يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: "اعرف الحق لمن عرفه لك، رفيعاً كان أو وضيعاً"، كل من سار في الدرب المضيء استشعر الراحة النفسية والاطمئنان القلبي، فهو يسير على هدى وصراط مستقيم. يعرف من أين؟ والى أين؟ بينما في الحالة المناقضة، فان السائر يخيم عليه الخوف من كل شيء، فهو في حالة عدم استقرار وفقدان للثقة بأي شيء قريب منه. وبقدر إضاءة الدرب، كانت الرؤية أدق وأعمق، والعكس بالعكس قطعاً. وهنا تحدث الانتكاسات والانحرافات والاهوال.
واذا كانت هذه المعادلة تصدق على الاشياء في الحياة، فانها تصدق بقدر كبير على العلاقات بين بني البشر، ولاسيما بين الفئة المؤثرة والاخرى المتأثرة في المجتمع، فقد انتصرت ثورات وحصلت تحولات كبرى في العالم بفضل العلاقة المتوازنة بين الشعوب من جهة وقادتها ونخبتها المثقفة من جهة اخرى. فالشعوب تنتفض وتقاوم ثم تضحي بالاموال والانفس، بموازاة تخطيط وتدبير ثم تقدم المسيرة بشجاعة من قبل النخبة، حتى تكون التضحية في احيان كثيرة، هو الملتقى الذي يولد التغيير الكبير.
لنأت بمثال من الهند – وإمثالنا الثورة دائماً من هناك...!- كيف تعرّف الشعب الهندي في ذلك الوقت، حيث لا مواقع تواصل اجتماعي ولا وسائل اتصال حديثة، إنما شعب معدم بالكاد يستر جسمه من العري ويسد جوعه بكسرة خبز، ثم يخلق تلك المسيرة البشرية الطويلة فيما يعرف بـ"مسيرة الملح"، ومنها تعلّم كيف يستعيد كرامته ولقمة عيشه؟
نحن في العراق، ليس فقط عندما وسائل التواصل الاجتماعي، والامكانات المادية والتقنية للتواصل والاستعلام، إنما لدينا خزين هائل الحكم والعبر والدروس التي تركها لنا معلموا الانسانية، من امثال الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، الذي صدرنا المقال بقبس من حكمه المضيئة، جاء في الكتاب الفاخر "تحف العقول"، من وصاياه الى ابنه الامام الحسن، عليه السلام. بأن "اعرف الحق لمن عرفه لك، رفيعاً كان وضيعاً"، فالمقياس والفنار الهادي، هو الحق، وليس شيئاً غيره، مع ذلك نلاحظ من جملة النقاط المظلمة التي تتعقد فيه المشاكل والازمات في العراق، حالة التباعد بين الجماهير والطبقة الحاكمة، وحتى بينها وبين النخبة المثقفة. وهذا يسبب صدور الاحكام المتسرعة وفقدان الثقة واليأس من كل شيء، ليس لعدم وجود منجز ملموس، إنما المشكلة في عدم وجود الرؤية الصحيحة والمعيار الثابت، لذا فان مفتاح الحل لا يثبت في يد واحدة، إنما تنتقل في أيدٍ متعددة، تارةً تكون عند من يبذل الاموال والامتيازات والمناصب، وتارةً تكون لدى طرف خارجي مؤثر، وقبل ذلك، نلاحظه يكون في جهة او مؤسسة دينية، فتكون الانظار متحولة هنا وهناك على أمل الحل، ولا حل...! لان هذا المفتاح (الرؤية والمعيار) ليس من نتاج الشعب والجماهير، إنما هو جاهز ومعد خارج ارادتها، ولا أدلّ على ذلك من تغير الموقف الجماهيري من هذا وذاك، وإلا من كان يتصور أن تكون ايران، التي كان أنصارها يخفون تأييدهم لها في السنوات الماضية، تكون بين ليلة وضحاها من رموز الأمل والقدوة التي يجب ان يحتذى بها في كثير من الامور؟!.
من أجل أطلق الامام علي، عليه السلام، مقولته الشهيرة: "اعرف الحق تعرف أهله" لينقذ ابناء جيله من "الجهالة وحيرة الضلالة"، ولا يختلط عليهم الأمر وينزلقون نحو الباطل بظنهم أنهم صوب الحق، وهو ما حدث فعلاً، فهل نحن معتبرون....؟!
ورب سائل يثور بسؤاله عن كيفية معرفة الحق والنجاة بنفسه من الشك والزيف؟
ان الخطوات في هذا الطريق ليس مما يبتكره شخصٌ الآن، إنما هي استحضار لتجارب ثرية من التاريخ، وما أروع ما نقرأه من اصحاب النبي الأكرم واصحاب الامام علي واصحاب الامام الحسين، عليهما السلام، وهم أناس عاديون وغير معصومين، مثل أبو ذر، ومحمد بن أبي بكر، والحر، واختيارنا لهذه الاسماء، مقصود جداً، كون هؤلاء وغيرهم كثير، انطلقوا من أجواء لم تقدم لهم الرشاد على طبق من ذهب، لذا سعوا اليه سعياً حثيثاً، بل وضحوا من اجلها، حتى بلغو مرتبة المعرفة الحقيقية والتامة، ومنها نالوا مرتبة "الصحابة"، فتركوا بصماتهم في المجتمع والامة، في زمانهم وعلى مر الاجيال.
لذا لابد من السعي والبحث عن المعرفة، فهي مثل "الـحكمة ضالة المؤمن"، لابد من استخراجها من كل مكان، كما اشار الى ذلك أمير المؤمنين، عليه السلام، وهذا يجنب الناس الخطأ في الاحكام عن هذا وذاك، كما يسهّل عملية تحميل المسؤولية للمعني بالامر ومن بيده الحل والعقد، وهذا ممكن جداً من خلال المتابعة والمسائلة المستمرة بواسطة منظمات المجتمع المدني والتشكيلات والفعاليات التي نراها تنشط في تنظيم التظاهرات الجماهيرية العارمة، فكما تنجح هذه التظاهرات في إيصال صوت الاعتراض والمطالبة الى آذان المسؤول في الوزارة او المحافظة او غيرها، فهي قادرة ايضاً على نقل المعلومة الصحيحة من المسؤول الى آذان الناس وإغنائهم بالمعرفة والثقافة الحيّة التي تمكنهم من الاختيار الصحيح وفق المعلومة الصحيحة، فان كان حقّاً كانوا معه، وإن كان مشوباً بالباطل والانحراف تجنبوه. ولنا في حديث آخر للامام علي، عليه السلام، درساً بليغاً حيث يقول: "...وأيم الله لأبقرن الباطل حتى استخرج الحق من خاصرته"!.
وهنا تحديداً يكون الشعب في حالة انتاج للموقف الصحيح، وليس المنتظر لمن ينصفه ويكون الأكثر نزاهة ونظافة وعطاءً و...! وهذا يجعل الدولة ومؤسساتها، تقف دائماً في حالة الحذر والحيطة من هكذا شعب، قبل أن تفكر بأي خطوة بالاتجاه الخاطئ في حقه، بل تسعى لأن توفق ما بين توجهاتها ومسارها، وبين مسار هذا الشعب اليقظ الذي لا يصحو على المفاجآت والشائعات.
اضف تعليق