وجود هكذا شبكة واسعة من الوكلاءِ والمناصرينَ كانتْ جزءًا من جهودِ الإمامِ الجوادِ (عليه السلام) لبناءِ هيكلٍ علميٍّ ودينيٍّ يتجاوزُ الحدودَ الجغرافيةَ، ويؤكدُ على أهميةِ العلمِ والإيمانِ في تشكيلِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ المتوازنةِ(3).

وبعد هذا الاستعراض السريع يمكننا القول: إنَّ منهجَ الإمامِ الجوادِ (عليه السلام) في نشرِ العلمِ ومواجهةِ الفكرِ المعارضِ كانَ منهجًا يتسمُ بالحكمةِ والعمقِ والقدرةِ على التفاعلِ مع مختلفِ التياراتِ الفكريةِ والاجتماعيةِ.

 لقد أرسى الإمامُ قواعدَ علميةً راسخةً أظهرتْ عظمةَ فكرِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) ودورهم في توجيهِ الأمةِ نحوَ الحقِّ، وأمام كل تلك المواقف التي واجهها استطاعَ الإمامُ أن يبنيَ مدرسةً علميةً وفكريةً، مؤكدًا أنَّ العلمَ والتقوى هما سلاحانِ لا يُقهرانِ في مواجهةِ الضلالِ والانحرافِ، ولقد كانتْ حياتُهُ الشريفةُ مثالًا يُحتذى بهِ في الصبرِ والإبداعِ الفكريِّ، لتظلَّ سيرتُهُ مصدرَ إلهام للأجيالِ الساعيةِ نحوَ الكمالِ الإنسانيِّ.

.........................................

الهوامش:

1- بحار الأنوار: ج 50، ص 5 - 7.

2 – الارشاد: ج2، ص281.

3- للمزيد راجع: مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، جامعة بابل، العدد:22، آب/2015م.

اضف تعليق